فلما كانت الليلة ٨٦٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما خرجَتْ هي وجواريها من الدير ليلًا،
لم يَزَلْنَ سائرات، وإذا هن بقافلة سائرة فاختلطن بها، وإذا بالقافلة من مدينة عدن التي
كانت فيها زين المواصف، فسمعت أهل القافلة يتحدَّثون بخبر زين المواصف ويذكرون أن القضاة
والشهود ماتوا في حبها، وولَّى أهلُ المدينة قضاةً وشهودًا غيرهم، وأطلقوا زوجَ زين المواصف
من الحبس، فلما سمعت زين المواصف هذا الكلام التفتَتْ إلى جواريها وقالت لجاريتها هبوب:
أَلَا تسمعين هذا الكلام؟ فقالت لها جاريتها: إذا كان الرهبان الذين عقيدتهم أن الترهُّبَ
عن النساء عبادة، قد افتتنوا في هواك، فكيف حال القضاة الذين عقيدتهم أنه لا رهبانية
في
الإسلام؟ ولكن امضِ بنا إلى أوطاننا ما دام أمرنا مكتومًا. ثم إنهن سِرْنَ وبالَغْنَ
في
السير.
هذا ما كان من أمر زين المواصف وجواريها، وأما ما كان من أمر الرهبان، فإنهم لما أصبح
الصباح أتوا إلى زين المواصف لأجل السلام، فرأوا المكان خاليًا فأخذهم المرض في أجوافهم،
ثم
إن الراهب الأول مزَّقَ ثيابه وصار ينشد هذه الأبيات:
أَلَا يَا أُصَيْحَابِي تَعَالَوْا فَإِنَّنِي
مُفَارِقُكُمْ عَمَّا قَلِيلٍ وَرَاحِلُ
فَإِنَّ فُؤَادِي فِيهِ آلَامُ لَوْعَةٍ
وَقَلْبِي بِهِ مِنْ زَفْرَةِ الْحُبِّ قَاتِلُ
لَأَجْلِ فَتَاةٍ قَدْ أَتَتْ نَحْوَ أَرْضِنَا
لَهَا الْبَدْرُ فِي أُفْقِ السَّمَاءِ يُعَادِلُ
فَرَاحَتْ وَخَلَّتْنِي قَتِيلَ جَمَالِهَا
طَرِيحَ سِهَامٍ صَادَفَتْهَا مَقَاتِلُ
ثم إن الراهب الثاني أنشد هذه الأبيات:
يَا رَاحِلِينَ بِمُهْجَتِي رِفْقًا عَلَى
مِسْكِينِكُمْ وَتَعَطَّفُوا بِالْمَرْجِعِ
رَاحُوا فَرَاحَتْ رَاحَتِي مِنْ بَعْدِهِمْ
وَنَأَوْا وَطِيبُ حَدِيثِهِمْ فِي مَسْمَعِي
شَطُّوا فَشَطَّ مَزَارُهُمْ يَا لَيْتَهُمْ
مَنُّوا عَلَيْنَا فِي الْمَنَامِ بِمَرْجَعِ
أَخَذُوا فُؤَادِي عِنْدَمَا رَحَلُوا وَقَدْ
تَرَكُوا جَمِيعِي فِي سَوَافِحِ أَدْمُعِي
ثم إن الراهب الثالث أنشد هذه الأبيات:
يُصَوِّرُكُمْ قَلْبِي وَعَيْنِي وَمَسْمَعِي
فَقَلْبِي لَكُمْ مَأْوًى وَكُلِّي بِأَجْمَعِي
وَذِكْرُكُمُ أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ فِي فَمِي
وَيجْرِي كَمَجْرَى الرُّوحِ فِي كُلِّ أَضْلُعِي
وَصَيَّرْتُمُونِي كَالْخِلَالِ مِنَ الضَّنَى
وَأَغْرَقْتُمُونِي فِي الْغَرَامِ بِمَدْمَعِي
دَعُونِي أَرَاكُمْ فِي الْمَنَامِ لَعَلَّكُمْ
تُرِيحُوا خُدُودِي مِنْ تَبَارِيحِ أَدْمُعِي
ثم إن الراهب الرابع أنشد هذين البيتين:
خَرِسَ اللِّسَانُ وَقَلَّ فِيكَ كَلَامِي
وَالْحُبُّ مِنْهُ تَوَجُّعِي وَسَقَامِي
يَا بَدْرُ تَمَّ فِي السَّمَاءِ مَحَلُّهُ
