فلما كانت الليلة ٨٦٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبِيَّةَ وهبَتْ كلَّ ما كان عليها لنور الدين، وقالت له: اعلم يا حبيبَ قلبي أن الهدية على مقدار هاديها. فقبِلَ ذلك منها نور الدين، ثم ردَّه عليها وقبَّلَها في فمها وخدَّيْها وعينَيْها، فلما انقضى ذلك ولم يَدُمْ إلا الحي القيوم، رازق الطاووس والبوم، قام نور الدين من ذلك المجلس ووقف على قدمَيْه، فقالت له الصبِيَّةُ: إلى أين يا سيدي؟ فقال لها: إلى بيت والدي. فحلف عليه أولاد التجار أنه ينام عندهم، فأبَى وركب بغلته، ولم يزل سائرًا حتى وصل إلى بيت والده، فقامت له أمه وقالت له: يا ولدي، ما سبب غيابك إلى هذا الوقت؟ والله إنكَ قد شوَّشْتَ عليَّ وعلى والدك بغيابك عنَّا، وقد اشتغل خاطرنا عليك. ثم إن أمه تقدَّمَتْ إليه لتقبِّله في فمه، فشمَّتْ منه رائحةَ الخمر. فقالت: يا ولدي، كيف بعد الصلاة والعبادة صرْتَ تشرب الخمر، وتعصي مَن له الخلق والأمر؟ فبينما هما في الكلام وإذا بوالده قد أقبَلَ، ثم إن نور الدين ارتَمَى في الفراش ونام، فقال أبوه: ما لنور الدين هكذا؟ قالت له أمه: كأن رأسه أوجَعَه من هواء البستان. فعند ذلك تقدَّمَ له والده ليسأله عن وجعه ويسلِّم عليه، فشمَّ منه رائحةَ الخمر، وكان ذلك التاجر المسمَّى تاج الدين لا يحبُّ مَن يشرب الخمر، فقال له: ويلك يا ولدي، هل بلغ بك السَّفَهُ إلى هذا الحدِّ حتى تشرب الخمر؟ فلما سمع نور الدين كلامَ والده رفع يدَه في سُكْره ولطَمَه بها، فجاءَتِ اللطمةُ بالأمر المقدَّر على عين والده اليمنى، فسالت على خدِّه فوقع على الأرض مغشيًّا عليه، واستمرَّ في غشيته ساعةً فرَشُّوا عليه ماءَ الورد، فلما أفاقَ من غشيته أراد أن يضربه فمنعته أمه، فحلف بالطلاق من أمه أنه إذا أصبَحَ الصباح لا بد من قطع يده اليمنى. فلما سمعَتْ أمه كلامَ والده ضاقَ صدرها وخافت على ولدها، ولم تزل تداري والده وتأخذ بخاطره إلى أن غلب عليه النوم، فصبرت إلى أن طلع القمر وأتَتْ إلى ولدها وقد زال عنه السُّكْر، فقالت له: يا نور الدين، ما هذا الفعل القبيح الذي فعلْتَه مع والدك؟ فقال لها: وما الذي فعلتُه مع والدي؟ فقالت: إنك لطمْتَه بيدكَ على عينه اليمنى، فسالت على خدِّه، وقد حلف بالطلاق إنه إذا أصبح الصباح، فلا بد أن يقطع يدك اليمنى. فندم نور الدين على ما وقع منه حيث لا ينفعه الندم، فقالت له أمه: يا ولدي، إن هذا الندم لا ينفعك، وإنما ينبغي لك أن تقوم في هذا الوقت وتهرب وتطلب النجاة لنفسك، وتختفي عند خروجك حتى تصل إلى أحدٍ من أصحابك، وانتظِرْ ما يفعل الله، فإنه يغيِّر حالًا بعد حال.
ثم إن أمه فتحَتْ صندوقَ المال وأخرجَتْ منه كيسًا فيه مائة دينار، وقالت له: يا ولدي، خُذْ هذه الدنانير واستعِنْ بها على مصالح حالك، فإذا فرغَتْ منك يا ولدي فأرسِلْ أعلمني حتى أُرسِلَ إليك غيرها، وإذا راسَلَتْني فأرسِلْ إليَّ أخبارك سرًّا، ولعل الله أن يقدِّر لك فرَجًا وتعود إلى منزلك. ثم إنها ودَّعته وبكَتْ بكاءً شديدًا ما عليه من مزيد، فعند ذلك أخذ نور الدين كيسَ الدنانير من أمه، وأراد أن يخرج، فرأى كيسًا كبيرًا قد نسيته أمه بجنب الصندوق فيه ألف دينار، فأخذه نور الدين، ثم ربط الاثنين على وسطه وخرج من الزقاق، وتوجَّهَ إلى جهة بولاق قبل الفجر.
فلما أصبح الصباح، وقامت الخلائق توحِّد الملك الفتَّاح، وخرج كل واحد منهم إلى مقصده ليحصل ما قسم الله له، كان نور الدين وصل إلى بولاق، فصار يمشي على ساحل البحر، فرأى مركبًا سقالتها ممدودة، والناس تطلع فيها وتنزل منها، ومراسيها ربع مدقوقة في البر، ورأى البحرية واقفين، فقال لهم نور الدين: إلى أين أنتم مسافرون؟ فقالوا له: إلى مدينة إسكندرية. فقال لهم نور الدين: خذوني معكم. فقالوا له: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك يا شاب يا مليح. فعند ذلك نهض نور الدين من وقته وساعته، ومضى إلى السوق واشترى ما يحتاج إليه من زوَّادة وفرش وغطاء، ثم رجع إلى المركب، وكانت تلك المركب تجهَّزَتْ للسفر، فلما نزل نور الدين في المركب لم تمكث إلا قليلًا وسارت من وقتها وساعتها، ولم تَزَلْ تلك المركب سائرةً حتى وصلَتْ إلى مدينة رشيد، فلما وصلوا إلى هناك رأى نور الدين زورقًا صغيرًا سائرًا إلى إسكندرية، فنزل فيه وعدَّى الخليج، ولم يَزَلْ سائرًا إلى أن وصل إلى قنطرةٍ تُسمَّى قنطرة الجامي، فطلع نور الدين من ذلك الزورق ودخل من بابٍ يقال له باب السدرة، وقد ستر الله عليه فلم ينظره أحدٌ من الواقفين في الباب، فمشى نور الدين حتى دخل مدينة إسكندرية. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.