فلما كانت الليلة ٧٦١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك والوزير لما أعطيَا الطباخ لحمَ الثعبانَيْن، وقالا له: اطبخْه واغرفْه في زبديتين وهاتهما هنا، ولا تبطئ. أخذ الطباخ اللحمَ وذهب به إلى المطبخ وطبخه، وأتقن طبخه بتقلية عظيمة، ثم غرفه في زبديتين وأحضرهما بين يدي الملك والوزير، فأخذ الملك زبدية والوزير زبدية وأطعماهما لزوجتَيْهما، وباتا تلك الليلة معهما، فبإرادة الله سبحانه وتعالى وقدرته ومشيئته حملتَا في تلك الليلة، فمكث الملك بعد ذلك ثلاثة أشهر، وهو متشوش الخاطر يقول في نفسه: يا تُرَى، هل هذا الأمر صحيح أم غير صحيح؟ ثم إن زوجته كانت جالسة يومًا من الأيام فتحرك الولد في بطنها، فعلمت أنها حامل، فتوجعت وتغيَّرَ لونها، وطلبت واحدًا من الخدام الذين عندها وهو أكبرهم، وقالت: اذهبْ إلى الملك في أي موضع يكون، وقل له: يا ملك الزمان، أبشِّرك أن سيدتنا ظهر حملها والولد قد تحرَّكَ في بطنها. فخرج الخادم سريعًا وهو فرحان، فرأي الملك وحده ويده على خده، وهو متفكِّر في ذلك، فأقبَلَ عليه الخادم وقبَّلَ الأرض بين يديه، وأخبره بحمل زوجته، فلما سمع كلامَ الخادم نهض قائمًا على قدمَيْه، ومن شدة فرحه قبَّلَ يدَ الخادم ورأسَه، وخلع ما كان عليه وأعطاه إياه، وقال لمَن كان حاضرًا في مجلسه: مَن كان يحبني فَلْيُنْعِم عليه. فأعطوه من الأموال والجواهر واليواقيت والخيل والبغال والبساتين شيئًا لا يُعَد ولا يُحصَى.
ثم إن الوزير دخل في ذلك الوقت على الملك وقال: يا ملك الزمان، أنا في هذه الساعة كنت قاعدًا في البيت وحدي، وأنا مشغول الخاطر متفكِّر في شأن الحمل، وأقول في نفسي: يا تُرَى هل هو حق؟ وإن خاتون تحبل أم لا؟ وإذا بالخادم دخل عليَّ، وبشَّرَني بأن زوجتي خاتون حامل، وأن الولد قد تحرَّكَ في بطنها وتغيَّرَ لونها، فمن فرحتي خلعتُ ما كان عليَّ من القماش وأعطيتُ الخادم إياه، وأعطيته ألف دينار وجعلته كبيرَ الخدام. ثم إن الملك عاصمًا قال: يا وزير، إن الله تبارك وتعالى أنعَمَ علينا بفضله وإحسانه وجوده وامتنانه، وبالدين القويم، وأكرمنا بكرمه وفضله، وقد أخرجنا من الظلمات إلى النور، وأريد أن أفرِّج على الناس وأُفرِحهم. فقال الوزير: افعلْ ما تريد؟ فقال: يا وزير، انزلْ في هذا الوقت، وأخرِجْ كلَّ مَن كان في الحبس من أصحاب الجرائم، ومَن عليهم ديون، وكل مَن وقع منه ذنب، بعد ذلك نجازيه بما يستحقه، ونرفع عن الناس الخراج ثلاثَ سنوات، وانصبْ في دائر هذه المدينة مطبخًا حول الحيطان، ومُرِ الطبَّاخين أن يعلِّقوا عليه جميعَ أنواع القدور، وأن يطبخوا سائر أنواع الطعام، ويداوموا الطبخ بالليل والنهار، وكل مَن كان في هذه المدينة وما حولها من البلاد البعيدة والقريبة يأكلون ويشربون ويحملون إلى بيوتهم، ومُرْهم أن يفرحوا ويزيِّنوا المدينةَ سبعةَ أيام، ولا يقفلوا حوانيتهم ليلًا ولا نهارًا.
فخرج الوزير من وقته وساعته وفعل ما أمره به الملك عاصم، وزيَّنوا المدينةَ والقلعةَ والأبراجَ أحسن الزينة، ولبسوا أحسن ملبوس، وصار الناس في أكل وشرب ولعب وانشراح إلى أن حصل الطلق لزوجة الملك بعد انقضاء أيامها، فوضعَتْ ولدًا ذكرًا كالقمر ليلة تمامه فسمَّاه سيف الملوك، وكذلك زوجة الوزير وضعَتْ ولدًا كالصباح، فسمَّاه ساعدًا. فلما بلغا رشدهما صار الملك عاصم كلما ينظرهما يفرح بهما الفرحَ الشديد، فلما صار عمرهما عشرين سنة طلب الملكُ وزيرَه فارسًا في خلوة، وقال له: يا وزير، قد خطر ببالي أمرٌ أريد أن أفعله ولكن أستشيرك فيه. فقال له الوزير: مهما خطر ببالك فافعلْه، فإن رأيك مبارك. فقال الملك عاصم: يا وزير، أنا صرت رجلًا كبيرًا شيخًا هَرِمًا؛ لأني طعنتُ في السن، وأريد أن أقعد في زاوية لأعبد الله تعالى، وأعطي ملكي وسلطنتي لولدي سيف الملوك؛ فإنه صار شابًّا مليحًا كاملَ الفروسيةِ والعقل والأدب والحشمة والرياسة، فما تقول أيها الوزير في هذا الرأي؟ فقال الوزير: نِعْمَ الرأي الذي رأيتَه، وهو رأي مبارك سعيد، فإذا فعلتَ أنت هذا فأنا الآخَر أفعل مثلك، ويكون ولدي ساعدٌ وزيرًا له؛ لأنه شاب مليح ذو معرفة ورأي، ويصير الاثنان مع بعضهما، ونحن ندبِّر شأنهما ولا نتهاون في أمرهما، بل ندلُّهما على الطريق المستقيم.
