فلما كانت الليلة ٧٦٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن سيف الملوك لما رأى فعل القرود ورقصهم، تعجَّب منهم ونسي ما جرى له من الغربة وشدائدها، فلما كان الليل أوقدوا الشموع ووضعوها في الشمعدانات الذهب والفضة، ثم أتوا بأواني النُّقْل والفاكهة فأكلوا، ولما جاء وقت النوم فرشوا لهم الفرش وناموا. فلما أصبح الصباح قام الشاب على عادته، ونبه سيف الملوك وقال له: أخرِجْ رأسك من هذا الشباك، وانظر أي شيء هذا الواقف تحت الشباك. فنظر فرأى قرودًا ملأت الفلا الواسع والبرية كلها، وما يعلم عدد تلك القرود إلا الله تعالى. فقال سيف الملوك: هؤلاء قرود كثيرون قد ملئوا الفضاء، ولأي شيء اجتمعوا في هذا الوقت؟ فقال له الشاب: إن هذه عادتهم، وجميع ما في الجزيرة قدامي، وبعضهم جاء من سَفَر يومين أو ثلاثة أيام، فإنهم يأتون في كل يوم سبت ويقفون هنا حتى أنتبه من منامي، وأُخرِج رأسي من هذا الشباك، فحين يبصرونني يقبِّلون الأرض بين يدي، ثم ينصرفون إلى أشغالهم. وأخرَجَ رأسه من الشباك حتى رأوه، فلما نظروه قبَّلوا الأرض بين يديه وانصرفوا.
ثم إن سيف الملوك قعد عند الشاب مدة شهر كامل، وبعد ذلك ودَّعَه وسافَرَ، فأمر الشاب نفرًا من القرود نحو المائة قرد بالسفر معه، فسافروا في خدمة سيف الملوك مدة سبعة أيام حتى أوصلوه إلى آخِر جزائرهم، ثم ودَّعوه ورجعوا إلى أماكنهم. وسافَرَ سيف الملوك وحده في الجبال والتلال والبراري والقفار مدة أربعة أشهر، يوم يجوع ويوم يشبع، ويوم يأكل من الحشيش، ويوم يأكل من ثمر الأشجار، وصار يتندم على ما فعل بنفسه وعلى خروجه من عند ذلك الشاب، وأراد أن يرجع إليه على أثره، فرأى شبحًا أسود يلوح على بعد، فقال في نفسه: هل هذه بلدة سوداء أم كيف الحال؟ ولكن لا أرجع حتى أنظر أي شيء هذا الشبح. فلما قرب منه رآه قصرًا عالي البنيان، وكان الذي بناه يافث بن نوح عليه السلام، وهو القصر الذي ذكره الله تعالى في كتابه العزيز، وبقوله: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، ثم إن سيف الملوك جلس على باب القصر وقال في نفسه: يا تُرَى، ما شأن داخل هذا القصر؟ ومَن فيه من الملوك؟ فمَن يخبرني بحقيقة الأمر؟ وهل سكانه من الإنس أو من الجن؟ فقعد يتفكَّر ساعة زمانية، ولم يجد أحدًا يدخله ولا يخرج منه، فقام يمشي وهو متوكل على الله حتى دخل القصر، وعدَّ في طريقه سبعة دهاليز، فلم يَرَ أحدًا، ونظر على يمينه ثلاثة أبواب، وقدامه باب عليه ستارة مسبولة، فتقدَّمَ إلى ذلك الباب ورفع الستارة بيده، ومشى داخل الباب، وإذا هو بإيوان كبير مفروش بالبسط الحرير، وفي صدر ذلك الإيوان تخت من الذهب، وعليه بنت جالسة وجهها مثل القمر، وعليها ملبوس الملوك وهي كالعروس في ليلة زفافها، وتحت التخت أربعون سماطًا وعليها صحاف الذهب والفضة وكلها ملآنة بالأطعمة الفاخرة. فلما رآها سيف الملوك أقبَلَ عليها وسلَّمَ، فردَّتْ عليه السلام وقالت له: هل أنت من الإنس أو من الجن؟ فقال: أنا من خيار الإنس، فإني ملك ابن ملك. فقالت له: أي شيء تريد؟ دونك وهذا الطعام، وبعد ذلك حدِّثني بحديثك من أوله إلى آخِره؟ وكيف وصلتَ إلى هذا الموضع؟
فجلس سيف الملوك على السماط، وكشف المكبة عن السُّفرة، وكان جائعًا، وأكل من تلك الصحاف حتى شبع، وغسل يده وطلع على التخت، وقعد عند البنت، فقالت له: مَن أنت؟ وما اسمك؟ ومن أين جئتَ؟ ومَن أوصلك إلى هنا؟ فقال لها سيف الملوك: أما أنا فحديثي طويل. فقالت له: قل لي من أين أنت؟ وما سبب مجيئك إلى هنا؟ وما مرادك؟ فقال لها: أخبريني أنتِ ما شأنك؟ وما اسمك؟ ومَن جاء بك إلى هنا؟ ولأي شيء أنتِ قاعدة في هذا المكان وحدك؟ فقالت له البنت: أنا اسمي دولة خاتون بنت ملك الهند، وأبي ساكن في مدينة سرنديب، ولأبي بستان مليح كبير ما في الهند وأقطارها أحسن منه، وفيه حوض كبير، فدخلت في ذلك البستان يومًا من الأيام مع جواري وتقرَّبت أنا وجواري، ونزلنا في ذلك الحوض وصرنا نلعب وننشرح، فلم أشعر إلا وشيء مثل السحاب نزل عليَّ وخطفني من بين جواري، وطار بي بين السماء والأرض، وهو يقول: يا دولة خاتون، لا تخافي وكوني مطمئنة القلب. ثم طار بي مدة قليلة، وبعد ذلك أنزلني هذا القصر، ثم انقلب من وقته وساعته، فإذا هو شاب مليح حسن الشباب نظيف الثياب، وقال لي: أتعرفينني؟ فقلت: لا يا سيدي. فقال: أنا ابن الملك الأزرق ملك الجان، وأبي ساكن في قلعة القلزم، وتحت يده ستمائة ألف من الجن الطيارة والغواصين، واتفق لي أنى كنت عابرًا في طريق ومتوجهًا إلى حال سبيلي، فرأيتك وعشقتك، ونزلت عليك وخطفتك من بين الجواري، وجئت بك إلى هذا القصر المشيد، وهو موضعي ومسكني، فلا أحد يصل إليه قطُّ لا من الجن ولا من الإنس، ومن الهند إلى هنا مسير مائة وعشرين سنة، فتحقَّقي أنك لا تنظرين بلاد أبيك وأمك أبدًا، فاقعدي عندي في هذا المكان مطمئنة القلب والخاطر، وأنا أحضر بين يديك كل ما تطلبينه. ثم بعد ذلك عانقني وقبَّلني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.