فلما كانت الليلة ٧٤٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن جلناز البحرية لما سألها الملك شهرمان حكت له قصتها من أولها إلى آخرها، فلما سمع كلامها شكرها وقبَّلها بين عينيها، وقال لها: والله يا سيدتي ونور عيني إني لا أقدر على فراقك ساعة واحدة، وإنْ فارقتِني متُّ من ساعتي، فكيف يكون الحال؟ فقالت: يا سيدي، قد قرب أوان ولادتي، ولا بد من حضور أهلي لأجل أن يباشروني؛ لأن نساء البر لا يعرفن طريقة ولادة بنات البحر، وبنات البحر لا يعرفن طريقة ولادة بنات البر، فإذا حضر أهلي أنقلب معهم وينقلبون معي. فقال لها الملك: وكيف يمشون في البحر ولا يبتلون؟ فقالت: إنا نمشي في البحر كما تمشون أنتم في البر، ببركة الأسماء المكتوبة على خاتم سليمان بن داود عليهما السلام، ولكن أيها الملك إذا جاء أهلي وإخواتي، فإني أُعلِمهم أنك اشتريتني بمالك، وفعلتَ معي الجميل والإحسان، فينبغي أن تصدق كلامي عندهم ويشاهدون حالك بعيونهم، ويعلمون أنك ملك ابن ملك. فعند ذلك قال الملك: يا سيدتي، افعلي ما بدا لك مما تحبين؛ فإني مطيع لك في جميع ما تفعلينه. فقالت الجارية: اعلم يا ملك الزمان إنا نسير في البحر وعيوننا مفتوحة، وننظر ما فيه وننظر الشمس والقمر والنجوم والسماء كأنها على وجه الأرض، ولا يضرنا ذلك، واعلم أيضًا أن في البحر طوائف كثيرة وأشكالًا مختلفة من سائر الأجناس التي في البر، واعلم أيضًا أن جميع ما في البر بالنسبة لما في البحر شيء قليل جدًّا. فتعجب الملك من كلامها.
ثم إن الجارية أخرجت من كتفها قطعتين من العود القماري، وأخذت منهما جزءًا وأوقدت مجمرة النار، وألقت ذلك الجزء فيها وصفرت صفرة عظيمة، وصارت تتكلم بكلام لا يفهمه أحد، فطلع دخان عظيم والملك ينظر، ثم قالت للملك: يا مولاي، قم واختفِ في مخدع حتى أُرِيك أخي وأمي وأهلي من حيث لا يرونك؛ فإني أريد أن أحضرهم وتنظر في هذا المكان في هذا الوقت العجب، وتتعجَّب ممَّا خلق الله تعالى من الأشكال المختلفة والصور الغريبة. فقام الملك من وقته وساعته ودخل مخدعًا، وصار ينظر ما تفعل، فصارت تبخر وتعزم إلى أن أزبد البحر واضطرب، وخرج منه شاب مليح الصورة بهي المنظر، كأنه البدر في تمامه، بجبين أزهر وخد أحمر، وشعر كأنه الدر والجوهر، وهو أشبه الخلق بأخته، ولسان الحال في حقه ينشد هذين البيتين:
ثم خرج من البحر عجوز شمطاء، ومعها خمس جوارٍ كأنهن الأقمار، وعليهن شبه من الجارية التي اسمها جلناز. ثم إن الملك رأى الشاب والعجوز والجواري يمشين على وجه الماء حتى قدموا على الجارية، فلما قربوا من الشباك ونظرتهم جلناز قامت لهم، وقابلتهم بالفرح والسرور، فلما رأوها عرفوها ودخلوا عندها وعانقوها وبكوا بكاءً شديدًا، ثم قالوا لها: يا جلناز، كيف تتركينا أربع سنين ولم نعلم المكان الذي أنتِ فيه؟ والله إنها ضاقت علينا الدنيا من شدة فراقك، ولا نلتذُّ بطعامٍ ولا شرابٍ يومًا من الأيام، ونحن نبكي بالليل والنهار من فرط شوقنا إليك. ثم إن الجارية صارت تقبِّل يد الشاب أخيها ويد أمها، وكذلك بنات عمها، وجلسوا عندها ساعة وهم يسألونها عن حالها وما جرى لها، وعمَّا هي فيه، فقالت لهم: اعلموا أني لمَّا فارقتكم وخرجت من البحر، جلست على طرف جزيرة، فأخذني رجل وباعني لرجل تاجر، فأتى بي التاجر إلى هذه المدينة وباعني لملكها بعشرة آلاف دينار، ثم إنه احتفل بي وترك جميع سراريه ونسائه ومحاظيه من أجلي، واشتغل بي عن جميع ما عنده وما في مدينته.
فلما سمع أخوها كلامها قال: الحمد لله الذي جمع شملنا بك، لكن قصدي يا أختي أن تقومي وتروحي معنا إلى بلادنا وأهلنا. فلما سمع الملك كلام أخيها، طار عقله خوفًا على الجارية أن تقبل كلام أخيها، ولا يقدر هو أن يمنعها مع أنه مولع بحبها، فصار متحيرًا شديد الخوف من فراقها. وأما الجارية جلناز فإنها لما سمعت كلام أخيها قالت: والله يا أخي إن الرجل الذي اشتراني ملك هذه المدينة وهو ملك عظيم، ورجل عاقل كريم، جيد في غاية الجود وقد أكرمني، وهو صاحب مروءة ومال كثير، وليس له ولد ذكر ولا أنثى، وقد أحسن إليَّ وصنع معي كل خير، ومن يوم ما جئته إلى هذا الوقت ما سمعت منه كلمة رديئة تسوء خاطري، ولم يزل يلاطفني ولا يفعل شيئًا إلا بمشاورتي، وأنا عنده في أحسن الأحوال وأتم النِّعَم، وأيضًا متى فارقته يهلك فإنه لا يقدر على فراقي أبدًا ولا ساعة واحدة، وإن فارقته أنا الأخرى متُّ من شدة محبتي إياه، بسبب فرط إحسانه لي مدة مقامي عنده، فإنه لو كان أبي حيًّا لَمَا كان لي مقام عنده مثل مقامي عند هذا الملك العظيم الجليل المقدار، وقد رأيتموني حاملة منه، والحمد لله الذي جعلني بنت ملك البحر، وزوجي أعظم ملوك البر، ولم يقطع الله تعالى بي وعوَّضني خيرًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.