فلما كانت الليلة ٨٦٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن خولي البستان لما جاءَ لهم بالصَّبِيَّة التي ذكرنا
أنها في غايةٍ من الحُسْن والجمال، ورشاقة القَدِّ والاعتدال، كأنها المُرَادة بقول
الشاعر:
أَقْبَلَتْ فِي غِلَالَةٍ زَرْقَاءَ
لَازَوَرْدِيَّةٍ كَلَوْنِ السَّمَاءِ
فَتَحَقَّقْتُ فِي الْغِلَالَةِ مِنْهَا
قَمَرَ الصَّيْفِ فِي لَيَالِي الشِّتَاءِ
وما أحسن قول الآخَر وأجوده:
جَاءَتْ مُبَرْقِعَةً فَقُلْتُ لَهَا اسْفِرِي
عَنْ وَجْهِكِ الْقَمَرِ الْمُنِيرِ الْأَزْهَرِي
قَالَتْ أَخَافُ الْعَارَ قُلْتُ لَهَا اقْصِرِي
بِحَوَادِثِ الْأَيَّامِ لَا تَتَحَيَّرِي
رَفَعَتْ نِقَابَ الْحُسْنِ عَنْ وَجَنَاتِهَا
فَتَسَاقَطَ الْبَلُّورُ فَوْقَ الْجَوْهَرِ
وَلَقَدْ هَمَمْتُ بِقَتْلِهَا مِنْ حُبِّهَا
كَيْمَا تَكُونَ خَصِيمَتِي فِي الْمَحْشَرِ
وَنَكُونَ أَوَّلَ عَاشِقَيْنِ تَخَاصَمَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبٍّ أَكْبَرِ
وَأَقُولُ طَوِّلْ فِي الْحِسَابِ وُقُوفَنَا
حَتَّى يَطُولَ إِلَى الْحَبِيبَةِ مَنْظَرِي
ثم إن الشاب خولي البستان قال لتلك الصَّبِيَّة: اعلمي يا سيدة الملاح وكل كوكبٍ لاحَ،
أننا ما قصدنا بحضورك في هذا المكان إلا أن تُنادِمي هذا الشابَّ المليح الشمائل، سيدي
نور
الدين، فإنه لم يأتِ محلَّنا إلا في هذا اليوم. فقالت له الصَّبِيَّة: ليتكَ كنتَ أخبرتني
لأجل أن أجيء بالذي كان معي. فقال لها: يا سيدتي، أنا أروح وأجيء به إليك. فقالت الصبية:
افعل ما بَدَا لكَ. فقال لها: أعطيني أمارة. فأعطَتْه منديلًا، فعند ذلك خرج سريعًا وغاب
ساعة زمانية، ثم عاد ومعه كيس أخضر من حرير أطلس بشكلين من الذهب، فأخذته الصَّبِيَّة
منه
وحلَّتْه ونفضته، فنزل من اثنتان وثلاثون قطعة خشب، ثم ركَّبتِ الخشبَ في بعضه على صورة
ذكر
في أنثى، وأنثى في ذكر، وكشفت عن معاصمها وأقامته، فصار عودًا محكوكًا مجرودًا صنعة الهنود،
ثم انحنَتْ عليه تلك الصبِيَّة انحناءَ الوالدة على ولدها وزغزغته بأنامل يدها، فعند
ذلك
أنَّ العودُ ورَنَّ، ولأماكنه القديمة قد حَنَّ، وقد تذكَّرَ المياهَ التي قد سقته، والأرض
التي نبَتَ منها وتربَّى فيها، وتذكَّرَ النجَّارين الذين قطعوه، والدهَّانين الذين دهنوه،
والتجار الذين جلبوه، والمراكب التي حملته، فصرخ وصاح وعدَّدَ وناح، وكأنها سألته عن
ذلك
كله فأجابها بلسان الحال منشدًا هذه الأبيات:
لَقَدْ كُنْتُ عُودًا لِلْبَلَابِلِ مَنْزِلًا
أَمِيلُ بِهَا وَجْدًا وَفَرْعِي أَخْضَرُ
يَنُوحُونَ مِنْ فَوْقِي تَعَلَّمْتُ نَوْحَهُمْ
وَمِنْ أَجْلِ ذَاكَ النَّوْحِ سِرِّيَ مُجْهَرُ
رَمَانِي بِلَا ذَنْبٍ عَلَى الْأَرْضِ قَاطِعِي
وَصَيَّرَنِي عُودًا نَحِيلًا كَمَا تَرُوا
وَقَدْ ضَرَّ بِيَّ بِالْأَنَامِلِ مُخْبِرٌ
بِأَنِّي قَتِيلٌ فِي الْأَنَامِ مُصَبَّرُ