ثم قال الملك عاصم لوزيره: اكتبِ الكُتُبَ وأرسِلْها مع السعاة إلى جميع الأقاليم والبلاد والحصون والقلاع التي تحت أيدينا، ومُرْ أكابرها أن يكونوا في الشهر الفلاني حاضرين في ميدان الفيل. فخرج الوزير فارس من وقته وساعته، وكتب إلى جميع العمَّال وأصحاب القلاع، ومَن كان تحت حكم الملك عاصم، أنْ يحضروا جميعهم في الشهر الفلاني، وأمَرَ أن يحضر كلُّ مَن في المدينة من قاصٍ ودان، ثم إن الملك عاصمًا بعد مضيِّ غالبِ تلك المدة أمَرَ الفرَّاشين أن يضربوا القباب في وسط الميدان، وأن يزيِّنوها بأفخر الزينة، وأن ينصبوا التخت الكبير الذي لا يقعد عليه الملك إلا في الأعياد، ففعلوا في الحال جميعَ ما أمرهم به ونصبوا التخت، وخرجت النواب والحجاب والأمراء، وخرج الملك وأمر أن يُنادَى في الناس: باسم الله ابرزوا إلى الميدان. فبرز الأمراء والوزراء وأصحاب الأقاليم والضياع إلى ذلك الميدان، ودخلوا في خدمة الملك على جري عادتهم، واستقروا كلهم في مراتبهم، فمنهم مَن قعد ومنهم مَن وقف إلى أن اجتمعت الناس جميعهم، وأمر الملك أن يمدوا السماط فمدوه وأكلوا وشربوا ودعوا للملك.
ثم أمر الملك الحجَّاب أن ينادوا في الناس بعدم الذهاب، فنادوا وقالوا في المناداة: لا يذهب منكم أحدٌ حتى يسمع كلام الملك. ثم رفعوا الستور، فقال الملك: مَن أحَبَّني فَلْيمكثْ حتى يسمع كلامي. فقعد الناس جميعهم مطمئني النفوس بعد أن كانوا خائفين، ثم قام الملك على قدميه وحلَّفَهم ألَّا يقوم أحد من مقامه، وقال لهم: أيها الأمراء والوزراء وأرباب الدولة، كبيركم وصغيركم، ومَن حضر من جميع الناس، هل تعلمون أن هذه المملكة لي وراثة عن آبائي وأجدادي؟ قالوا له: نعم أيها الملك، كلنا نعلم ذلك. فقال لهم: أنا وأنتم كنا كلنا نعبد الشمس والقمر، ورزقنا الله تعالى الإيمان، وأنقذنا من الظلمات إلى النور، وهدانا الله سبحانه وتعالى إلى دين الإسلام، واعلموا أني الآن صرتُ رجلًا كبيرًا شيخًا هرمًا عاجزًا، وأريد أن أجلس في زاوية أعبد الله تعالى فيها، وأستغفره من الذنوب الماضية، وهذا ولدي سيف الملوك حاكم، وتعرفون أنه شاب مليح فصيح خبير بالأمور عاقل فاضل عادل، فأريد في هذه الساعة أن أعطيه مملكتي وأجعله ملكًا عليكم عوضًا عني، وأجلسه سلطانًا في مكاني، وأتخلَّى أنا لعبادة الله تعالى في زاوية، وابني سيف الملوك يتولَّى المُلْك ويحكم بينكم؛ فأي شيء قلتم كلكم بأجمعكم؟ فقاموا كلهم وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه، وأجابوا بالسمع والطاعة، وقالوا: يا ملكنا وحامينا، لو أقمتَ علينا عبدًا من عبيدك لَأطعناه وسمعنا قولك وامتثلنا أمرك، فكيف بولدك سيف الملوك؟ قَبِلناه ورضيناه على العين والرأس. فقام الملك عاصم بن صفوان، ونزل من فوق سريره، وأجلَسَ ولدَه على التخت الكبير، ورفع التاج من فوق رأس نفسه، ووضعه فوق رأس ولده، وشد وسطه بمنطقة الملك، وجلس الملك عاصم على كرسي مملكته بجانب ولده، فقام الأمراء والوزراء وأكابر الدولة وجميع الناس، وقبَّلوا الأرض بين يدَيْه وصاروا وقوفًا يقولون لبعضهم: هو حقيق بالملك، وهو أولى به من الغير. ونادوا بالأمان، ودعوا له بالنصر والإقبال. ونثر سيفُ الملوك الذهبَ والفضةَ على رءوس الناس أجمعين. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.