فلما كانت الليلة ٧٨٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا الصائغ لما رأى المجوسي، خفق قلبه وتغيَّرَ لونه وضرب بكفَّيْه، وقال للبنات: بالله يا أَخَواتي، أعِنَّني على قتل هذا الملعون، فها هو قد حضر في قبضتكن ومعه شاب مسلم أسير من أولاد الناس الأكابر، وهو يعذِّبه بأنواع العذاب الأليم، وقصدي أن أقتله وأشفي فؤادي منه، وأُرِيح هذا الشاب من عذابه وأربح الثواب، ويرجع الشاب المسلم إلى وطنه، فيجتمع شمله مع إخوانه وأهله وأحبابه، ويكون ذلك صدقةً عنكن وتفزْنَ بالأجر من الله تعالى. فقال له البنات: السمع والطاعة لله ولك يا حسن. ثم إنهن ضربن لهن لثامات ولبسن آلات الحرب، وتقلَّدْنَ السيوف، وأحضرْنَ لحسن جوادًا من أحسن الخيل، وهيَّأْنَه بعُدَّةٍ كاملة وسلَّحْنَه سلاحًا مليحًا، ثم ساروا جميعًا؛ فوجدوا المجوسي قد ذبح جملًا وسلخه وهو يعاقب الشاب ويقول له: ادخل هذا الجلد. فجاء حسن من خلفه والمجوسي ما عنده علم به، ثم صاح عليه فأذهَلَه، ثم تقدَّمَ إليه وقال له: أمسِكْ يدك يا ملعون، يا عدو الله وعدو المسلمين، يا كلب يا غدَّار، يا عابد النار يا سالك طريق الفجَّار، أتعبد النار والنور وتقسم بالظل والحرور؟! فالتفَتَ المجوسي فرأى حَسَنًا، فقال له: يا ولدي، كيف تخلصتَ؟ ومَن أنزَلَك إلى الأرض؟ فقال له حسن: خلَّصَني الله الذي جعل قبض روحك على يد أعدائك، كما عذَّبْتَني طولَ الطريق يا كافر يا زنديق، قد وقعت في الضيق، وزغت عن الطريق، فلا أم تنفعك ولا أخ ولا صديق ولا عهد وثيق. إنك قلت: مَن يخون العيش والملح ينتقم الله منه. وأنت خنت الخبز والملح، فأوقَعَك الله في قبضتي وصار خلاصك مني بعيدًا. فقال له المجوسي: والله يا ولدي أنت أعز من روحي ومن نور عيني. فتقدَّمَ إليه حسن وعجل عليه بضربة على عاتقه، فخرج السيف يلمع من علائقه، وعجَّلَ الله بروحه إلى النار وبئس القرار.
ثم إن حسنًا أخذ الجراب الذي كان معه وفتحه، وأخرج الطبل منه والزخمة وضرب بها على الطبل، فجاءت النجائب مثل البرق إلى حسن، فحلَّ الشاب من وثاقه وأركَبَه نجيبًا، وحمل له الباقي زادًا وماءً وقال له: توجَّهْ إلى مقصدك. فتوجَّهَ بعد أن خلَّصَه الله من الضيق على يد حسن. ثم إن البنات لما رأين حسنًا ضرب رقبة المجوسي، فرحْنَ به فرحًا شديدًا، ودُرْنَ حوله وتعجَّبْنَ من شجاعته، ومن شدة بأسه، وشكرنه على ما فعل وهنَّأْنَه بالسلامة، وقلن له: يا حسن، لقد فعلتَ فعلًا أشفيتَ به الغليل، وأرضيتَ به الملك الجليل. وسار هو والبنات إلى القصر، وأقام معهن وهو في أكل وشرب ولعب وضحك، وطابت له الإقامة عندهن ونسي أمه.
فبينما هو معهن في ألذ عيش إذ قد طلعت عليهم غبرة عظيمة من صدر البرية أظلم لها الجو، فقالت له البنات: قُمْ يا حسن وادخلْ مقصورتك واختفِ وإنْ شئتَ فادخلِ البستانَ وتوارى بين الشجر والكروم فما عليك باس. ثم إنه قام ودخل واختفى في مقصورته وأغلَقَها عليه من داخل القصر، وبعد ساعة انكشف الغبار وبان من تحته عسكر جرَّار مثل البحر العجاج، مُقبِلًا من عند الملك أبي البنات، فلما وصل العسكر أنزلْنَهم أحسن منزل، وضيَّفْنَهم ثلاثة أيام، وبعد ذلك سألتهم البنات عن حالهم وعن خبرهم، فقالوا: إننا جئنا من عند الملك في طلبكن. فقلن لهم: وما يريد الملك منا؟ قال: إن بعض الملوك يعمل فرحًا، ويريد أن تحضرن ذلك الفرح لتتفرجن. فقالت لهم البنات: وكم نغيب عن موضعنا؟ فقالوا: مدة الرواح والمجيء وإقامة شهرين. فقامت البنات ودخلْنَ القصر على حسن وأعلمْنَه بالحال، وقلن له: إن هذا الموضع موضعك، وبيتنا بيتك، فطِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، ولا تخف ولا تحزن، فإنه لا أحدَ يقدر أن يجيء إلينا في هذا المكان، فكُنْ مطمئِنَّ القلب منشرح الخاطر حتى نحضر إليك، وهذه مفاتيح مقاصيرنا معك، ولكن يا أخانا نسألك بحق الأخوة أنك لا تفتح هذا الباب، فإنه ليس لك بفتحه حاجة. ثم إنهن ودَّعْنَه وانصرفْنَ صحبة العساكر، وقعد حسن في القصر وحده، ثم إنه ضاق صدره وفرغ صبره وزاد كربه، واستوحش وحزن لفراقهن حزنًا عظيمًا، وضاق عليه القصر مع اتساعه، فلما رأى نفسه وحيدًا متوحشًا تذكَّرهن وأنشَدَ هذه الأبيات:
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.