فلما كانت الليلة ٧٧١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن دولة خاتون لما قالت لسيف الملوك: أبشِرْ بالفرج القريب، فإن ملك هذه المدينة عمي أخو أبي، واسمه عالي الملوك. ثم قالت له: اسأله وقل له: هل سلطان هذه المدينة عالي الملوك طيب؟ فسأله عن ذلك، فقال له الريس وهو مغتاظ منه: أنت تقول عمري ما جئت إلى هنا، وإنما أنا رجل غريب فمَنْ عرَّفك باسم صاحب المدينة؟ ففرحت دولة خاتون وعرفت الريس، وكان اسمه معين الدين وهو من رؤساء أبيها، وإنما خرج ليفتِّش عليها حين فقدت فلم يجدها، ولم يزل دائرًا حتى وصل إلى مدينة عمها، ثم قالت لسيف الملوك: قل له: يا ريس معين الدين تعالَ كلِّمْ سيدتك. فناداه بما قالته له، فلما سمع الريس كلام سيف الملوك اغتاظ غيظًا شديدًا، وقال له: يا كلب، مَن أنت وكيف عرفتني؟ ثم قال لبعض البحرية: ناولوني عصًا من الشوم حتى أروح إلى هذا النحس وأكسر رأسه. فأخذ العصا وتوجَّهَ إلى جهة سيف الملوك، فرأى الفلك ورأى فيه شيئًا عجيبًا بهيجًا فاندهش عقله، ثم تأمَّلَ وحقَّقَ النظر فرأى دولة خاتون وهي جالسة مثل فلقة القمر، فقال له الريس: ما الذي عندك؟ فقال له: عندي بنت تُسمَّى دولة خاتون. فلما سمع الريس هذا الكلام وقع مغشيًّا عليه حين سمع باسمها وعرف أنها سيدته وبنت ملكه، فلما أفاق ترك الفلك وما فيه وتوجَّهَ إلى المدينة وطلع قصر الملك فاستأذن عليه، فدخل الحاجب إلى الملك، وقال: إن الريس معين جاء إليك ليبشِّرك. فأذِنَ له بالدخول، فدخل على الملك وقبَّلَ الأرضَ بين يديه وقال له: يا ملك، عندك البشارة، فإن بنت أخيك دولة خاتون وصلت إلى المدينة طيبة بخير، وهي في الفلك وصحبتها شاب مثل القمر ليلة تمامه.
فلما سمع الملك خبر بنت أخيه فرح وخلع على الريس خلعة سنية، وأمر من ساعته أن يزيِّنوا المدينةَ لسلامة بنت أخيه، وأرسَلَ إليها وأحضَرَها عنده هي وسيف الملوك، وسلَّمَ عليهما وهنَّأهما بالسلامة، ثم إنه أرسَلَ إلى أخيه ليُعلِمه بأن ابنته وُجِدت وهي عنده. ثم إنه لما وصل إليه الرسول تجهَّزَ واجتمعت العساكر، وسافَرَ تاج الملوك أبو دولة خاتون حتى وصل إلى أخيه عالي الملوك، واجتمع ببنته دولة خاتون وفرحوا فرحًا شديدًا، وقعد تاج الملوك عند أخيه جمعة من الزمان، ثم إنه أخذ بنته وكذلك سيف الملوك وسافروا حتى وصلوا إلى سرنديب بلاد أبيها، واجتمعت دولة خاتون بأمها وفرحوا بسلامتها وأقاموا الأفراح، وكان ذلك يومًا عظيمًا لا يُرَى مثله، وأما الملك فإنه أكرَمَ سيف الملوك وقال له: يا سيف الملوك، إنك فعلتَ معي ومع ابنتي هذا الخير كله، وأنا لا أقدر أن أكافِئَك عليه، وما يكافِئُك إلا رب العالمين، ولكن أريد منك أن تقعد على التخت في موضعي وتحكم في بلاد الهند، فإني قد وهبتُ لك ملكي وتختي وخزائني وخَدَمي، وجميع ذلك يكون هبةً مني لك.
