فلما كانت الليلة ٧٨٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن المجوسي لما طلع حسن الجبل ورمى له حاجته من فوقه وبَّخَه، ثم تركه وسار، فقال حسن: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قد مكر بي هذا الكلب الملعون. ثم إنه وقف على قدميه والتفَتَ يمينًا وشمالًا، ثم مضى فوق الجبل وأيقَنَ في نفسه بالموت، وصار يتمشى حتى وصل إلى الطرف الآخَر من الجبل، فرأى بجنب الجبل بحرًا أزرق متلاطِمَ الأمواج قد أزبَدَ، وكل موجة منه كالجبل العظيم؛ فقعد وقرأ ما تيسَّرَ من القرآن، وسأل الله تعالى أن يهوِّن عليه، إما بالموت وإما بالخلاص من هذه الشدائد، ثم صلى على نفسه صلاةَ الجنازة ورمى نفسه في البحر، فحملته الأمواج على سلامة الله تعالى إلى أن طلع من البحر سالمًا بقدرة الله تعالى؛ ففرح وحمد الله تعالى وشكره، ثم قام يمشي ويفتِّش على شيء يأكله، فبينما هو كذلك وإذا هو بالمكان الذي كان فيه هو وبهرام المجوسي، ثم مشى ساعة فإذا هو بقصرٍ عظيم شاهق في الهواء فدخله، فإذا هو القصر الذي كان سأل عنه المجوسيَّ وقال له: إن هذا القصر فيه عدوى. فقال حسن: والله لا بد من دخولي هذا القصر، لعل الفرج يحصل لي فيه. فلما جاءه رأى بابه مفتوحًا، فدخل من الباب فرأى مصطبة في الدهليز، وعلى المصطبة بنتان كالقمرين بين أيديهما رقعة شطرنج، وهما يلعبان، فرفعت واحدة منهما رأسها إليه وصاحت من فرحتها وقالت: والله إن هذا آدمي، وأظنه الذي جاء به بهرام المجوسي في هذه السنة. فلما سمع حسن كلامها، رمى نفسه بين أيديهما وبكى بكاءً شديدًا وقال: يا سيداتي، هو أنا ذلك المسكين. فقالت البنت الصغرى لأختها الكبرى: اشهدي عليَّ يا أختي أن هذا أخي في عهد الله وميثاقه، وأني أموت لموته وأحيا لحياته، وأفرح لفرحه وأحزن لحزنه. ثم قامت له وعانَقَتْه وقبَّلَتْه، وأخذته من يده ودخلت به القصر وأختها معها وقلَّعَتْه ما كان عليه من الثياب الرثَّة، وأتَتْ له ببدلة من ملابس الملوك وألبَسَتْه إياها وهيَّأت له الطعام من سائر الألوان وقدَّمَتْه له، وقعدت هي وأختها وأكلتا معه وقالتا له: حدِّثنا بحديثك مع الكلب الفاجر الساحر من حين وقعت في يده إلى حين خَلُصْتَ منه، ونحن نحدِّثك بما جرى لنا معه من أول الأمر إلى آخره، حتى تصير على حذرٍ إذا رأيتَه.
