فلما كانت الليلة ٧٥٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك محمد بن سبائك لما قال للتاجر حسن: إنْ جئتَني بما طلبته منك فلك الإنعام الخاص، وأبشِرْ بما وعدتُكَ به، وإنْ لم تَجِئْني بذلك فلا أنت منَّا ولا نحن منك. فقبَّلَ التاجر حسن الأرضَ بين يديه وخرج، ثم اختار من مماليكه خمسة أنفس كلهم يكتبون ويقرءون، وهم فضلاء عقلاء أدباء من خواص مماليكه، وأعطى كلَّ واحد خمسة آلاف دينار، وقال لهم: أنا ما ربَّيتُكم إلا لمثل هذا اليوم، فأعينوني على قضاء غرض الملك، وأنقذوني من يده. فقالوا له: وما الذي تريد أن تفعل؟ فأرواحنا فداؤك. قال لهم: أريد أن يسافر كلُّ واحد منكم إلى إقليم، وأنْ تستقصوا على العلماء والأدباء والفضلاء، وأصحاب الحكايات الغريبة والأخبار العجيبة، وابحثوا لي عن قصة سيف المملوك، وتأتوني بها، وإذا لقيتموها عند أحد فرغِّبوه في ثمنها، ومهما طلب من الذهب والفضة فأعطوه إياه، ولو طلب منكم ألف دينار فأعطوه المتيسِّر وعِدُوه بالباقي، وأتوني بها، ومَن وقع منكم بهذه القصة وأتاني بها، فإني أعطيه الخُلَع السنية والنِّعَم الوفِيَّة، ولم يكن عندي أعز منه. ثم إن التاجر حسن قال لواحد منهم: رُحْ أنت إلى بلاد الهند والسند وأعمالها وأقاليمها. وقال للآخَر: رُحْ أنت إلى بلاد العجم والصين وأقاليمها. وقال للآخَر: رُحْ أنت إلى بلاد خراسان وأعمالها وأقاليمها. وقال للآخَر: رُحْ أنت إلى بلاد المغرب وأقطارها وأقاليمها وأعمالها وجميع أطرافها. وقال للآخَر وهو الخامس: رُحْ أنت إلى بلاد الشام ومصر وأعمالها وأقاليمها. ثم إن التاجر اختار لهم يومًا سعيدًا وقال لهم: سافروا في هذا اليوم واجتهدوا في تحصيل حاجتي ولا تتهاونوا ولو كان فيها بذل الأرواح. فودَّعوه وساروا وكل واحد منهم ذهَبَ إلى الجهة التي أمره بها، فمنهم أربعة أنفس غابوا أربعة أَشْهُر وفتَّشوا ولم يجدوا شيئًا، فضاق صدر التاجر حسن لما رجع إليه الأربعة مماليك، وأخبروه أنهم فتَّشوا المدائن والبلاد والأقاليم على مطلوب سيدهم، فلم يجدوا شيئًا منه. وأما المملوك الخامس، فإنه سافَرَ إلى أنْ دخل بلادَ الشام ووصل إلى مدينة دمشق، فوجدها مدينة طيبة أمينة ذات أشجار وأنهار وأثمار وأطيار، تسبِّح الله الواحد القهَّار، الذي خلق الليل والنهار، فأقام فيها أيامًا وهو يسأل عن حاجة سيده فلم يُجِبْه أحد، ثم إنه أراد أن يرحل منها ويسافر إلى غيرها، وإذا هو بشابٍّ يجري ويتعثَّر في أذياله، فقال له المملوك: ما بالك تجري وأنت مكروب؟ وإلى أين تقصد؟ فقال له: هنا شيخ كلَّ يوم يجلس على كرسي في مثل هذا الوقت، ويحدِّث حكاياتٍ وأخبارًا وأسمارًا مِلَاحًا لم يسمع أحدٌ مثلها، وأنا أجري حتى أجد لي موضعًا قريبًا، وأخاف أني لا أحصل لي موضعًا من كثرة الخلق. فقال له المملوك: خذني معك. فقال له الفتى: أسرِعْ في مشيتك. فغلق بابه، وأسرَعَ في السَّيْر معه حتى وصل إلى الموضع الذي يحدِّث فيه الشيخ بين الناس، فرأى ذلك الشيخ صبيحَ الوجه، وهو جالس على كرسي يحدِّث الناسَ، فجلس قريبًا منه وصغى ليسمع حديثه، فلما جاء وقت غروب الشمس فرغ الشيخ من الحديث، وسمع الناس ما تحدَّثَ به وانفضُّوا من حوله، فعند ذلك تقدَّمَ إليه المملوك وسلَّم عليه، فردَّ عليه وزاده في التحية والإكرام، فقال له المملوك: إنك يا سيدي الشيخ رجلٌ مليح محتشم، وحديثك مليح، وأريد أن أسألك عن شيء. فقال له: اسألْ عما تريد. فقال له المملوك: هل عندك قصة سمر سيف الملوك وبديعة الجمال؟ فقال له الشيخ: وممَّنْ سمعتَ هذا الكلام؟ ومَن الذي أخبَرَك بذلك؟ فقال المملوك: أنا ما سمعتُ ذلك من أحد، ولكن أنا من بلادٍ بعيدة وجئتُ قاصدًا لهذه القصة، فمهما طلبتَ من ثمنها أعطيك إنْ كانت عندك وتُنعِم وتتصدَّق عليَّ بها، وتجعلها من مكارم أخلاقك صدقةً عن نفسك، ولو أن روحي في يدي وبذلتها لك فيها لطاب خاطري بذلك. فقال له الشيخ: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا وهي تحضر لك، ولكن هذا سمر لا يتحدَّث به أحد على قارعة الطريق، ولا أعطي هذه القصة لكل أحد. فقال له المملوك: بالله يا سيدي لا تبخل عليَّ بها، واطلبْ مهما أردتَ. فقال له الشيخ: إنْ كنتَ تريد هذه القصة فأعطني مائة دينار، وأنا أعطيك إياها، ولكن بخمسة شروط. فلما عرف أنها عند الشيخ، وأنه سمح له بها، فرح فرحًا شديدًا وقال له: أعطيك مائة دينار ثمنها وعشرة جعالة، وآخذها بالشروط التي ذكرتَها. فقال له الشيخ: رُحْ هات الذهب وخذ حاجتك. فقام المملوك، وقبَّلَ يدي الشيخ وراح إلى منزله فَرِحًا مسرورًا، وأخذ في يده مائةَ دينار وعشرة، ووضعها في كيس كان معه، فلما أصبح الصباح قام ولبس ثيابه، وأخذ الدنانير وأتى بها إلى الشيخ، فرآه جالسًا على باب داره، فسلَّمَ عليه فردَّ عليه السلام، فأعطاه المائة دينار وعشرة، فأخذها منه الشيخ وقام ودخل داره وأدخَلَ المملوك وأجلسه في مكانٍ وقدَّمَ له دواةً وقلمًا وقرطاسًا، وقدَّمَ له كتابًا وقال له: اكتبِ الذي أنت طالبه من هذا الكتاب من قصة سمر سيف الملوك. فجلس المملوك يكتب هذه القصة إلى أن فرغ من كتابتها، ثم قرأها على الشيخ وصحَّحَها، وبعد ذلك قال له الشيخ: اعلمْ يا ولدي أن أول شرطٍ أنك لا تقول هذه القصة على قارعة الطريق، ولا عند النساء والجواري، ولا عند العبيد والسفهاء، ولا عند الصبيان، وإنما تقرؤها عند الأمراء والملوك والوزراء، وأهل المعرفة من المفسِّرين وغيرهم. فقَبِل المملوكُ الشروطَ، وقبَّلَ يدَي الشيخ وودَّعَه، وخرج من عنده. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.