فلما كانت الليلة ٧٦٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سيفَ الملوك ابن الملك عاصم، والوزيرَ ساعدًا ابن الوزير فارس لما قرآ الكتابة التي على القباء، ورأيا فيها صورة بديعة الجمال بنت شماخ بن شاروخ ملك بابل، من ملوك الجان المؤمنين النازلين بمدينة بابل، الساكنين في بستان إرم بن عاد الأكبر؛ قال الوزير ساعد للملك سيف الملوك: يا أخي، أتعرف مَن صاحبة هذه الصورة من النساء حتى تفتش عليها؟ فقال سيف الملوك: لا والله يا أخي ما أعرف صاحبة هذه الصورة. فقال ساعد: تعالَ اقرأ هذه الكتابة. فتقدَّمَ سيف الملوك، وقرأ الكتابة التي على التاج وعرف مضمونها، فصرخ من صميم قلبه وقال: آه آه! فقال له ساعد: يا أخي، إن كانت صاحبة هذه الصورة موجودة، واسمها بديعة الجمال وهي في الدنيا، فأنا أُسرِع في طلبها من غير مهلة حتى تبلغ مرادك، فبالله يا أخي أن تترك البكاء لأجل أن تدخل أهل الدولة في خدمتك، فإذا كان ضحوة النهار فاطلُبِ التجار والفقراء والسواحين والمساكين واسألهم عن صفات هذه المدينة، لعل أحدًا ببركة الله سبحانه وتعالى وعونه يدلُّنا عليها وعلى بستان إرم.
فلما أصبح الصباح، قام سيف الملوك وطلع فوق التخت وهو معانق للقباء؛ لأنه صار لا يقوم ولا يقعد ولا يأتيه نوم إلا وهو معه، فدخلت عليه الأمراء والوزراء والجنود وأرباب الدولة، فلما تم الديوان وانتظم الجمع قال الملك سيف الملوك لوزيره ساعد: ابرزْ لهم، وقل لهم إن الملك حصل له تشويش، والله ما بات البارحة إلا وهو ضعيف. فطلع الوزير ساعد وأخبر الناس بما قال الملك، فلما سمع الملك عاصم ذلك لم يَهُنْ عليه ولده، فعند ذلك دعا بالحكماء والمنجمين، ودخل بهم على ولده سيف الملوك، فنظروا إليه ووصفوا له الشراب، واستمر موضعَه مدةَ ثلاثة أشهر، فقال الملك عاصم للحكماء الحاضرين وهو مغتاظ عليهم: ويلكم يا كلاب، هل عجزتم كلكم عن مداواة ولدي؟ فإن لم تداووه في هذه الساعة أقتلكم جميعًا. فقال رئيسهم الكبير: يا ملك الزمان، إننا نعلم أن هذا ولدك، وأنت تعلم أننا لا نتساهل في مداواة الغريب، فكيف بمداواة ولدك؟ ولكن ولدك به مرض صعب، إنْ شئتَ معرفتَه نذكره لك ونحدِّثك به. قال الملك عاصم: أي شيء ظهر لكم من مرض ولدي؟ فقال له الحكيم الكبير: يا ملك الزمان، إن ولدك الآن عاشق ويحب مَن لا سبيلَ إلى وصاله. فاغتاظ الملك عليهم وقال: من أين علمتم أن ولدي عاشق؟ ومن أين جاء العشق لولدي؟ فقالوا له: اسأل أخاه ووزيره ساعدًا، فإنه هو الذي يعلم حاله. فعند ذلك قام الملك عاصم ودخل في خزانة وحده، ودعا بساعد وقال له: اصدُقْني بحقيقة مرض أخيك. فقال له: ما أعلم حقيقته. فقال الملك للسياف: خذ ساعدًا واربط عينيه واضرب رقبته. فخاف ساعد على نفسه، وقال: يا ملك الزمان، اعطِني الأمان. فقال له: قُلْ لي ولك الأمان. فقال له ساعد: إن ولدك عاشق. فقال له الملك: ومَن معشوقه؟ فقال ساعد: بنت ملك من ملوك الجان، فإنه رأى صورتها في قباء من البقجة التي أهداها إليكم سليمان نبي الله.
فعند ذلك قام الملك عاصم ودخل على ابنه سيف الملوك، وقال له: يا ولدي، أي شيء دهاك؟ وما هذه الصورة التي عشقتَها؟ ولأي شيء لم تخبرني؟ فقال سيف الملوك: يا أبت، كنتُ أستحيي منك، وما كنت أقدر أن أذكر لك، ولا أقدر أن أُظهِر أحدًا على شيء منه أبدًا، والآن قد علمتَ بحالي، فانظرْ كيف تعمل في مداواتي. فقال له أبوه: كيف تكون الحيلة؟ لو كانت هذه من بنات الإنس كنَّا دبَّرْنا حيلةً في الوصول إليها، ولكن هذه من بنات ملوك الجان، ومَن يقدر عليها إلا إذا كان سليمان بن داود؟ فإنه هو الذي يقدر على ذلك، ولكن يا ولدي قُمْ في هذه الساعة، وقوِّ روحك، واركبْ ورح إلى الصيد والقنص واللعب في الميدان، واشتغل بالأكل والشرب، واصرف الهمَّ والغمَّ عن قلبك، وأنا أجيء لك بمائة بنت من بنات الملوك، وما لك حاجة ببنات الجان التي ليس لنا قدرة عليهم، ولا هم من جنسنا. فقال له: أنا ما أتركها ولا أطلب غيرها. فقال له: كيف يكون العمل يا ولدي؟ فقال له ابنه: احضر لنا جميع التجار والمسافرين والسواحين في البلاد لنسألهم عن ذلك، لعل الله يدلنا على بستان إرم، وعلى مدينة بابل. فأمر الملك عاصم أن يحضر كل تاجر في المدينة، وكل غريب فيها، وكل رئيس في البحر، فلما حضروا سألهم عن مدينة بابل وعن جزيرتها وعن بستان إرم، فما أحد منهم عرف هذه الصفة، ولا أخبر عنها بخبر، وعند انفضاض المجلس قال واحد منهم: يا ملك الزمان، إنْ كنتَ تريد أن تعرف ذلك فعليك ببلاد الصين، فإنها مدينة كبيرة، ولعل أحدًا منها يدلك على مقصودك.
ثم إن سيف الملوك قال: يا أبي، جهِّزْ لي مركبًا للسفر إلى بلاد الصين. فقال له أبوه الملك عاصم: يا ولدي، اجلسْ أنت على كرسي مملكتك واحكم في الرعية، وأنا أسافر إلى بلاد الصين وأمضي إلى هذا الأمر بنفسي. فقال سيف الملوك: يا أبي، إن هذا الأمر مُتعلقٌ بي وما، يقدر أحد أن يفتش عليه مثلي، وأي شيء يجري إذا كنتَ تعطيني إذنًا بالسفر، وأتغرَّب مدةً من الزمان؟ فإنْ وجدتُ لها خبرًا حصل المراد، وإنْ لم أجد لها خبرًا يكون في السفر انشراح صدري، ونشاط خاطري، ويهون أمري بسبب ذلك، وإن عشتُ رجعتُ إليك سالمًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.