فلما كانت الليلة ٨٥٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن القضاة قالوا لزين المواصف: يا ظريفة الخصال وبديعة الجمال، لا يكن قلبك إلا طيبًا بقضاء غرضك وبلوغ مرادك. فدعَتْ لهم، ثم ودَّعَتْهم وانصرفت. هذا كله واليهودي مقيم عند أصحابه في الوليمة، وليس له علم بذلك، وصارت زين المواصف تدعو وُلاةَ الأحكام وأرباب الأقلام لينصروها على هذا الكافر المرتاب، ويخلِّصوها من أليم العذاب. ثم بكت وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إنها كتبَتْ كتابًا يتضمَّن جميعَ ما عمله معها اليهودي من الأول إلى الآخر، وسطَّرَتْ فيه الأشعار، ثم طوَتِ الكتابَ وناولَتْه لجاريتها هبوب وقالت لها: احفظي هذا الكتاب في جيبك حتى نرسله إلى مسرور. فبينما هما كذلك وإذا باليهودي قد دخل عليهما، فرآهما فرحانتين فقال: ما لي أراكما فرحانتين؟ هل جاءكما كتاب من عند صديقكما مسرور؟ فقالت له زين المواصف: نحن ما لنا معين عليك إلا الله سبحانه وتعالى، فإنه هو الذي يخلِّصنا من جَوْرِك، وإن لم ترُدَّنا إلى بلادنا وأوطاننا، فنحن في غدٍ نترافع وإياكَ إلى حاكم هذه المدينة وقاضيها. فقال اليهودي: ومَن خلَّص القيود من أرجلكما؟ ولكن لا بد أن أصنع لكلِّ واحدة منكن قيدًا قدْرُه عشرة أرطال، وأطوف بكُنَّ حول المدينة. فقالت له هبوب: جميع ما نويتَه لنا ستقع فيه إن شاء الله كما أبعدتنا عن أوطاننا، وفي غدٍ نقف وإياكَ قدام حاكم المدينة. واستمروا على ذلك إلى الصباح، ثم نهض اليهودي وجاء إلى الحدَّاد ليصنع قيودًا لهن، فعند ذلك قامت زين المواصف هي وجواريها وأتَتْ إلى دار الحكم ودخلَتْها، فرأَتِ القضاةَ فسلَّمَتْ عليهم، فردَّ عليها جميعُ القضاة السلامَ، ثم قال قاضي القضاة لمَن حوله: إن هذه الجارية زهراوية، وكل مَن رآها حَبَّها وخضع لحُسْنها وجمالها. ثم إن القاضي أرسل معها من الرُّسُل أربعة وكانوا أشرافًا، وقال لهم: أحضروا غريمها في أسوأ حال.
هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر اليهودي، فإنه لما صنع لهن القيودَ توجَّهَ إلى المنزل فلم يجدهن فيه، فاحتار في أمره، فبينما هو كذلك وإذا بالرُّسُل قد تعلَّقوا به وضربوه ضربًا شديدًا وجرُّوه سحبًا على وجهه حتى أتوا به إلى القاضي، فلما رآه القاضي صرخ في وجهه وقال: ويلك يا عدوَّ الله، هل وصل من أمرك أنك فعلتَ ما فعلتَ، وأبعدْتَ هؤلاء عن أوطانهن، وسرقتَ مالَهن وتريد أن تجعلهن يهودًا؟ فكيف تريد تكفير المسلمين؟ فقال اليهودي: يا مولاي، إن هذه زوجتي. فلما سمع القضاة منه هذا الكلام صاحوا كلهم، وقالوا: ارموا هذا الكلب على الأرض، وانزلوا على وجهه بنعالكم واضربوه ضربًا وجيعًا، فإن ذنبه لا يُغفَر. فنزعوا عنه ثيابه الحرير، وألبسوه ثيابًا من الشَّعْر، وألقَوْه على الأرض، ونتفوا لحيته، وضربوه ضربًا وجيعًا على وجهه بالنعال، ثم أركبوه على حمار وجعلوا وجهه إلى كَفَله، وأمْسَكُوه ذيلَ الحمار في يده، وطافوا به حول المدينة حتى جرَّسوه في سائر البلد، ثم عادوا به إلى القاضي وهو في ذلٍّ عظيم، فحكم عليه القضاة الأربعة بأن تُقطَعَ يداه ورجلاه، وبعد ذلك يُصلَب؛ فاندهش الملعون من ذلك القول وغاب عقله وقال: يا ساداتي القضاة، ما تريدون مني؟ فقالوا له: قُلْ إنَّ هذه الجارية ما هي زوجتي، وإن المال مالها، وأنا تعدَّيْتُ عليها وشتَّتُّها عن أوطانها. فأقَرَّ بذلك وكتبوا بإقراره حجةً، وأخذوا منه المال ودفعوه إلى زين المواصف وأعطوها الحجَّةَ وخرجت، فصار كلُّ مَن رأى حُسْنَها وجمالها متحيِّرًا في عقله، وظنَّ كلُّ واحد من القضاة أنها يئول أمرُها إليه، فلما وصلت إلى منزلها جهَّزَتْ أمرها من جميع ما تحتاج إليه، وصَبَرت إلى أن دخل الليل، فأخذت ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، وسارت هي وجواريها في ظلام الليل، ولم تزل سائرةً مسافة ثلاثة أيام ولياليها. هذا ما كان من أمر زين المواصف، وأما ما كان من أمر القضاة، فإنهم بعد ذهابها أمروا بحبس اليهودي زوجها. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.