فلما كانت الليلة ٧٦٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك لما أراد أن يرمي نفسه في البحر منعته المماليك، وقالوا له: أي شيء يفيدك من هذا؟ فأنت الذي فعلتَ بنفسك هذه الفعال، ولكن هذا شيء مكتوب من القِدَم بإرادة بارئ النسم، حتى يستوفي العبد ما كتب الله عليه، وقد قال المنجِّمون لأبيك عند ولادتك: إن ابنك هذا تجري عليه الشدائد كلها، وحينئذٍ ليس لنا حيلة إلا الصبر حتى يفرِّج الله علينا الكرب الذي نحن فيه. فقال سيف الملوك: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لا مفرَّ من قضاء الله تعالى ولا مهرب. ثم إنه تنهَّدَ وأنشد هذه الأبيات:
ثم غرق في بحر الأفكار، وجرَتْ دموعه على خده كالمدرار، ونام ساعة من النهار، ثم استفاق وطلب شيئًا من الأكل، فأكل حتى اكتفى ورفعوا الزاد من قدامه والزورق سائر بهم، ولم يعلموا إلى أي جهةٍ يتوجه بهم، ولم يزل يسير بهم مع الأمواج والرياح ليلًا ونهارًا مدةً مديدة من الزمان، حتى فرغ منهم الزاد، وذهلوا عن الرشاد، وصاروا في أشد ما يكون من الجوع والعطش والقلق، وإذا بجزيرة قد لاحت لهم على بُعْدٍ، فصارت الرياح تسوقهم إلى أن وصلوا إليها وأرسوا عليها، وطلعوا من الزورق وتركوا فيه واحدًا، ثم توجَّهوا إلى تلك الجزيرة، فرأوا فيها فواكه كثيرة من سائر الألوان، فأكلوا منها حتى اكتفوا، وإذا بشخص جالس بين تلك الأشجار، طويل الوجه، رؤيته عجيبة، أبيض اللحية والبدن، فنادى بعض المماليك باسمه وقال له: لا تأكلْ من هذه الفواكه؛ لأنها لم تستوِ وتعالَ عندي حتى أطعمك من هذه الفواكه المستوية. فنظر إليه المملوك وظنَّ أنه من جملة الغرقى الذين غرقوا وطلع على هذه الجزيرة، ففرح برؤيته غايةَ الفرح ومشى حتى وصل قريبًا منه، وذلك المملوك لا يعلم الذي قدر عليه في الغيب، وما هو مُسطَّر على جبينه، فلما صار ذلك المملوك قريبًا منه وثب عليه ذلك الرجل لأنه مارد، وركب فوق أكتافه ولفَّ إحدى رجلَيْه على رقبته، والأخرى أرخاها على ظهره، وقال له: امشِ ما بقي لك مني خلاص، وأنت بقيت حماري. فصاح ذلك المملوك على رفقائه وصار يبكي ويقول: وا سيداه! اخرجوا وانجوا بأنفسكم من هذه الغابة واهربوا؛ لأن واحدًا من سكانها ركب فوق أكتافي، وإن البقية يطلبونكم ويريدون أن يركبوكم مثلي.
فلما سمعوا ذلك الكلام الذي قاله المملوك، هربوا كلهم ونزلوا في الزورق، فتبعوهم في البحر وقالوا لهم: أين تذهبون؟ تعالوا اقعدوا عندنا ولنركب فوق ظهوركم ونطعمكم ونسقيكم وتبقوا حميرنا. فلما سمعوا منهم هذا الكلام أسرعوا بالسير في البحر إلى أن بعدوا عنهم وتوجَّهوا متوكلين على الله تعالى. ولم يزالوا كذلك مدةَ شهر حتى بانت لهم جزيرة أخرى، فطلعوا في تلك الجزيرة فرأوا فيها فواكه مختلفة الأنواع، فاشتغلوا بأكل الفواكه، وإذا هم بشيء في الطريق يلوح على بُعْد، فلما قربوا منه نظروا إليه فرأوه بَشِع المنظر مرميًّا مثل عامود من فضة، فلكزه مملوك برجله وإذا هو شخص طويل العينين، مشقوق الرأس، وهو مُخْتَفٍ تحت إحدى أذنيه؛ لأنه كان إذا نام يحطُّ أذنَه تحت رأسه ويتغطَّى بالأذن الأخرى. ثم خطف ذلك المملوكَ الذي لكزه وراح به في وسط الجزيرة، فإذا هي كلها غيلان يأكلون بني آدم. ثم إن ذلك المملوك صاح على رفقائه وقال لهم: فوزوا بأنفسكم فإن هذه الجزيرة جزيرة الغيلان، يأكلون بني آدم ويريدون أن يقطعوني ويأكلوني. فلما سمعوا هذا الكلام ولَّوْا مُعرِضين، ونزلوا من البر إلى الزورق، ولم يجمعوا من هذه الفواكه شيئًا. وساروا مدة أيام، فاتفق أنه ظهرت لهم يومًا من الأيام جزيرة أخرى، فلما وصلوا إليها وجدوا فيها جبلًا عاليًا، فطلعوا في ذلك الجبل فرأوا فيه غابة كثيرة الأشجار وهم جياع، فاشتغلوا بأكل الفواكه، فلم يشعروا إلا وقد خرج لهم من بين الأشجار أشخاص هائلة المنظر طوال، طول كل واحد منهم خمسون ذراعًا، وأنيابه خارجة من فمه مثل أنياب الفيل، وإذا هم بشخص جالس على قطعة لباد أسود فوق صخرة من الحجر وحواليه الزنوج، وهم جماعة كثيرة واقفون في خدمته، فجاء هؤلاء الزنوج وأخذوا سيف الملوك ومماليكه وأوقفوهم بين يدي ملكهم، وقالوا: إنَّا لقينا هذه الطيور بين الأشجار. وكان الملك جائعًا، فأخذ من المماليك اثنين وذبحهما وأكلهما. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.