فلما كانت الليلة ٨٧٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن نور الدين لما دخل مدينة إسكندرية، رآها مدينة حصينة الأسوار حسنة المنتزهات، تلذ لسكانها وترغب في إيطانها، قد ولَّى عنها فصلُ الشتاء ببرده، وأقبل عليه فصل الربيع بورده، وازدهت أزهارها وأَوْرَقَتْ أشجارها، وأينعَتْ أثمارها وتدفَّقَتْ أنهارها، وهي مدينة مليحة الهندسة والقياس، وأهلها أجناد من خيار الناس، إذا غلقت أبوابها أمنت أصحابها، وهي كما قيل فيها هذه الأبيات:
وقال بعض الشعراء:
فمشى نور الدين في تلك المدينة، ولم يَزَلْ ماشيًا فيها إلى أن وصل إلى سوق النجارين، ثم إلى سوق الصرَّافين، ثم إلى سوق النقلية، ثم إلى سوق الفكهانية، ثم إلى سوق العطَّارين، وهو يتعجَّب من تلك المدينة؛ لأن وصفها قد شاكَلَ اسمها، فبينما هو يمشي في سوق العطَّارين، وإذا برجل كبير السن نزل من دكانه وسلَّمَ عليه، ثم أخذه من يده ومضى به إلى منزله، فرأى نور الدين زقاقًا مليحًا مكنوسًا مرشوشًا، قد هبَّ عليه النسيم وراقَ، وظلَّلَتْه من الأشجار أوراق، وفي ذلك الزقاق ثلاث دور، وفي صدر ذلك الزقاق دار أساسها راسخ في الماء، وجدرانها شاهقة إلى عنان السماء، قد كنسوا الساحة التي قدَّامها ورشوها، ويشمُّ روائحَ الأزهار قاصِدوها، يقابلها النسيم كأنه من جنات النعيم، فأول ذلك الزقاق مكنوس مرشوش، وآخره بالرخام مفروش، فدخل الشيخ بنور الدين إلى تلك الدار، وقدَّمَ له شيئًا من المأكول وأكل هو وإياه، فلما فرغَا من الأكل قال له الشيخ: متى كان القدوم من مدينة مصر إلى هذه المدينة؟ فقال له: يا والدي، في هذه الليلة. قال له: ما اسمك؟ قال: علي نور الدين. فقال له الشيخ: يا ولدي يا نور الدين، يلزمني الطلاق ثلاثًا إنك ما دمتَ في هذه المدينة لا تفارقني، وأنا أخلي لك موضعًا تسكن فيه. فقال له نور الدين: يا سيدي الشيخ، زدني بك معرفة. فقال له: يا ولدي، اعلم أني دخلتُ مصر في بعض السنين بتجارةٍ، فبعتُها فيها واشتريتُ متجرًا آخَر، فاحتجْتُ إلى ألف دينار، فوزنها عني والدك تاج الدين من غير معرفةٍ له بي، ولم يكتب عليَّ بها منشورًا، وصبر عليَّ بها إلى أن رجعتُ إلى هذه المدينة وأرسلْتُها إليه مع بعض غلماني ومعها هدية، وقد رأيتُكَ وأنت صغير، وإن شاء الله تعالى أجازيك ببعض ما فعل والدك معي.
فلما سمع نور الدين هذا الكلامَ أظهر الفرح والابتسام، وأخرج الكيس الذي فيه الألف دينار، وأعطاه لذلك الشيخ وقال له: خُذْ هذا وديعةً عندك حتى أشتري به شيئًا من البضائع لأتَّجِر فيه. ثم إن نور الدين أقام في مدينة إسكندرية مدة أيام، وهو يتفرج كلَّ يوم في شارع من شوارعها، ويأكل ويشرب ويلتذُّ ويطرب، إلى أن فرغت منه المائة دينار التي كانت معه برسم النفقة، فأتى إلى الشيخ العطار ليأخذ منه شيئًا من الألف دينار وينفقه، فلم يجده في الدكان، فجلس في دكانه ينتظره إلى أن يعود، وصار يتفرج على التجار ويتأمَّل ذات اليمين وذات الشمال، فبينما هو كذلك وإذا بأعجمي قد أقبَلَ على السوق وهو راكب على بغلة، وخلفه جارية كأنها فضة نقية، أو بلطية في فسقية، أو غزالة في برية، بوجْهٍ يُخجِل الشمسَ المضيئة، وعيون بابلية، ونهود عاجية، وأسنان لؤلُئِية، وبطن خماصية، وأعطاف مطوية، وسيقان كأطراف لية، كاملة الحُسْن والجمال، ورشيقة القَدِّ والاعتدال، كما قال فيها بعض واصفيها:
ثم إن الأعجمي نزل عن بغلته وأنزَلَ الصبِيَّة، وصاح على الدلَّال، فحضر بين يدَيْه فقال له: خُذْ هذه الجارية، ونادِ عليها في السوق. فأخذها الدلَّال ونزل بها إلى وسط السوق وغاب ساعةً، ثم عاد ومعه كرسي من الأبنوس مزركش بالعاج الأبيض، فوضعه الدلَّال على الأرض وأجلس عليه تلك الصبِيَّة، ثم كشف القناع عن وجهها، فبانَ من تحته وجهٌ كأنه ترس ديلمي أو كوكب دري، وهي كأنها البدر إذا بدر في ليلة أربعة عشر، بغاية الجمال الباهر كما قال الشاعر:
وما أحسن قول الشاعر:
فعند ذلك قال الدلَّال للتجار: كم دفعْتُم في دُرَّة الغوَّاص وفَلِيتة القنَّاص؟ فقال له تاجرٌ من التجار: عليَّ بمائة دينار. وقال آخَر: بمائتين. وقال آخَر: بثلاثمائة. ولم يَزَلِ التجارُ يتزايدون في تلك الجارية إلى أن أوصلوا ثمنها إلى تسعمائة وخمسين دينارًا، وتوقَّفَ البيع على الإيجاب والقبول. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.