فلما كانت الليلة ٧٢٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أعطى الشيخ البستاني الذي في البستان الخمسمائة دينار وقال له: خذ هذه الدنانير وأنفقها على عيالك ودعهم يدعون لي ولولدي هذا. فنظر الشيخ إلى ذلك الذهب، فخرج عقله وانطرح على قدمي الوزير يقبِّلهما، وصار يدعو له ولولده، ولما انصرفا من عنده قال لهما: إني لكما غدًا في الانتظار، والله تعالى لا يفرق بيني وبينكما لا ليلًا ولا نهارًا. فلما كان في اليوم الثاني جاء الوزير إلى ذلك المكان وطلب عريف البنائين، فلما حضر بين يديه أخذه الوزير وتوجه به إلى البستان، فلما رآه الخولي فرح به، ثم إن الوزير أعطاه ثمن المئونة وما يحتاج إليه العملة في عمارة ذلك القصر، فبنوه وبيضوه ودهنوه، فقال الوزير للدهانين: يا أيها المعلمون، أصغوا إلى كلامي وافهموا قصدي ومرامي، واعلموا أن لي بستانًا مثل هذا المكان كنت نائمًا فيه ليلةً من الليالي، فرأيت في المنام أن صيادًا نصب شَرَكًا ونثر حوله قمحًا، فاجتمعت عليه الطيور لتلتقط القمح، فوقع طيرٌ ذَكَر في الشَّرَك ونفرت عنه جميع الطيور ومن جملتها أنثى ذلك الذكر، ثم أن تلك الأنثى غابت ساعة وعادت إليه وحدها وقرضت العين التي في رِجْل ذَكَرها حتى خلَّصته، وكان الصياد في ذلك الوقت نائمًا، فلما أفاق من نومه وجد الشَّرَك مختلًّا فأصلحه وجدَّدَ نثْرَ القمح مرةً ثانية، وقعد بعيدًا عنه ينتظر وقوع صيد في ذلك الشَّرَك، فتقدمت الطيور لتلتقط القمح، فتقدم الطير والطيرة من جملة الطير، فانشبكت الطيرة في الشَّرَك ونفر الطير جميعه عنها وطيرها الذَّكَر من جملة الطير ولم يَعُدْ إليها، فقام الصياد وأخذ الطيرة وذبحها. وأما الذكر فإنه لما نفر مع الطيور قد اختطفه جارح من الجوارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، وأنا أشتهي منكم أن تصوِّروا لي هذا المنام جميعه على صفات ما ذكرتُ لكم بالدهان الجيد، وتجعلوا ذلك منالًا في تزاويق البستان وحيطانه وأشجاره وأطياره، وتصوروا مثال الصياد وشَرَكه وصفة ما جرى للطير الذكر مع الجارح حين اختطفه، فإذا فعلتم ما شرحت لكم ونظرته وأعجبني، فإني أُنْعِم عليكم بما يسرُّ خاطركم زيادة عن أجرتكم.
فلما سمع كلامه الدهانون اجتهدوا في الدهان وأتقنوه غاية الإتقان، فلما انتهى وخلص أطلعوا الوزير عليه، فأعجبه ونظر إلى تصوير المنام الذي وصفه للدهانين كأنه هو، فشكرهم وأنعم عليهم بجزيل الإنعام. ثم أتى ابن الملك على العادة ودخل ذلك القصر ولم يعلم بما فعله الوزير، فلما نظر إليه رأى صفة البستان والصياد والشَّرَك والطيور والطير الذَّكَر وهو بين مخالب الجارح وقد ذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، فتحيَّرَ عقله، ثم رجع إلى الوزير وقال: أيها الوزير الحَسَن التدبير، إني رأيت اليوم عجبًا لو كُتِب بالإبر على مآقي البصر، لَكان عِبْرةً لمَن اعتبر. قال: وما هو يا سيدي؟ قال: أَمَا أخبرتك بالمنام الذي رأته بنت الملك، وأنه هو السبب في بغضها الرجال؟ قال: نعم. ثم قال: والله يا وزير لقد رأيته مصورًا في جملة النقش بالدهان حتى كأني عاينته عيانًا، ووجدتُ شيئًا آخَر خفي أمره على ابنة الملك فما رأته، وهو الذي عليه الاعتماد في نيل المراد. قال: وما هو يا ولدي؟ قال: وجدت الطير الذكر لما غاب عن طيرته حين وقعت في الشَّرَك ولم يرجع إليها، قد قبض عليه جارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، فيا ليت بنت الملك كانت رأت المنام كله وقصته لآخِره وعاينَتِ الطير الذكر لمَّا اختطفه الجارح، وهذا سبب عدم عوده إليها وتخليصها من الشَّرَك. قال له الوزير: أيها الملك السعيد، والله إن هذا أمر عجيب وهو من الغرائب. وصار ابن الملك يتعجب من هذا الدهان، ويتأسف حيث لم تره ابنة الملك إلى آخره ويقول في نفسه: يا ليتها رأت هذا المنام إلى آخِره، أو تراه جميعه مرةً ثانية ولو في أضغاث الأحلام. قال الوزير: إنك كنت قلت لي: ما سبب عمارتك في هذا المكان؟ فقلت لك: سوف يظهر لك نتيجة ذلك، والآن قد ظهر لك نتيجته، وأنا الذي قد فعلت ذلك الأمر وأمرت الدهانين بتصوير المنام، وأن يجعلوا الطير الذكر في مخالب الجارح وقد ذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، حتى إذا نزلت بنت الملك ونظرت إلى هذا الدهان ترى صورة هذا المنام وتنظر إلى الطير وقد ذبحه الجارح، فتعذره وترجع عن بغضها الرجال.
فلما سمع ابن الملك هذا الكلام، قبَّلَ أيادي الوزير وشكره على فعله وقال له: مثلك يكون وزير الملك الأعظم، والله لئن بلغت قصدي ورجعت مسرورًا إلى الملك، لَأعلمنه بذلك حتى يزيدك في الإكرام ويعظم شأنك ويسمع كلامك. فقبَّلَ الوزير يده، ثم إنهما ذهبا إلى الشيخ البستاني وقالا له: انظر إلى هذا المكان وما أحسنه. قال الشيخ: كل هذا بسعادتكم. ثم قالا له: يا شيخ، إذا سألك أصحاب هذا المكان عن عمارة هذا القصر، فقل لهم: أنا عمَّرته من مالي. لأجل أن يحصل لك الخير والإنعام. فقال: سمعًا وطاعة. وصار ابن الملك لا ينقطع عن ذلك الشيخ.
هذا ما جرى من الوزير وابن الملك، وأما ما كان من أمر حياة النفوس، فإنها لما انقطعت عنها الكتب والمراسلة وغابت عنها العجوز، فرحت فرحًا شديدًا واعتقدت أن الغلام سافر إلى بلاده، فلما كان في بعض الأيام حضر إليها طبقٌ مغطًّى من عند أبيها، فكشفته فوجدتْ فيه فاكهة مليحة، فسألت وقالت: هل جاء أوان هذه الفاكهة؟ قالوا: نعم. قالت: يا ليتني تجهَّزْتُ للفرجة في البستان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.