فلما كانت الليلة ٨٥٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحدَّاد لمَّا أخبر زين المواصف بكلام القاضي، وأنه يريد حضورَهن لديه وإقامة الدعوة بين يدَيْه، ويقتصُّ لهن من غريمهن حتى يخلِّص لهن حقهن، قالت للحدَّاد: كيف نروح إليه والباب مغلوق علينا، والقيود في أرجلنا، والمفاتيح مع اليهودي؟ قال لهن الحدَّاد: أنا أعمل للأقفال مفاتيح وأفتح بها الباب والقيود. قالت: فمَن يعرِّفنا بيت القاضي؟ فقال الحداد: أنا أصِفُه لَكُنَّ. فقالت زين المواصف: وكيف نمضي عند القاضي ونحن لابسات ثياب الشَّعْر المبخَّرة بالكبريت؟ فقال لهن الحداد: إن القاضي لا يَعِيبكنَّ وأنتنَّ في هذه الحالة. ثم نهض الحدَّاد من وقته وساعته وصنع مفاتيح للأقفال، ثم فتح الباب وفتح القيود وحلَّها من أرجلهن وأخرجهن ودلَّهن على بيت القاضي.
ثم إن جاريتها هبوب نزعت ما كان على سيدتها من الثياب الشَّعْر، وذهبت بها إلى الحمَّام وغسلتها وألبستها ثيابَ الحرير، فرجع لونها إليها، ومن تمام السعادة أن زوجها كان في وليمةٍ عند بعض التجار، فتزيَّنَتْ زين المواصف بأحسن الزينة ومضَتْ إلى بيت القاضي، فلما نظرها القاضي وقف قائمًا على قدمَيْه، فسلَّمَتْ عليه بعذوبةِ كلامٍ وحلاوةِ ألفاظ، ورشَقَتْه في ضمن ذلك بسِهام الألحاظ، وقالت له: أدامَ الله مولانا القاضي، وأيَّدَ به المتقاضي. ثم أخبرته بأمر الحدَّاد وما فعل معها من فعل الأجواد، وبما صنع بها اليهودي من العذاب الذي يُدهِش الألباب، وأخبرته أنه قد زاد بهن الهلاك، ولم يَجِدْنَ لهنَّ مِن فَكَاك. فقال القاضي: يا جارية، ما اسمك؟ قالت: اسمي زين المواصف، وجاريتي هذه اسمها هبوب. فقال لها القاضي: إن اسمك وافَقَ مُسمَّاه، وطابَقَ لفظُه معناه. فتبسَّمَتْ ولفَّتْ وجهها، فقال لها القاضي: يا زين المواصف، ألَكِ بعْلٌ أم لا؟ قالت: ما لي بعل. قال: وما دِينُكِ؟ قالت: دِيني الإسلام ومِلَّة خير الأنام. فقال لها: أقسمي بالشريعة ذات الآيات والعِبَر، أنك على مِلَّة خير البشر. فأقسمت له وتشهَّدَتْ، فقال لها القاضي: كيف انقضى شَبابك مع هذا اليهودي؟ فقالت له: اعلم أيها القاضي أدامَ الله أيامك بالتراضي، وبلغك آمالك وختم بالصالحات أعمالك، أنَّ أبي خلف لي بعدَ وفاته خمسةَ عشرَ ألف دينار، وجعلها في يد هذا اليهودي ليتَّجِر فيها، والكسب بينَنا وبينه، ورأسُ المال ثابتٌ بالبيِّنة الشرعية، فعندما مات أبي طمع اليهودي فيَّ وطلبني من أمي ليتزوَّجَ بي، فقالت له أمي: كيف أُخرِجها من دِينها وأجعلها يهودية؟ فوالله لَأعرِّفن الدولةَ بك. فخاف ذلك اليهودي من كلامها وأخذ المال وهرب إلى مدينة عدن، وعندما سمعنا به أنه في مدينة عدن جئنا في طلبه، فلما اجتمعنا عليه في تلك المدينة، ذكر لنا أنه يتاجر في البضائع ويشتري بضاعةً بعدَ بضاعةٍ فصدَّقناه، ولم يزل يخادعنا حتى حبَسَنا وقيَّدَنا وعذَّبَنا أشدَّ العذاب، ونحن غرباء وما لنا معين إلا الله تعالى ومولانا القاضي.
فلما سمع القاضي هذه الحكاية قال لجاريتها هبوب: هل هذه سيدتك وأنتنَّ غرباء وليس لها بَعْل؟ قالت: نعم. قال: زوِّجيني بها وأنا يلزمني العِتق والصيام والحج والصدقة إنْ لم أخلِّص لكُنَّ حقَّكنَّ من هذا الكلب، بعد أن أجازيه بما فعل. فقالت هبوب: لك السمع والطاعة. فقال القاضي: روحي طيِّبي قلبك وقلب سيدتك، وفي غدٍ إن شاء الله تعالى أُرسِل إلى هذا الكافر وأخلِّص لكُنَّ حقَّكنَّ منه، وتنظرين العجب في عذابه. فدعَتْ له الجارية وانصرفت من عنده وخلَّته في كرب وهيام، وشوق وغرام. وبعد أن انصرفت من عنده هي وسيدتها، سألَتَا عن دار القاضي الثاني فدلُّوهما عليه، فلما حضرَتَا لديه أعلمتاه بذلك، وكذلك الثالث والرابع، حتى رفعت أمرها إلى القضاة الأربعة، وكل واحد يسألها أن تتزوَّج به، فتقول له: نعم. ولم يعرف بعضهم خبرَ بعضٍ، فصار كل واحد يطمع فيها، ولم يعلم اليهودي بشيء من ذلك؛ لأنه في دار الوليمة.
فلما أصبح الصباح نهضَتْ جاريتها وأفرغَتْ عليها حُلَّة من أفخر الملابس، ودخلت بها على القضاة الأربعة في مجلس الحكم، فلما رأت القضاةَ حاضرين أسفَرَتْ عن وجهها، ورفعت قِناعَها، وسلَّمَتْ عليهم، فردوا عليها السلام وعرَفَها كلُّ واحدٍ منهم، وكان أحدهم يكتب فوقع القلم من يده، وأحدهم كان يتحدَّث فتلجلج لسانه، وأحدهم كان يحسب فغلط في حسابه، فعند ذلك قالوا لها: يا ظريفة الخصال، لا يكن قلبك إلا طيبًا، فلا بد من أن نخلِّص لك حقك ونبلِّغك مرادك. فدعَتْ لهم، ثم ودَّعَتْهم وانصرفت. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.