فلما كانت الليلة ٨٦٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن زين المواصف لما دخلت دارها أتَتْ لها أختها بالفراش والقماش، وفرشت لها وألبستها أفخر الثياب، كل ذلك جرى ومسرور لم يعلم بقدومها، بل كان في همٍّ شديد، وحزن ما عليه من مزيد. ثم جلست زين المواصف تتحدَّث مع جواريها اللاتي تخلَّفن عن السفر معها، وذكرت لهن جميعَ ما وقع لها من الأول إلى الآخر، ثم إنها التفتَتْ إلى هبوب وأعطتها دراهم، وأمرتها أن تذهب وتأتي لها بشيء تأكله هي وجواريها، فذهبت وأتَتْ بالذي طلبته من الأكل والشرب، فلما انتهى أكلهن وشربهن أمرَتْ هبوبَ أن تمضي إلى مسرور وتنظر أين هو وتشاهد ما هو فيه من الأحوال، وكان مسرور لا يقرُّ له قرار، ولا يمكنه اصطبار، فلما زاد عليه الوَجْد والغرام، والعشق والهيام، صار يتسلَّى بإنشاد الأشعار، ويذهب إلى الدار ويقبِّل الجدار، فاتفق أنه مضى إلى محل التوديع، وصار ينشد هذا الشعر البديع:
ثم إنه رجع إلى منزله وقعد يبكي، فغلب عليه النوم، فرأى في منامه كأنَّ زين المواصف أتَتْ إلى الدار، فانتبه من نومه وهو يبكي، ثم سار متوجِّهًا إلى منزل زين المواصف وهو ينشد هذه الأبيات:
وكان آخِر ما أنشد من الشعر وهو ماشٍ في زقاق زين المواصف، فشمَّ منه الروائح الزكية، فهاجَ لبُّه وفارَقَ صدرَه قلبُه، وتضرم غرامه وزاد هيامه، وإذا بهبوب متوجِّهة إلى قضاء حاجةٍ، فرآها وهي مُقبِلة من صدر الزقاق، فلما رآها فرح فرحًا شديدًا، فلما رأته هبوب أتَتْ إليه وسلَّمَتْ عليه وبشَّرَتْه بقدوم سيدتها زين المواصف، وقالت له: إنها أرسلتني في طلبك إليها. ففرح بذلك فرحًا شديدًا ما عليه من مزيد، ثم أخذته ورجعت به إليها، فلما رأته زين المواصف نزلت له من فوق سريرها وقبَّلَتْه وقبَّلَها، وعانقَتْه وعانَقَها، ولم يزالَا يقبِّلان بعضهما ويتعانقان حتى غُشِي عليهما زمنًا طويلًا من شدة المحبة والفراق، فلما أفاقَا من غشيتهما أمرَتْ جاريتها هبوب بإحضار قلةٍ مملوءةٍ من شراب السكر، وقلةٍ مملوءةٍ من شراب الليمون، فأحضرَتْ لها الجاريةُ جميعَ ما طلبته، ثم أكلوا وشربوا، وما زالوا كذلك إلى أن أقبَلَ الليلُ، فصاروا يذكرون الذي جرى لهم من أوله إلى آخره. ثم إنها أخبرته بإسلامها، ففرح وأسلَمَ هو أيضًا، وكذلك جواريها وتابوا إلى الله تعالى، فلما أصبح الصباح أمرَتْ بإحضار القاضي والشهود وأخبرتهم أنها عازبة، وقد وفت العدة ومُرادُها الزواج بمسرور، فكتبوا كتابَها وصاروا في ألذ عيش.
هذا ما كان من أمر زين المواصف، وأما ما كان من أمر زوجها اليهودي، فإنه حين أطلَقَه أهل المدينة من السجن، سافَرَ منها متوجِّهًا إلى بلاده، ولم يَزَلْ مسافرًا حتى صار بينه وبين المدينة التي فيها زين المواصف ثلاثة أيام، فأُخبِرت بذلك زين المواصف، فدعَتْ بجاريتها هبوب وقالت لها: امضِ إلى مقبرة اليهود واحفري قبرًا وضعي عليه الرياحين ورشِّي حوله الماء، وإن جاء اليهودي وسألكِ عني فقولي له: إن سيدتي ماتَتْ من قهرها عليك، ومضى لموتها مدة عشرين يومًا. فإن قال: أريني قبرها. فخذيه إلى القبر وتحيَّلِي على دفنه فيه بالحياة. فقالت: سمعًا وطاعةً. ثم إنهم رفعوا الفراشَ وأدخلوه في مخدع، ومضَتْ إلى بيت مسرور، فقعد هو وإياها في أكل وشرب، ولم يزالوا كذلك حتى مضت الثلاثة أيام.
هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر زوجها، فإنه لما أقبَلَ من السفر، دقَّ الباب، فقالت هبوب: مَن بالباب؟ فقال: سيدكِ. ففتحت له الباب، فرأى دموعها تجري على خدها، فقال لها: ما يُبكِيك؟ وأين سيدتكِ؟ فقالت له: إن سيدتي ماتَتْ بسبب قهرها عليك. فلما سمع منها ذلك الكلام تحيَّرَ في أمره وبكى بكاءً شديدًا، ثم قال لها: يا هبوب، أين قبرها؟ فأخذته ومضَتْ به إلى المقبرة وأرَتْه القبرَ الذي حفرته، فعند ذلك بكى بكاءً شديدًا ثم أنشد هذين البيتين:
ثم بكى بكاءً شديدًا وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره بكى وأنَّ واشتكى، فخرَّ مغشيًّا عليه، فلما غُشِي عليه أسرعَتْ هبوب بجرِّه ووضْعِه في القبر وهو بالحياة ولكنه مدهوش، ثم سدَّتْ عليه ورجعت إلى سيدتها وأعلمَتْها بهذا الخبر، ففرحَتْ بذلك فرحًا شديدًا وأنشدت هذين البيتين:
ثم إنهم أقاموا مع بعضهم على الأكل والشرب، واللهو واللعب والطرب، إلى أن أتاهم هادم اللذات ومفرِّق الجماعات ومميت البنين والبنات.
حكاية علي نور الدين ومريم
ومما يُحكَى أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، رجل تاجر بالديار المصرية يُسمَّى تاج الدين، وكان من أكابر التجار ومن الأمناء الأحراء، إلا أنه كان مولعًا بالسفر إلى جميع الأقطار، ويحب السير في البراري والقِفار، والسهول والأوعار وجزائر البحار، في طلب الدرهم والدينار، وكان له عبيد ومماليك وخدم وجوارٍ، وطالما ركب الأخطار، وقاسَى في السفر ما يشيب الأطفال الصغار، وكان أكثر التجار في ذلك الزمان مالًا، وأحسنهم مقالًا، صاحب خيول وبغال، وبخاتي وجِمال، وغرائر وأعدال، وبضائع وأموال، وأقمشة عديمة المثال، من شدود حمصية، وثياب بعلبكية، ومقاطع سندسية، وثياب مرزوية، وتفاصيل هندية، وأزرار بغدادية، وبرانس مغربية، ومماليك تركية، وخدم حبشية، وجوارٍ رومية، وغلمان مصرية، وكانت غرائر أحماله من الحرير؛ لأنه كان كثير الأموال بديع الجمال، مائس الأعطاف شهي الانعطاف، كما قال فيه بعض واصفيه:
وقال آخَر في وصفه وأجاد، وأتى فيه بالمراد:
وكان لذلك التاجر ولد ذكر يُسمَّى علي نور الدين، كأنه البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر، بديع الحسن والجمال، ظريف القدِّ والاعتدال، فجلس ذلك الصبي يومًا من الأيام في دكان والده على جري عادته، للبيع والشراء والأخذ والعطاء، وقد دارت حوله أولادُ التجَّار، فصار هو بينهم كأنه القمر بين النجوم، بجبين أزهر وخدٍّ أحمر، وعِذار أخضر وجسم كالمرمر، كما قال فيه الشاعر:
وكما قال فيه بعض واصفيه:
فعزمه أولاد التجار وقالوا له: يا سيدي نور الدين، نشتهي في هذا اليوم أننا نتفرَّج وإياك في البستان الفلاني. فقال لهم: حتى أشاور والدي، فإني لا أقدر أن أروح إلا بإجازته. فبينما هم في الكلام وإذا بوالده تاج الدين قد أتى، فنظر إليه وقال: يا أبي، إن أولاد التجار قد عزموني لأجل أن أتفرَّجَ أنا وإياهم في البستان الفلاني، فهل تأذن لي في ذلك؟ فقال: نعم يا ولدي. ثم إنه أعطاه شيئًا من المال وقال: توجَّهَ معهم. فركب أولاد التجار حميرًا وبغالًا، وركب نور الدين بغلة وسار معهم إلى بستانٍ فيه ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين، وهو مشيد الأركان رفيع البنيان، له باب مُقنطَر كأنه إيوان، وباب سماوي يشبه أبواب الجِنان، وبوَّابه اسمُه رضوان، وفوقه مائة مكعب عنب من سائر الألوان، الأحمر كأنه مرجان، والأسود كأنه أنوف السودان، والأبيض كأنه بيض الحمام، وفيه الخوخ والرمَّان، والكمثرى والبرقوق والتفاح، كل هذه الأنواع مختلفة الألوان، صنوان وغير صنوان. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.