قَدْ زَادَ فِيكَ تَوَلُّهِي وَهُيَامِي
ثم إن الراهب الخامس أنشد هذه الأبيات:
أَهْوَى قَمْرًا عَادِلَ الْقَدِّ رَشِيقْ
وَالْخَصْرُ نَحِيلُ شَاكِي الضَّرَرْ
وَرِيقُهُ شِبْهُ سُلَافٍ وَرَحِيقْ
وَالرِّدْفُ ثَقِيلُ لَاهِي الْبَشَرْ
وَالْقَلْبُ غَدَا بِالْغَرَامِ حَرِيقْ
وَالصَّبُّ قَتِيلُ بَيْنَ السُّمُرْ
وَالدَّمْعُ عَلَى الْخَدِّ قَانٍ كَعَقِيقْ
فِي الْخَدِّ يَسِيلُ مِثْلَ الْمَطَرْ
ثم إن الراهب السادس أنشد هذه الأبيات:
يَا مُتْلِفِي فِي الْحُبِّ فَرْطُ صُدُودِهِ
يَا غُصْنَ بَانٍ لَاحَ نَجْمُ سُعُودِهِ
أَشْكُو إِلَيْكَ كَآبَتِي وَصَبَابَتِي
يَا مُحْرِقِي فِي نَارِ وَرْدِ خُدُودِهِ
هَلْ مِثْلُ صَبٍّ فِيكَ غَادَرَ نُسْكَهُ
وَغَدَا عَدَيمَ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ
ثم إن الراهب السابع أنشد هذه الأبيات:
سَجَنَ الْفُؤَادَ وَدَمْعَ عَيْنِي أَطْلَقَا
وَالْوَجْدُ جَدَّدَهُ وَصَبْرِي مَزَّقَا
حُلْوُ الشَّمَائِلِ مَا أَمَرَّ صُدُودَهُ
يَرْمِي الْفُؤَادَ بِسَهْمِهِ عِنْدَ اللِّقَا
يَا عَاذِلِي أَقْصِرْ وَتُبْ عَمَّا مَضَى
مَا أَنْتَ فِي خَبَرِ الْغَرَامِ مُصَدَّقَا
وهكذا باقي البطارقة والرهبان كلهم يبكون وينشدون
الأشعار، وأما كبيرهم دانس فإنه زاد به البكاء والعويل، ولم يجد لوصالها من سبيل، ثم
إنه
صار يترنَّم بإنشاد هذه الأبيات:
عَدِمْتُ اصْطِبَارِي يَوْمَ سَارَ أَحِبَّتِي
وَفَارَقَنِي مَنْ كَانَ سُؤْلِي وَمُنْيَتِي
فَيَا حَادِيَ الْأَظْعَانِ رِفْقًا بِعِيسِهِمْ
عَسَى أَنْ يَمُنُّوا بِالرُّجُوعِ لِدَارَتِي
جَفَا جَفْنَ عَيْنِي النَّوْمُ بَعْدَ فِرَاقِهِمْ
وَجَدَّدْتُ أَحْزَانِي وَفَارَقْتُ لَذَّتِي
إِلَى اللهِ أَشْكُو مَا أُلَاقِي بِحُبِّهَا
لَقَدْ أَنْحَلَتْ جِسْمِي وَأَوْدَتْ بِقُوَّتِي
ثم إنهم لما يئسوا منها أجمع رأيهم على أنهم يصوِّرون صورتَها عندهم، واتفقوا على
ذلك إلى
أن أتاهم هادِمُ اللذات. هذا ما كان من أمر هؤلاء الرهبان أصحاب الدير، وأما ما كان من
أمر
زين المواصف، فإنها سارت تقصد محبوبها مسرورًا، ولم تزل سائرةً إلى أن وصلت إلى منزلها،
وفتحت الأبواب ودخلت الدار، ثم أرسلت إلى أختها نسيم، فلما سمعت أختها بذلك فرحت فرحًا
شديدًا وأحضرت لها الفراش ونفيس القماش، ثم إنها فرشت لها وألبستها وأرخَتِ الستورَ على
الأبواب، وأطلقت العود والند والعنبر والمسك والأدفر حتى عبق المكان من تلك الرائحة،
وصار
أعظم ما يكون. ثم إن زين المواصف لبسَتْ أفخرَ قماشها وتزيَّنَتْ أحسن الزينة، كل ذلك
جرى
ومسرور لم يعلم بقدومها، بل كان في همٍّ شديد، وحزنٍ ما عليه من مزيد. وأدرك شهرزاد الصباح،
فسكتَتْ عن الكلام المباح.