فعند ذلك قام سيف الملوك، وقبَّلَ الأرض بين يدي الملك وشكَرَه، وقال له: يا ملك الزمان، قد قَبِلتُ جميعَ ما وهبْتَه لي، وهو مردود مني إليك هدية أيضًا، وأنا يا ملك الزمان ما أريد مملكة ولا سلطنة، وما أريد إلا أن الله تعالى يبلغني مقصودي. فقال له الملك: هذه خزائني بين يديك يا سيف الملوك، مهما طلبته منها فخذه، ولا تشاورني فيه وجزاك الله عني كل خير. فقال سيف الملوك: أعَزَّ الله الملك، لا حظَّ لي في المُلْك ولا في المال حتى أبلغ مرادي، ولكن غرضي الآن أن أتفرج في هذه المدينة وأنظر شوارعها وأسواقها. فأمر تاج الملوك أن يحضروا له فرسًا من جياد الخيل، فأحضروا له فرسًا مسرجًا ملجمًا من جياد الخيل، فركبها وطلع إلى السوق وشقَّ في شوارع المدينة. فبينما هو ينظر يمينًا وشمالًا إذ رأى شابًّا ومعه قباء وهو ينادي عليه بخمسة عشر دينارًا، فتأمَّلَه فوجده يشبه أخاه ساعدًا، وفي نفس الأمر هو بعينه إلا أنه تغيَّرَ لونه وحاله من طول الغربة ومشقات السفر فلم يعرفه، ثم قال لمَن حوله: هاتوا هذا الشاب لأستخبره. فأتوا به إليه، فقال: خذوه وأوصلوه إلى القصر الذي أنا فيه وخلوه عندكم إلى أن أرجع من الفرجة. فظنوا أنه قال لهم خذوه وأوصلوه إلى السجن، وقالوا: لعل هذا مملوك من مماليكه هرب منه. فأخذوه وأوصلوه إلى السجن وقيَّدوه وتركوه قاعدًا، فرجع سيف الملوك من الفرجة وطلع القصر ونسي أخاه ساعدًا، ولم يذكره له أحد، فصار ساعد في السجن، ولما خرجوا بالأسارى إلى أشغال العمارات أخذوا ساعدًا معهم، وصار يشتغل مع الأسارى وكثر عليه الوسخ، ومكث ساعد على هذه الحالة مدة شهر وهو يتذكر في أحواله، ويقول في نفسه: ما سبب سجني؟
وقد اشتغل سيف الملوك بما هو فيه من السرور وغيره، فاتفق أن سيف الملوك جلس يومًا من الأيام وتذكَّرَ أخاه ساعدًا، فقال للمماليك الذين كانوا معه: أين المملوك الذي كان معكم في اليوم الفلاني؟ فقالوا: أَمَا قلتَ لنا أوصلوه إلى السجن؟ فقال سيف الملوك: أنا ما قلتُ لكم هذا الكلام، وإنما قلت لكم أوصلوه إلى القصر الذي أنا فيه. ثم إنه أرسل الحجَّاب إلى ساعد فأتوا به وهو مقيَّد، ثم فكوه من قيده وأوقفوه بين يدي سيف الملوك، فقال له: يا شاب، من أي البلاد أنت؟ فقال له: أنا من مصر، واسمي ساعد بن الوزير فارس. فلما سمع سيف الملوك كلامه نهض من فوق التخت وألقى نفسه عليه، وتعلَّقَ برقبته، ومن فرحه صار يبكي بكاءً شديدًا، وقال: يا أخي ساعد، الحمد لله حيث عشت ورأيتك، فأنا أخوك سيف الملوك ابن الملك عاصم. فلما سمع ساعد كلام أخيه وعرفه، تعانَقَا مع بعضهما وتباكيا، فتعجَّبَ الحاضرون منهما، ثم أمر سيف الملوك أن يأخذوا ساعدًا ويذهبوا به إلى الحمام، فذهبوا به إلى الحمام وعند خروجه من الحمام ألبسوه ثيابًا فاخرة وأتوا به إلى مجلس سيف الملوك، فأجلَسَه معه على التخت، ولما علم تاج الملوك فرح فرحًا شديدًا باجتماع سيف الملوك وأخيه ساعد، وحضر وجلس الثلاثة يتحدثون فيما جرى لهم من الأول إلى الآخر.
