فلما كانت الليلة ٧٨٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا الصائغ لما زاد عشقه أنشَدَ الأشعارَ وهو في القصر وحده، ولم يجد مَن يؤانسه، فبينما هو في شدة ولهه، وإذا هو بغبرة قد طلعت من البر، فقام يجري إلى أسفل واختفى، وعرف أن أصحاب القصر قد أتوا، فلم يكن غير ساعة إلا والعسكر قد نزلوا وداروا بالقصر، ونزلت السبع بنات ودخلْنَ القصر، فنزعْنَ سلاحهن وما كان عليهن من آلات الحرب. وأما البنت الصغيرة أخته فإنها لم تنزع ما عليها من آلة الحرب، بل جاءت إلى مقصورة حسن فلم تَرَه، ففتَّشَتْ عليه فوجدته في مخدع من المخادع وهو ضعيف نحيل، قد كَلَّ جسمه ورقَّ عظمه واصفرَّ لونه، وغابت عيناه في وجهه من قلة الأكل والشرب، ومن كثرة الدموع بسبب تعلُّقه بالصَّبِية وعشقه لها، فلما رأته أخته الجنية على هذه الحالة اندهشَتْ وغاب عنها عقلها، فسألته عن حاله وما هو فيه وأي شيء أصابه، وقالت له: أخبِرْني يا أخي حتى أتحيَّل لك في كشف ضرك، وأكون فداءك. فبكى بكاءً شديدًا، وأنشد يقول:
فلما سمعت أخته منه ذلك تعجَّبَتْ من فصاحته، ومن بلاغة قوله، ومن حُسْن لفظه، ومجاوَبَته لها بالشعر، فقالت له: يا أخي، متى وقعتَ في هذا الأمر الذي أنت فيه؟ ومتى حصل لك؟ فإني أراك تتكلم بالأشعار وتُرخِي الدموعَ الغِزَار، فبالله عليك يا أخي وحرمة الحب الذي بيننا أن تخبرني بحالك، وتُطلِعني على سرِّك، ولا تُخْفِ مني شيئًا ممَّا جرى لك في غيابنا، فإنه قد ضاق صدري، وتكدَّر عيشي بسببك. فتنهَّدَ وأرخى الدموع مثل المطر، وقال: أخاف يا أختي إذا أخبرتُكِ أنك لم تساعديني على مطلوبي، وتتركينني أموت كَمَدًا بغُصَّتِي. فقالت: لا والله يا أخي ما أتخلَّى عنك، ولو كانت روحي تروح. فحدَّثَها بما جرى له، وما عايَنَه حين فتح الباب، وأخبَرَها أن سبب الضرر والبلاء عشقُ الصَّبِية التي رآها ومحبته لها، وأن له عشرة أيام لم يستطعم بطعام ولا شراب. ثم إنه بكى بكاءً شديدًا وأنشَدَ هذين البيتين:
فبَكَتْ أخته لبكائه ورقَّتْ لحاله ورحمت غربته، ثم قالت له: يا أخي، طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، فأنا أخاطِرُ بنفسي معك وأبذل روحي في رضائك، وأدبِّر لك حيلةً ولو كان فيها ذهاب نفائسي ونفسي، حتى أقضي غرضك إن شاء الله تعالى، ولكنْ أوصيك يا أخي بكتمان السر عن أخواتي، فلا تُظهِر حالك على واحدةٍ منهن لئلا تروح روحي وروحك، وإنْ سألْنَك عن فتح الباب، فقُلْ لهن: ما فتحتُه أبدًا، ولكن أنا مشغول القلب من أجل غيابكن عني، ووحشتي إليكن، وقعودي في القصر وحدي. فقال لها: نعم، هذا هو الصواب. ثم أنه قبَّلَ رأسها وطاب خاطره وانشرح صدره، وكان خائفًا من أخته بسبب فتح الباب، فردَّتْ إليه روحه بعد أن كان مُشرِفًا على الهلاك من شدة الخوف. ثم إنه طلب من أخته شيئًا يأكله، فقامت وخرجت من عنده، ثم دخلت على أخواتها وهي حزينة باكية عليه، فسألْنَها عن حالها فأخبرتهن أن خاطرها مشغول على أخيها، وأنه مريض وله عشرة أيام ما نزل في بطنه زادٌ أبدًا، فسألْنَها عن سبب مرضه، فقالت لهن: سببُه غيابنا عنه حيث أوحشناه، فإن هذه الأيام التي غبناها عنه كانت عليه أطول من ألف عام، وهو معذور لأنه غريب ووحيد ونحن تركناه وحده وليس عنده مَن يؤانسه ولا مَن يطيِّب خاطِرَه، وهو شاب صغير على كل حال، وربما تذكَّرَ أهله وأمه، وهي امرأة كبيرة، فظنَّ أنها تبكي عليه آناء الليل وأطراف النهار ولم تزل حزينة عليه، وكنَّا نُسْلِيه بصحبتنا له.
فلما سمع أخواتها كلامها بَكَيْنَ من شدة التأسُّف عليه، وقلْنَ لها: والله إنه معذور. ثم خرجْنَ إلى العسكر وصرفْنَهم، ودخلْنَ على حسن فسلَّمْنَ عليه ورأيْنَه قد تغيَّرَتْ محاسنه، واصفرَّ لونه، وانتحل جسمه، فبكَيْنَ شفقةً عليه وقعَدْنَ عنده وآنسْنَه وطيَّبْنَ قلبه بالحديث، وحكيْنَ له جميع ما رأين من العجائب والغرائب، وما جرى للعريس مع العروسة. ثم إن البنات أقمْنَ عنده مدة شهر كامل وهنَّ يؤانِسْنَه ويلاطِفْنَه، وهو كل يوم يزداد مرضًا على مرضه، وكلما رأيْنَه على هذه الحالة يبكين عليه بكاءً شديدًا وأكثرهن بكاءً البنت الصغيرة. ثم بعد الشهر اشتاقَتِ البنات إلى الركوب للصيد والقنص، فعزمْنَ على ذلك وسألْنَ أختهن الصغيرة أن تركب معهن، فقالت لهن: والله يا أخواتي ما أقدر أن أخرج معكن وأخي على هذه الحالة حتى يتعافى ويزول عنه ما هو فيه من الضرر، بل أجلس عنده لأعلِّله، فلما سمعْنَ كلامها شكرْنَها على مروءتها، وقلْنَ لها: كل ما تفعلينه مع هذا الغريب تُؤجَرِين عليه. ثم تركْنَها عنده في القصر، وركبن وأخذن معهن زادَ عشرين يومًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.