فلما كانت الليلة ٧٦٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الزنوج لما أخذوا الملك سيف الملوك ومماليكه، وأوقفوهم بين يدي ملكهم، وقالوا له: يا ملك، إنَّا لقينا هذه الطيور بين الأشجار. فأخذ ملكهم مملوكَيْن، وذبحهما وأكلهما، فلما رأى سيف الملوك هذا الأمر خاف على نفسه وبكى، ثم أنشد هذين البيتين:
ثم تنهد وأنشد أيضًا هذين البيتين:
فلما سمع الملك بكاءه وتعديده قال: إن هؤلاء طيور مليحة الصوت والنغمة، قد أعجبتني أصواتهم، فاجعلوا كلَّ واحد منهم في قفص. فحطوا كلَّ واحد منهم في قفص، وعلقوهم على رأس الملك ليسمع أصواتهم، وصار سيف الملوك ومماليكه في الأقفاص، والزنوج يُطعِمونهم ويسقونهم، وهم ساعة يبكون، وساعة يضحكون، وساعة يتكلمون، وساعة يسكتون، كل هذا وملك الزنوج يتلذَّذ بأصواتهم. ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان، وكان للملك بنت متزوجة في جزيرة أخرى، فسمعت أن أباها عنده طيور لها أصوات مليحة، فأرسلت جماعة إلى أبيها تطلب منه شيئًا من الطيور، فأرسل إليها أبوها سيف الملوك وثلاثة مماليك في أربعة أقفاص مع القاصد الذي جاء في طلبهم، فلما وصلوا إليها ونظرتهم أعجبوها، فأمرت أن يطلعوهم في موضع فوق رأسها، فصار سيف الملوك يتعجب مما جرى له، ويتفكر ما كان فيه من العز، وصار يبكي على نفسه والمماليك الثلاثة يبكون على أنفسهم، كل هذا وبنت الملك تعتقد أنهم يغنون. وكانت عادة بنت الملك إذا وقع عندها أحد من بلاد مصر أو من غيرها وأعجبها، يصير له عندها منزلة عظيمة، وكان بقضاء الله تعالى وقدره أنها لما رأت سيف الملوك أعجبها حسنه وجماله وقده واعتداله، فأمرت بإكرامهم.
واتفق أنها اختلت يومًا من الأيام بسيف الملوك وطلبت منه أن يجامعها، فأبى سيف الملوك ذلك، وقال لها: يا سيدتي، أنا رجل غريب وبحبِّ الذي أهواه كئيب، وما أرضى بغير وصاله. فصارت بنت الملك تلاطفه وتراوده، فامتنع منها، ولم تقدر أن تدنو منه، ولا أن تصل إليه بحالٍ من الأحوال، فلما أعياها أمره غضبت عليه وعلى مماليكه، وأمرتهم أن يخدموها وينقلوا إليها الماء والحطب، فمكثوا على هذه الحالة أربع سنوات، فأعيا سيف الملوك ذلك الحال وأرسل يتشفع عند الملكة عسى أن تعتقهم ويمضوا إلى حال سبيلهم، ويستريحوا مما هم فيه، فأرسلت أحضرت سيف الملوك وقالت: إنْ وافقتَني على غرضي أعتقتُك من الذي أنت فيه، وتروح لبلادك سالمًا غانمًا. وما زالت تتضرع إليه وتأخذ بخاطره فلم يُجِبْها إلى مقصودها، فأعرضت عنه مغضبةً، وصار سيف الملوك والمماليك عندها في الجزيرة على تلك الحالة، وعرف أهلها أنهم طيور بنت الملك فلم يتجاسر أحد من أهل المدينة على أن يضرهم بشيء، وصار قلب بنت الملك مطمئنًّا عليهم، وتحقَّقت أنهم ما بقي لهم خلاص من هذه الجزيرة، فصاروا يغيبون عنها اليومين والثلاثة، ويدورون في البرية ليجمعوا الحطب من جوانب الجزيرة، ويأتوا به إلى مطبخ بنت الملك، فمكثوا على هذه الحالة خمس سنوات، فاتفق أن سيف الملوك قعد هو ومماليكه يومًا من الأيام على ساحل البحر يتحدثون فيما جرى، فالتفت سيف الملوك فرأى نفسه في هذا المكان هو ومماليكه، فتذكَّرَ أمه وأباه وأخاه ساعدًا، وتذكَّر العزَّ الذي كان فيه، فبكى وزاد في البكاء والنحيب، وكذلك المماليك بكوا مثله.
ثم قال المماليك: يا ملك الزمان، إلى متى نبكي والبكاء لا يفيد؟ وهذا أمر مكتوب على جباهنا بتقدير الله عز وجل، وقد جرى القلم بما حكم، وما ينفعنا إلا الصبر؛ لعل الله سبحانه وتعالى الذي ابتلانا بهذه الشدة يفرجها عنا. فقال لهم سيف الملوك: يا إخوتي، كيف نعمل في خلاصنا من هذه الملعونة؟ ولا أرى لنا خلاصًا إلا أن يخلصنا الله منها بفضله، ولكن خطر ببالي أننا نهرب ونستريح من هذا التعب. فقالوا له: يا ملك الزمان، أين نروح من هذه الجزيرة، وهي كلها غيلان يأكلون بني آدم؟ وكل موضع توجَّهْنا إليه وجدونا فيه، فإما أن يأكلونا وإما أن يأسرونا ويردونا إلى موضعنا، وتغضب علينا بنت الملك. فقال سيف الملوك: أنا أعمل لكم شيئًا، لعل الله تعالى يساعدنا به على الخلاص، ونخلص من هذه الجزيرة. فقالوا له: كيف تعمل؟ فقال: نقطع من هذه الأخشاب الطوال ونفتل من قشرها حبالًا، ونربط بعضها في بعض ونجعلها فلكًا ونرميه في البحر، ونملؤه من تلك الفاكهة ونعمل له مجاديف وننزل فيه، لعل الله تعالى أن يجعل لنا به فرجًا، فإنه على كل شيء قدير، وعسى الله أن يرزقنا الريح الطيب الذي يوصلنا إلى بلاد الهند ونخلص من هذه الملعونة. فقالوا له: هذا رأي حسن. وفرحوا به فرحًا شديدًا، وقاموا في الوقت والساعة يقطعون الأخشاب لعمل الفلك، ثم فتلوا الحبال لربط الأخشاب في بعضها، واستمروا على تلك مدةَ شهر، وكل يوم في آخِر النهار يأخذون شيئًا من الحطب، ويروحون به إلى مطبخ بنت الملك، ويجعلون بقية النهار لأشغالهم في صنع الفلك إلى أن أتَمُّوه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.