فَمِنْ أَجْلِ هَذَا صَارَ كُلُّ مُنَادِمٍ
إِذَا مَا رَأَى نَوْحِي يَهِيمُ وَيَسْكَرُ
وَقَدْ حَنَّنَ الْمَوْلَى عَلَيَّ قُلُوبَهُمْ
وَقَدْ صِرْتُ فِي أَعْلَى الصُّدُورِ أُصَدَّرُ
تُعَانِقُ قَدِّي كُلُّ مَنْ فَاقَ حُسْنُهَا
وَكُلُّ غَزَالٍ نَاعِسِ الطَّرْفِ أَحْوَرُ
فَلَا فَرَّقَ اللهُ الْمُهَيْمِنُ بَيْنَنَا
وَلَا عَاشَ مَحْبُوبٌ يُصَدُّ وَيُهْجَرُ
ثم سكتَتِ الصبِيَّةُ ساعةً، وبعد ذلك أخذَتْ ذلك العود في حجرها وانحنَتْ عليه انحناءَ
الوالدة على ولدها، وضربَتْ عليه طُرقًا عديدة، ثم عادت إلى طريقتها الأولى، وأنشدَتْ
هذه
الأبيات:
لَوْ أَنَّهُمْ جَنَحُوا لِلصَّبِّ أَوْ زَارُوا
لَحُطَّ عَنْهُ مِنَ الْأَشْوَاقِ أَوْزَارُ
وَعَنْدَلِيبٌ عَلَى غُصْنٍ يُشَاجِرُهُ
كَأَنَّهُ عَاشِقٌ شَطَّتْ بِهِ الدَّارُ
قُمْ وَانْتَبِهْ فَلَيَالِي الْوَصْلِ مُقْمِرَةٌ
كَأَنَّهَا بِاجْتِمَاعِ الشَّمْلِ أَسْحَارُ
وَالْيَوْمَ فِي غَفْلَةٍ عَنَّا حَوَاسِدُنَا
وَقَدْ دَعَتْنَا إِلَى اللَّذَاتِ أَوْتَارُ
أَمَا تَرَى أَرْبَعًا فِي اللَّحْظِ قَدْ جُمِعَتْ
آسٌ وَوَرْدٌ وَمَنْثُورٌ وَأَنْوَارُ
وَالْيَوْمَ قَدْ جُمِعَتْ لِلَّحْظِ أَرْبَعَةٌ
صَبٌّ وَخِلٌّ وَمَشْرُوبٌ وَدِينَارُ
فَاظْفَرْ بِحَظِّكَ فِي الدُّنْيَا فَلَذَّتُهَا
تَفْنَى وَتَبْقَى رِوَايَاتٌ وَأَخْبَارُ
فلما سمع نور الدين من الصبِيَّة هذه الأبيات، نظر إليها بعين المحبَّة حتى كاد لا
يملك
نفسه من شدة الميل إليها، وهي الأخرى كذلك؛ لأنها نظرت إلى الجماعة الحاضرين من أولاد
التجار كلهم وإلى نور الدين، فرأته بينَهم كالقمر بين النجوم؛ لأنه كان رخيمَ اللفظ
والدلال، كامِلَ القَدِّ والاعتدال، والبهاء والجمال، ألطف من النسيم وأرق من التسنيم،
كما
قيل فيه هذه الأبيات:
قَسَمًا بِوَجْنَتِهِ وَبَاسِمِ ثَغْرِهِ
وَبِأَسْهُمٍ قَدْ رَانَهَا مِنْ سِحْرِهِ
وَبِلِينِ مِعْطَفِهِ وَنَبْلِ لِحَاظِهِ
وَبَيَاضِ غُرَّتِهِ وَأَسْوَدِ شَعْرِهِ
وَبِحَاجِبٍ حَجَبَ الْكَرَى عَنْ نَاظِرِي
وَسَطَا عَلَيَّ بِنَهْيِهِ وَبِأَمْرِهِ
وَعَقَارِبَ قَدْ أُرْسِلَتْ مِنْ صُدْغِهِ
وَسَعَتْ لِقَتْلِ الْعَاشِقِينَ بِهَجْرِهِ
وَبِوَرْدِ خَدَّيْهِ وَآسِ عِذَارِهِ
وَعَقِيقِ مَبْسِمِهِ وَلُؤْلُؤِ ثَغْرِهِ
وَبِغُصْنِ قَامَتِهِ الَّذِي هُوَ مُثْمِرٌ
رُمَّانُهُ يَزْهُو جَنَاهُ بِصَدْرِهِ
وَبِرِدْفِهِ الْمَرِّيخُ فِي حَرَكَاتِهِ
وَسُكُونِهِ وَبِدِقَّةٍ فِي خَصْرِهِ
وَحَرِيرِ مَلْبَسِهِ وَخِفَّةِ ذَاتِهِ
وَبِمَا حَوَاهُ مِنَ الْجَمَالِ بِأَسْرِهِ
إِنَّ الشَّذَا قَدْ فَاحَ مِنْ أَنْفَاسِهِ
وَالرِّيحُ يَرْوِي طِيبُهَا عَنْ نَشْرِهِ
وَكَذَلِكَ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةُ دُونَهُ
وَكَذَا الْهِلَالُ قُلَامَةٌ مِنْ ظُفْرِهِ
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.