فلما كانت الليلة ٨٦٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أولاد التجار لما جلسوا في الليوان، أجلسوا نور الدين في وسط الإيوان، على نطع من الأديم المزركش، متَّكِئًا على مخدة مَحْشوَّة بريش النعام، وظهارتها مدوَّرة سنجابية، ثم ناوَلُوه مروحةً من ريش النعام، مكتوبًا عليها هذان البيتان:
ثم إن هؤلاء الشبان خلعوا ما كان عليهم من العمائم والثياب، وجلسوا يتحدَّثون ويتنادمون ويتجاذبون أطرافَ الكلام بينهم، وكل منهم يتأمَّلُ في نور الدين وينظر إلى حُسْن صورتِه، وبعد أن اطمأَنَّ بهم الجلوس ساعةً من الزمان، أقبَلَ عليهم عبدٌ وعلى رأسه سُفْرة طعام، فيها أوانٍ من الصيني والبلور؛ لأن بعض أولاد التجار كان وصَّى أهلَ بيته بها قبل خروجه إلى البستان. وكانت تلك السُّفْرة مما درج وطار، وسبح في البحار، كالقطا والسمان وأفراخ الحمام، وشِياه الضأن وألطف السمك، فلما وُضِعت تلك السُّفْرة بينهم تقدَّموا وأكلوا بحسب الكفاية، ولما فرغوا من الأكل قاموا عن الطعام وغسلوا أيديهم بالماء الصافي والصابون الممسك، وبعد ذلك نشفوا أيديهم بالمناديل المنسوجة بالحرير والقصب، وقدَّموا لنور الدين منديلًا مطرَّزًا بالذهب الأحمر، فمسح به يدَيْه، وجاءت القهوة فشرب كلٌّ منهم مطلوبَه، ثم جلسوا للحديث، وإذا بخولي البستان ذهب وجاء بسَلٍّ مملوءة بالورد، وقال: ما تقولون يا سادتنا في المشموم؟ فقال بعض أولاد التجار: لا بأس به، خصوصًا الورد فإنه لا يُرَد. فقال البستاني: نعم، لكن عادتنا إننا لا نعطي الوردَ إلا بالمنادَمة، فمَن أراد أخْذَه فليأتِ بشيء من الشعر يناسب المقام. وكان أولاد التجار عشرة أشخاص، فقال واحد منهم: نعم، أعطني وأنا أنشدك شيئًا من الشعر يناسب المقام. فناوَلَه حزمةً من الورد، فأخذها وأنشد هذه الأبيات:
ثم ناوَلَ الثاني حزمةَ ورد، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ الثالثَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ الرابعَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ الخامسَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ السادسَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ السابعَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ الثامنَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ التاسعَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
ثم ناوَلَ العاشرَ حزمةَ وردٍ، فأخذها وأنشد هذين البيتين:
فلما استقرَّ الوردَ في أيديهم أحضرَ البستاني سفرة المُدَام، فوضع بينهم صينية مزركشة بالذهب الأحمر، وأنشد يقول هذين البيتين:
ثم إن خولي البستان ملأ وشرب، ودار الدور إلى أن وصل إلى نور الدين ابن التاجر تاج الدين، فملأ خولي البستان كأسًا وناوَلَه إياه، فقال نور الدين: أنت تعرف أن هذا شيء لا أعرفه ولا شربته قطُّ؛ لأن فيه إثمًا كبيرًا، وقد حرَّمَه في كتابه الربُّ القدير. فقال خولي البستان: يا سيدي نور الدين، إنْ كنتَ ما تركْتَ شُرْبَه إلا من أجل الإثم، فإن الله سبحانه وتعالى كريم حليم غفور رحيم، يغفر الذنب العظيم، ورحمته وسعت كل شيء، ورحمة الله على بعض الشعراء حيث قال:
ثم قال واحد من أولاد التجار: بحياتي عليك يا سيدي نور الدين أن تشرب هذا القدح. وتقدَّمَ شاب آخَر وحلف عليه بالطلاق، وآخَر وقف بين يدَيْه على أقدامه، فاستحى نور الدين وأخذ القدح من خولي البستان وشرب منه جرعة، ثم بصَقَها، وقال: هذا مرٌّ. فقال له الشاب خولي البستان: يا سيدي نور الدين، لولا أنه مُرٌّ ما كانت فيه هذه المنافع، أَلَمْ تعلم أن كلَّ حلو إذا أُكِل على سبيل التداوي يجده الآكِل مرًّا؟ وأن هذه الخمرة منافعها كثيرة؟ فمن جملة منافعها أنها تهضم الطعام، وتصرف الهم والغم، وتزيل الأرياح وتروق الدم، وتصفي اللون وتنعش البدن، وتشجع الجبان وتقوي همة الرجل على الجماع، ولو كنا ذكرنا منافعها كلها لَطال علينا شرح ذلك، وقد قال بعض الشعراء:
ثم إن خولي البستان نهض قائمًا على أقدامه من وقته وساعته، وفتح مخدعًا من مخادع ذلك الإيوان، وأخرج منه قمع سكرٍ مكرَّرٍ وكسر منه قطعة كبيرة ووضعها لنور الدين في القدح، وقال له: يا سيدي، إنْ كنتَ هِبتَ شرْبَ الخمر من مرارته، فاشرب الآن فقد حلا. فعند ذلك أخذ نور الدين القدح وشربه، ثم ملأ الكأسَ واحدٌ من أولاد التجار وقال: يا سيدي نور الدين، أنا عبدك. وكذا الآخر قال: أنا خدَّامك. وقام الآخَر وقال: من أجل خاطري. وقام الآخَر وقال: بالله عليك يا سيدي نور الدين اجبرْ بخاطري. ولم يزل العشرة أولاد التجار بنور الدين إلى أن أسقَوْه العشرة أقداح، كل واحد قدحًا. وكان نور الدين باطنه بكر، عمره ما شرب خمرًا قطُّ إلا في تلك الساعة، فدار الخمر في دماغه، وقوي عليه السكر فوقف على حيله، وقد ثقل لسانه واستعجم كلامه، وقال: يا جماعة، والله أنتم ملاح، وكلامكم مليح، ومكانكم مليح، إلا أنه يحتاج إلى سماع طيب، فإن الشراب بلا سماع عدمه أولى من وجوده، كما قال فيه الشاعر هذين البيتين:
فعند ذلك نهض الشاب صاحب البستان وركب بغلة من بغال أولاد التجار وغاب، ثم عاد ومعه صبِيَّة مصرية كأنها لية طرية، أو فضة نقية، أو دينار في صينية، أو غزال في برية، بوجهٍ يُخجِل الشمس المضيئة، وعيونٍ بلبلية وحواجبَ كأنها قسي محنية، وخدودٍ وردية وأسنانٍ لؤلُئِيَّة، ومراشفَ سكَّريةٍ وعيونٍ مَرْخية، ونُهودٍ عاجيَّة وبطنٍ خماصية، وأعكانٍ مطوية وأردافٍ كأنهن مخدات محشيَّة، وفخذين كالجداول الشامية، وبينهما شيء كأنه صرَّة في بقجة مطوية، كما قيل فيها هذه الأبيات:
وقال آخَر هذه الأبيات:
وما أحسن قول بعض الشعراء:
وتلك الصَّبِيَّة كأنها البدر إذا بدر في ليلةِ أربعةَ عشرَ، وعليها بدلة زرقاء بقناع أخضر فوق جبين أزهر، تدهش العقول وتحيِّر أربابَ المعقول. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.