ثم إن ساعدًا قال: يا أخي، يا سيف الملوك، لما غرقت المركب وغرقت المماليك طلعت أنا وجماعة من المماليك على لوح خشب، وسار بنا في البحر مدة شهر كامل، ثم بعد ذلك رمانا الريح بقدرة الله تعالى على جزيرة، فطلعنا عليها ونحن جياع، فدخلنا بين الأشجار وأكلنا من الفواكه، واشتغلنا بالأكل، فلم نشعر إلا وقد خرج علينا أقوام مثل العفاريت، فوثبوا علينا وركبوا فوق أكتافنا وقالوا لنا: امشوا بنا، فأنتم صرتم حميرنا. فقلتُ للذي ركبني: ما أنت؟ ولأي شيء ركبتَني؟ فلما سمع مني هذا الكلام لفَّ رجله على رقبتي حتى كدتُ أن أموت، وضرب ظهري برجله الأخرى، فظننت أنه قطع ظهري، فوقعت في الأرض على وجهي وما بقي عندي قوة بسبب الجوع والعطش؛ فحيث وقعت عرف أني جائع، فأخذ بيدي وأتى بي إلى شجرة كثيرة الأثمار وهي من الكمثرى، فقال لي: كُلْ من هذه الشجرة حتى تشبع. فأكلت من تلك الشجرة حتى شبعت، وقمت أمشي بغير اختياري، فما مشيت غير قليل حتى ولَّى ذلك الشخص وركب فوق أكتافي، فصرت ساعةً أمشي، وساعة أجري، وساعة أهرول، وهو راكب يضحك ويقول: عمري ما رأيت حمارًا مثلك.
فاتفق أننا جمعنا شيئًا من عناقيد العنب يومًا من الأيام ثم وضعناه في حفرة بعد أن دُسْناه بأرجلنا، فصارت تلك الحفرة بركة كبيرة، فصبرنا مدة وأتينا إلى تلك الحفرة فوجدنا الشمس قد ضربت ذلك الماء فصار خمرًا. فبقينا نشرب منه ونسكر فتحمرُّ وجوهنا ونغني ونرقص من نشوة السُّكْر. فقالوا: ما الذي يحمِّر وجوهكم ويصيِّركم ترقصون وتغنون؟ فقلنا لهم: لا تسألون عن هذا، وما تريدون بالسؤال عنه؟ فقالوا: أخبرونا حتى نعرف حقيقة الأمر. فقلنا: عصير العنب. فذهبوا بنا إلى وادٍ ولم نعرف له طولًا من عرض، وفي ذلك الوادي كروم من العنب لا يُعرَف أولها من آخِرها، وكل عنقود من العناقيد التي فيها قدر عشرين رطلًا، وكله داني القطوف. فقالوا لنا: اجمعوا من هذه. فجمعنا منه شيئًا كثيرًا، ورأيت هناك حفرة كبيرة أكبر من الحوض الكبير، فملأناها عنبًا ودُسْناه بأرجلنا وفعلنا كما فعلنا أول مرة، فصار خمرًا وقلنا لهم: هذا بلغ حد الاستواء، فأي شيء تشربون به؟ فقالوا لنا: إنه كان عندنا حمير مثلكم فأكلناهم وبقيت رءوسهم، فاسقونا في جماجمهم. فأسقيناهم فسكروا ثم رقدوا، وكانوا نحو المائتين، فقلنا لبعضنا: أَمَا يكفي هؤلاء أن يركبونا حتى يأكلونا أيضًا! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولكن نحن نقوي عليهم السُّكر ثم نقتلهم ونستريح منهم، ونخلص من أيديهم. فنبهناهم وصرنا نملأ لهم تلك الجماجم ونسقيهم، فيقولون: هذا مرٌّ. فقلنا لهم: لأي شيء تقولون هذا مرٌّ؟ وكل مَن قال ذلك إنْ لم يشرب منه عشر مرات فإنه يموت من يومه. فخافوا من الموت، وقالوا لنا: اسقونا تمام العشر مرات. فلما شربوا بقية العشر مرات سكروا وزاد عليهم السكر، وهمدت قوتهم، فجررناهم من أيديهم، ثم إننا جمعنا من حطب تلك الكروم شيئًا كثيرًا، وجعلنا حولهم وفوقهم، وأوقدنا النار في الحطب ووقفنا من بعيد ننظر ما يكون منهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.