فلما كانت الليلة ٧٥٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مملوكَ حسن لما نقل القصة من كتاب الشيخ الذي بالشام، وأخبره بالشروط وودَّعه، وخرج من عنده وسافَرَ في يومه فرحانًا مسرورًا، ولم يزل مُجِدًّا في السير من كثرة الفرح الذي حصل له بسبب تحصيله لقصة سمر سيف الملوك حتى وصل إلى بلاده، وأرسل تابِعَه يبشِّر التاجر ويقول له: إن مملوكك قد وصل سالمًا وبلغ مراده ومقصوده. وحين وصل المملوك إلى مدينة سيده وأرسَلَ إليه البشير لم يَبْقَ من الميعاد الذي بين الملك وبين التاجر حسن غير عشرة أيام، ودخل على سيده التاجر وأخبره بما حصل له، ففرح فرحًا عظيمًا واستراح المملوك في مكانِ خلوته، وأعطى سيده الكتاب الذي فيه قصة سيف الملوك وبديع الجمال. فلما رأى سيده ذلك خلع على المملوك جميعَ ما كان عليه من ملابسه وأعطاه عشرة من الخيل الجياد، وعشرة من الجمال، وعشرة من البغال، وثلاثة عبيد ومملوكَيْن. ثم إن التاجر أخذ القصةَ وكتبها بخطه مفسَّرة، وطلع إلى الملك وقال له: أيها الملك السعيد، إني جئتُ بسمرٍ وحكايات مليحة نادرة لم يسمع مثلَها أحدٌ قطُّ. فلما سمع الملك كلامَ التاجر حسن أمَرَ في وقته وساعته بأن يحضر كل أمير عاقل، وكل عالم فاضل، وكل أديب وشاعر ولبيب، وجلس التاجر حسن وقرأ هذه السيرة عند الملك، فلما سمعها الملك وكلُّ مَن كان حاضرًا تعجَّبوا واستحسنوها، وكذلك استحسنها الذين كانوا حاضرين ونثروا عليه الذهب والفضة والجواهر، ثم أمر الملك للتاجر حسن بخلعة سنية من أفخر ملبوسه، وأعطاه مدينة كبيرة بقلاعها وضياعها، وجعله من أكابر وزرائه وأجلسه على يمينه، ثم أمر الكتَّابَ أن يكتبوا هذه القصة بالذهب ويجعلوها في خزائنه الخاصة، وصار الملك كلما ضاق صدره يُحضِر التاجر حسن فيقرؤها.
ومضمون هذه القصة أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، في مصر ملك يُسمَّى عاصم بن صفوان، وكان ملكًا سخيًّا جوَّادًا صاحب هيبة ووقار، وكان له بلاد كثيرة وقلاع وحصون وجيوش وعساكر، وكان له وزير يُسمَّى فارس بن صالح، وكانوا جميعًا يعبدون الشمس والنار دون الملك الجبار الجليل القهار. ثم إن هذا الملك صار شيخًا كبيرًا قد أضعَفَه الكِبَر والسَّقَم والهَرَم؛ لأنه عاش مائة وثمانين سنة، ولم يكن له ولد ذكر ولا أنثى، وكان بسبب ذلك في همٍّ وغمٍّ ليلًا ونهارًا، فاتفق أنه كان جالسًا يومًا من الأيام على سرير ملكه والأمراء والوزراء والمقدمون وأرباب الدولة في خدمته على جري عادتهم، وعلى قدر منازلهم، وكل مَن دخل عليه من الأمراء ومعه ولد أو ولدان يحسده الملك ويقول في نفسه: كلُّ واحد مسرورٌ فرحان بأولاده، وأنا ما لي ولد، وفي غدٍ أموت وأترك مُلْكي وتختي وضِياعي وخزائني وأموالي، وتأخذها الغرباء، وما يذكرني أحدٌ قطُّ ولا يبقى لي ذِكْر في الدنيا. ثم إن الملك عاصم استغرق في بحر الفكر، ومن كثرة توارُد الأحزان والأفكار على قلبه، بكى ونزل من فوق تخته وجلس على الأرض يبكي ويتضرَّع، فلما رآه الوزير والجماعة الحاضرون من أكابر الدولة فعل بنفسه ذلك، صاحوا على الناس وقالوا لهم: اذهبوا إلى منازلكم واستريحوا حتى يفيق الملك ممَّا هو فيه. فانصرفوا ولم يَبْقَ غير الملك والوزير، فلما أفاق الملك قبَّلَ الوزير الأرضَ بين يدَيْه وقال له: يا ملك الزمان، ما سبب هذا البكاء؟ فأخبِرْني بمَن عاداك من الملوك وأصحاب القلاع أو من الأمراء وأرباب الدولة، وعرِّفني بمَن يخالفك أيها الملك حتى نكون كلنا عليه ونأخذ روحه من بين جنبَيْه. فلم يتكلم الملك ولم يرفع رأسه. ثم إن الوزير قبَّلَ الأرضَ بين يدَيْه ثانيًا وقال له: يا ملك الزمان، أنا مثل ولدك وعبدك، وقد ربَّيْتَني، فأنا لم أعرف سببَ غمِّك وهمِّك وجزعك وما أنت فيه، فمَن يعرف غيري ويقوم مقامي بين يديك؟ فأخبِرْني بسبب هذا البكاء والحزن. فلم يتكلم ولم يفتح فاه، ولم يرفع رأسه، وما زال يبكي ويصوت بصوتٍ عالٍ وينوح بنواحٍ زائد ويتأوَّه، والوزير صابر له. ثم بعد ذلك قال له الوزير: إنْ لم تَقُلْ لي ما سبب ذلك وإلا قتلتُ نفسي بين يدَيْك من ساعتي، وأنت تنظر ولا أراك مهمومًا. ثم إن الملك عاصمًا رفع رأسه ومسح دموعه، وقال: يا أيها الوزير الناصح، خلِّني بهمِّي وغمِّي، فالذي في قلبي من الأحزان يكفيني. فقال له الوزير: قُلْ لي أيها الملك ما سبب هذا البكاء، لعلَّ الله يجعل الفرجَ على يدي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.