فلما سمع حسن منهما هذا الكلام، ورأى الإقبالَ منهما عليه؛ اطمأنَّتْ نفسه، ورجع له عقله وصار يحدِّثهما بما جرى له معه من الأول إلى الآخِر، فقالتا له: هل سألتَه عن هذا القصر؟ قال: نعم سألتُه فقال لي: لا أحب سيرتَه؛ فإن هذا القصر للشياطين والأبالسة. فغضبَتِ البنتان غضبًا شديدًا وقالتا: هل جعَلَنا هذا الكافرُ شياطينَ وأبالسة؟ فقال لهما حسن: نعم. فقالت الصغيرة أخت حسن: والله لأقتلَنَّه أقبح قِتْلة وأعدِمَنَّه نسيمَ الدنيا. فقال حسن: وكيف تصلين إليه وتقتلينه؟ قالت: هو في بستانٍ يُسمَّى المشيد، ولا بد لي من قتله قريبًا. فقالت لها أختها: صدق حسن وكلُّ ما قاله عن هذا الكلب صحيح، ولكنْ حدِّثِيه بحديثنا كله حتى يبقى في ذهنه. فقالت البنت الصغيرة: اعلم يا أخي أننا من بنات الملوك، وأبونا ملك من ملوك الجان العِظَام الشأن، وله جنود وأعوان وخَدَم من المَرَدة، ورزقه الله تعالى بسبع بنات من امرأة واحدة، ولحقه من الحماقة والغيرة وعزَّة النفس ما لا مزيدَ عليه، حتى إنه لم يزوِّجنا لأحدٍ من الرجال، ثم إنه أحضر وزراءه وأصحابه وقال لهم: هل أنتم تعرفون لي مكانًا لا يطرقه طارق لا من الإنس ولا من الجن، ويكون كثيرَ الأشجار والأثمار والأنهار؟ فقالوا له: ما الذي تصنع به يا ملك الزمان؟ فقال: أريد أن أجعل فيه بناتي السبعة. فقالوا له: يا ملك، يصلح لهن قصرُ جبلِ السحاب الذي كان أنشأه عفريت من الجن المَرَدة الذين تمردوا على عهد سليمان عليه السلام، فلما هلك لم يسكنه أحد بعده لا من الجن ولا من الإنس؛ لأنه منقطع لا يصل إليه أحد، وحوله الأشجار والأثمار والأنهار، وحوله ماء جارٍ أحلى من الشهد وأبرد من الثلج، ما شرب منه أحد به برص أو جذام أو غيرهما إلا عُوفِي من وقته وساعته. فلما سمع والدنا بذلك، أرسلنا إلى هذا القصر، وأرسل معنا العساكر والجنود، وجمع لنا ما نحتاج فيه إليه، وكان إذا أراد الركوب يضرب الطبل، فيحضر له جميع الجنود، فيختار ما يركبه منهم وينصرف الباقون، فإذا أراد والدنا أننا نحضر عنده، أمر أتباعه من السَّحَرة بإحضارنا، فيأتوننا ويأخذوننا ويوصلوننا بين يدَيْه حتى يأتنس بنا ونقضي أغراضنا منه، ثم يرجعوننا إلى مكاننا، ونحن لنا خمس أَخَوات ذهبْنَ يتصيَّدْنَ في هذه الفَلَاة، فإن فيها من الوحوش ما لا يُعَد ولا يُحصَى، وكل اثنتين منا عليهما نوبة في القعود لتسوية الطعام، فجاءت النوبة علينا أنا وأختي هذه، فقعدنا لنسوِّي لهنَّ الطعام، وكنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا شخصًا آدميًّا يؤانسنا، فالحمد لله الذي أوصَلَك إلينا، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، ما عليك بأس.
ففرح حسن وقال: الحمد لله الذي هدانا إلى طريق الخلاص وحنَّنَ علينا القلوب. ثم قامت وأخذته من يده وأدخَلَتْه مقصورةً وأخرجت منها من القماش والفرش ما لا يقدر عليه واحد من المخلوقات، ثم بعد ساعة حضر أَخَواتهما من الصيد والقنص، فأخبرتاهن بحديثِ حسن، ففرحْنَ به ودخلْنَ عليه في المقصورة وسلَّمْنَ عليه وهنَّيْنَه بالسلامة. ثم أقام عندهن في أطيب عيش وأهنى سرور، وصار يخرج معهن إلى الصيد والقنص ويذبح الصيد واستأنَسَ حسن بهن، ولم يزل معهن على هذه الحالة حتى صحَّ جسده وبرئ من الذي كان به، وقوي جسمه، وغلظ وسمن بسبب ما هو فيه من الكرامة، وقعوده عندهن في ذلك الموضع، وهو يتفرج ويتفسَّح معهن في ذلك القصر المزخرف وفي جميع البساتين والأزهار، وهنَّ يأخذْنَ بخاطره ويؤانِسْنَه بالكلام، وقد زالت عنه الوحشة وزادت البنات به فرحًا وسرورًا، وكذلك هو فرِحَ بهن أكثر ممَّا فرحْنَ به. ثم إن أخته الصغيرة حدَّثَتْ أَخَواتها بحديث بهرام المجوسي، وأنه جعلهن شياطين وأبالسة وغيلانًا، فحلفْنَ لها أنه لا بد من قتله. فلما كان العام الثاني، حضر الملعون ومعه شاب مليح مسلم كأنه القمر، وهو مقيد بقيد ومعذَّب غاية العذاب، فنزل به تحت القصر الذي دخل فيه حسن على البنات، وكان حسن جالسًا على النهر تحت الأشجار، فلما رآه حسن خفق قلبه وتغيَّرَ لونه وضرب بكفَّيْه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.