فلما كانت الليلة ٧٨٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا بعد ذهاب البنات من عنده، قعد في القصر وحده؛ فضاق صدره من أجل فراقهن، ثم إنه صار يذهب وحده إلى الصيد في البراري، فيأتي به ويذبحه ويأكل وحده، وزادت به الوحشة والقلق من انفراده، فقام ودار في القصر وفتَّشَ جميع جهاته، وفتح مقاصير البنات فرأى فيها من الأموال ما يُذهِب عقولَ الناظرين، وهو لا يلتذُّ بشيءٍ من ذلك بسبب غيبتهن، والتهبت في قلبه النار من أجل الباب الذي أوصَتْه أخته بعدم فتحه، وأمرته أنه لا يقربه ولا يفتحه أبدًا، فقال في نفسه: ما أوصتني أختي بعدم فتح هذا الباب إلا لكونه فيه شيء تريد ألَّا يطَّلِع عليه أحد، والله إني لأقوم وأفتحه وأنظر ما فيه ولو كان فيه المَنِيَّة. فأخذ المفتاح وفتحه، فلم يَرَ فيه شيئًا من المال، ولكنه رأى سُلَّمًا في صدر المكان معقودًا بحجر من جزع يماني، فرَقِي على ذلك السلَّم، وصعد إلى أن وصل إلى سطح القصر، فقال في نفسه: هذا الذي منعَتْني عنه! ودار فوقه، فأشرَفَ على مكان تحت القصر مملوء بالمزارع والبساتين والأشجار والأزهار والوحوش والطيور، وهي تغرِّد وتسبِّح الله الواحد القهار، وصار يتأمَّل في تلك المنتزهات، فرأى بحرًا عجاجًا متلاطمًا بالأمواج. ولم يزل دائرًا حول ذلك القصر يمينًا وشمالًا حتى انتهى إلى قصر على أربعة أعمدة، فرأى فيه مقعدًا منقوشًا بسائر الأحجار كالياقوت والزمرد والبلخش وأصناف الجواهر، وهو مبني طوبة من ذهب، وطوبة من فضة، وطوبة من ياقوت، وطوبة من زمرد أخضر، وفي وسط ذلك القصر بحيرة ملآنة بالماء، وعليها مكعب من الصندل وعود الند وهو مشبك بقضبان الذهب الأحمر والزمرد الأخضر، ومزركش بأنواع الجواهر واللؤلؤ التي كل حبة منه قدر بيضة الحمامة، وعلى جانب البحيرة تخت من العود الند مرصَّع بالدر والجوهر، مشبك بالذهب الأحمر، وفيه من سائر الفصوص الملونة والمعادن النفيسة، وهي في الترصيع يقابل بعضها بعضًا، وحوله الأطيار تغرِّد بلغات مختلفة، وتسبِّح الله تعالى بحسن أصواتها واختلاف لغاتها، وهذا القصر لم يملك مثله كسرى ولا قيصر؛ فاندهش حسن لما رأى ذلك وجلس فيه ينظر ما حوله.
فبينما هو جالس فيه وهو يتعجب من حسن صنعته ومن بهجة ما حواه من الدر والياقوت، وما فيه من سائر الصناعات، ومتعجب أيضًا من تلك المزارع والأطيار التي تسبِّح اللهَ الواحد القهَّار، ويتأمَّل في آثار من قدرة الله تعالى على عمارة هذا القصر، فإنه عظيم الشأن، وإذا هو بعشرة طيور قد أقبلوا من جهة البر وهم يقصدون ذلك القصر وتلك البحيرة، فعرف حسن أنهم يقصدون البحيرة ليشربوا من مائها، فاستتر منهم خوفًا أن ينظروه فيفروا منه. ثم إنهم نزلوا على شجرة عظيمة مليحة وداروا حولها، ونظر منهم طيرًا عظيمًا مليحًا وهو أحسن ما فيهم، والبقية محتاطون به وهم في خدمته، فتعجَّبَ حسن من ذلك وصار ذلك الطير ينقر التسعة بمنقاره ويتعاظم عليهم وهم يهربون منه، وحسن واقف يتفرج عليهم من بعيد. ثم إنهم جلسوا على السرير وشقَّ كلُّ طير منهم جلده بمخالبه وخرج منه، فإذا هو ثوب من ريش، وقد خرج من الثياب عشر بنات أبكار يفضحن بحُسْنهن بهجةَ الأقمار، فلما تعرَّيْنَ من ثيابهن نزلْنَ كلهن في البحيرة واغتسلْنَ، وصرْنَ يلعبْنَ ويتمازحْنَ، وصارت الطيرة الفائقة عليهن ترميهن وتغطسهن فهربْنَ منها، ولم يقدرْنَ أن يمددن أيديهن إليها، فلما نظرها حسن غاب عن صوابه وسُلِب عقله، وعرف أن البنات ما نهَيْنَه عن فتح هذا الباب إلا لهذا السبب، فشُغِف حسن بها حبًّا لما رأى من حُسْنها وجمالها وقَدِّها واعتدالها، وهي في لعب ومزاح ومراشَّة بالماء، وحسن واقف ينظر إليهن ويتحسَّر؛ حيث لم يكن معهن، وقد حار عقله من حسن الجارية الصغيرة، وتعلَّقَ قلبه بشَرَك محبتها ووقع في شَرَك هواها، والعين ناظرة وفي القلب نار محرقة، والنفسُ أمَّارةٌ بالسوء، فبكى حسن شوقًا لحُسْنها وجمالها، وانطلقت في قلبه النيران من أجلها، وزاد به لهيب لا يُطفَأ شرره، وغرام لا يخفى أثره. ثم بعد ذلك طلعت البنات من تلك البحيرة، وحسن واقف ينظر إليهن وهُنَّ لا ينظرْنَه، وهو يتعجب من حُسْنهن وجمالهن ولطف معانيهن وظرف شمائلهن، فحانَتْ منه التفاتة فنظر حسن إلى الجارية الكبيرة وهي عريانة، فبانَ له ما بين فخذَيْها، وهو قبة عظيمة مدورة بأربعة أركان كأنه طاسة من فضة أو من بلور، يذكر قول الشاعر:
فلما خرجْنَ من الماء لبسَتْ كلُّ واحدة ثيابَها وحليها، وأما الجارية الكبيرة فإنها لبست حلة خضراء، ففاقت بجمالها ملاح الآفاق، وزهت ببهجة وجهها على بدور الإشراق، وفاقت على الغصون بحُسْن التثنِّي، وأذهلَتِ العقولَ بوهم التجنِّي، وهي كما قال الشاعر:
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.