فلما كانت الليلة ٧٨٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما رأى البنات قد خرجن من البحيرة، والكبيرة فيهن أخذت عقله بحُسْنها وجمالها، أنشد تلك الأبيات. ثم إن البنات لما لبسن ثيابهن جلسْنَ يتحدثن ويتضاحكن وحسن واقف ينظر إليهن وهو غريق في بحر عشقه وتائه في فكره، وهو يقول في نفسه: والله ما قالت لي أختي لا تفتحْ هذا الباب إلا من شأن هؤلاء البنات، وخوفًا من أن أتعلق بإحداهن. ثم إنه صار ينظر في محاسن هذه الجارية وكانت أجمل ما خلق الله في وقتها، وقد فاقت بحُسْنها جميعَ البشر، لها فم كأنه خاتم سليمان، وشعر أسود من الليل الصدود على الكئيب الولهان، وغرَّة كهلال عيد رمضان، وعيون تحاكي عيون الغزلان، وأنف أقنى كثير اللمعان، وخدان كأنهما شقائق النعمان، وشفتان كأنهما مرجان، وأسنان كأنهما لؤلؤ منظوم في قلائد العقيان، وعُنُق كسبيكة فضة فوق قامة كغُصْن البان، وبطن طيات وأركان يبتهل فيه العاشق الولهان، وسُرَّة تَسَع أوقية مِسْك طيب الأردان، وأفخاذ غِلَاظ سِمَان كأنها عواميد رخام، أو مخدتين مَحْشوَّتين من ريش النعام، وبينهما شيء كأنه أعظم العقبان، وأرنب مقطوش الأذان وله سطوح وأركان، وهذه الصبية فاقت بحُسْنها وقَدِّها على غصون البان، وعلى قضيب الخيزران، وهي كما قال الشاعر الولهان:
ثم إن البنات لم يزلن في ضحك ولعب وهو واقف على قدمَيْه ينظر إليهن، ونسي الأكل والشرب إلى أن قَرُبَ العصر، فقالت الصبية لصواحبها: يا بنات الملوك، إن الوقت أمسى علينا وبلادنا بعيدة، ونحن قد سَئِمْنا المقام هنا، فقمْنَ لنروح محلنا. فقامت كل واحدة منهن ولبست ثوبها الريش، فلما اندرجْنَ في ثيابهن صرْنَ طيورًا كما كنَّ أولًا، وطرْنَ كلهن سوية، وتلك الصبية في وسطهن، فيئس حسن منهن وأراد أن يقوم وينزل، فلم يقدر أن يقوم، وصار دمعه يجري على خده، ثم اشتدَّ به الغرام فأنشد هذه الأبيات:
ثم إن حَسَنًا مشى قليلًا وهو لا يهتدي إلى الطريق حتى نزل إلى أسفل القصر، ولم يزل يزحف إلى أن وصل إلى باب المخدع، فدخل وأغلَقَه عليه واضطجع عليلًا لا يأكل ولا يشرب، وهو غريق في بحر أفكاره، فبكى وناح نفسه إلى الصباح. فلما أصبح الصباح أنشد هذه الأبيات:
فلما طلعت الشمس فتح باب المخدع، وطلع إلى المكان الذي كان فيه أولًا، وجلس في مكان قبال المنظرة إلى أن أقبَلَ الليل، فلم يحضر أحد من الطيور وهو جالس في انتظارهم، فبكى بكاءً شديدًا حتى غُشِي عليه، ووقع على الأرض مطروحًا، فلما أفاق من غشيته زحف ونزل إلى أسفل القصر، وقد أقبَلَ الليل وضاقت عليه الدنيا بأسرها، وما زال يبكي وينوح على نفسه طول ليله إلى أن أتى الصباح، وطلعت الشمس على الروابي والبطاح، وهو لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، ولا يقر له قرار، وفي نهاره حيران، وفي ليله سهران مدهوش سكران، من الفكر الذي هو فيه ومن شدة الغرام، وأنشَدَ قولَ الشاعر الولهان:
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.