فلما كانت الليلة ٧٩٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما أخذ ثوب البنت طلبَتْه فلم تجده، وطار أخواتها وتركْنَها وحدها، فلما رآهن حسن طِرْنَ وغِبْنَ عنها أصغى إليها، فسمعها تقول: يا مَن أخذ ثوبي وأعراني، سألتُك أن تردَّه عليَّ وتستر عورتي، فلا أذاقك الله حسرتي. فلما سمع حسن هذا الكلام منها، سُلِب عقله في عشقها، وازدادت محبته لها، ولم يُطِقْ أن يصبر عنها، فقام من مكانه وصار يجري حتى هجم عليها وأمسَكَها، ثم جذبها إليه ونزل بها إلى أسفل القصر، وأدخَلَها مقصورته ورمى عليها عباءتَه وهي تبكي وتعضُّ على يدَيْها، فأغلق عليها الباب وراح لأخته وأعلَمَها أنه حصلها وظَفِر بها، ونزل بها إلى مقصورته، وقال لها: إنها الآن قاعدة تبكي وتعض على يديها. فلما سمعت أخته كلامَه قامت وتوجَّهَتْ إلى المقصورة ودخلت عليها، فرأتها تبكي وهي حزينة، فقبَّلَتِ الأرض بين يديها، ثم سلَّمَتْ عليها، فقالت لها الصَّبِية: يا بنت الملك، أهكذا تفعل الناس مثلكم هذه الفِعَال الرديئة مع بنات الملوك؟ وأنت تعرفين أن أبي مَلِك عظيم، وأن ملوك الجان تفزع منه وتخاف من سطوته، وعنده من السَّحَرة والحكماء والكهَّان والشياطين والمَرَدة مَن لا طاقةَ لأحد عليه، وتحت يده خلق لا يعلم عددَهم إلا الله، وكيف يصح لكم يا بنات الملوك أن تأوين رجالَ الإنس عندكن وتُطلِعْنَهم على أحوالنا وأحوالكن؟ وإلا فمن أين أن يصل هذا الرجل إلينا؟ فقالت لها أخت حسن: يا بنت الملك، إن هذا الإنسي كامل المروءة، وليس قصده أمرًا قبيحًا، وإنما هو يحبك، وما خُلِقت النساء إلا للرجال، ولولا أنه يحبك ما مرض لأجلك، وكادت روحه أن تزهق في هواك. وحكت لها جميعَ ما أخبرها به حسن من عشقه لها، وكيف عملت البنات في طيرهن واغتسالهن، وأنه لم يعجبه من جميعهن غيرها؛ لأن كلهن جوارٍ لها، وأنها كانت تغطسهن في البحيرة، وليست واحدة منهن تقدر أن تمدَّ يدها إليها.
فلما سمعت كلامها يئست من الخلاص، فعند ذلك قامت أخت حسن وخرجت من عندها وأحضرت لها بدلة فاخرة، فألبَسَتْها إياها وأحضرت لها شيئًا من الأكل والشرب، فأكلت هي وإياها، وطيَّبت قلبها وسكَّنت روعها، ولم تزل تلاطفها بلِينٍ ورفق وتقول لها: ارحمي مَن نَظَرَكِ نظرةً فأصبح قتيلًا في هواك. ولم تزل تلاطفها وترضيها وتُحسِن لها القولَ والعبارةَ وهي تبكي إلى أن طلع الفجر، فطابت نفسها وأمسكت عن بكائها لما علمت أنها وقعت ولم يمكن خلاصها، وقالت لأخت حسن: يا بنت الملك، بهذا حكم الله على ناصيتي من غربتي وانقطاعي عن بلدي وأهلي وإخوتي، فصبر جميل على ما قضاه ربي. ثم إن أخت حسن أخلَتْ لها مقصورة في القصر لم يكن هناك أحسن منها، ولم تزل عندها تُسْلِيها وتطيِّب خاطرها حتى رضيت وانشرح صدرها وضحكت، وزال ما عندها من الكدر وضيق الصدر من فراق الأهل والأوطان وفراق أخواتها وأبوَيْها وملكها. ثم إن أخت حسن خرجت إليه وقالت له: قُمِ ادخُلْ عليها في مقصورتها، وقبِّلْ يديها ورجليها. فدخل وفعل ذلك، ثم قبَّلَ ما بين عينَيْها، وقال لها: يا سيدة الملاح، وحياة الأرواح ونزهة الناظرين، كوني مطمئنةَ القلب، أنا ما أخذتُك إلا لأجل أن أكون عبدك إلى يوم القيامة، وأختي هذه جاريتك، وأنا يا سيدتي ما قصدي إلا أن أتزوَّجَك بسُنَّة الله ورسوله، وأسافر إلى بلادي وأكون أنا وأنت في مدينة بغداد، وأشتري لك الجواري والعبيد، ولي والدة من خيار النساء تكون في خدمتك، وليس هناك بلادٌ أحسن من بلادنا، وكل ما فيها أحسن مما في غيرها من سائر البلاد، وأهلها وناسها ناس طيبون بوجوه صِباح.
فبينما هو يخاطبها ويؤانسها وهي لا تخاطبه بحرف واحد، وإذا بداقٍّ يدقُّ بابَ القصر، فخرج حسن ينظر مَن بالباب، وإذا هن البنات قد حضرْنَ من الصيد والقنص، ففرح بهن وتلقَّاهن وحيَّاهن فدعَيْنَ له بالسلامة والعافية، ودعا لهن هو الآخَر. ثم نزلن عن خيولهن ودخلن القصر، ودخلت كل واحدة منهن في مقصورتها، ونزعت ما كان عليها من الثياب الرثة ولبست قماشًا مليحًا، وخرجن إلى الصيد والقنص، فاصطدن شيئًا كثيرًا من الغزلان وبقر الوحوش والأرانب والسباع والضباع وغير ذلك، وقدَّمْنَ منه شيئًا إلى الذبح، وتركن الباقي عندهن في القصر، وحسن واقف بينهن مشدود الوسط يذبح لهن، وهن يلعبن وينشرحن وقد فرحن بذلك فرحًا شديدًا. فلما فرغْنَ من الذبح قعَدْنَ يعملن شيئًا ليتغَدَّيْن به، فتقدَّمَ حسن إلى البنت الكبيرة وقبَّلَ رأسها، وصار يقبِّل رأسَهن واحدة بعد واحدة، فقُلْنَ له: لقد أكثرت التنازل إلينا يا أخانا، وعجبنا من فرط تودُّدك إلينا، وأنت رجل آدمي ونحن من الجن. فدمعت عيونه وبكى بكاءً شديدًا، فقلن: ما الخبر؟ وما يُبْكِيك؟ فقد كدرتَ عيشنا ببكائك في هذا اليوم! كأنك اشتقتَ إلى والدتك وإلى بلادك؛ فإنْ كان الأمر كذلك فنجهِّزك ونسافر بك إلى وطنك وأحبابك؟ فقال لهن: والله ما مرادي فراقكن. فقلن له: وحينئذٍ مَن شوَّشَ عليك منَّا حتى تكدَّرْتَ؟ فخجل أن يقول ما شوَّشَ عليَّ إلا عِشْق الصَّبِية خيفةَ أن يُنْكِرْنَ عليه، فسكت ولم يُعْلِمهن بشيء من حاله، فقامت أخته وقالت لهن: إنه اصطاد طيرة من الهواء، ويريد منكن أن تُعِنَّه على تأهيلها. فالتفتن إليه وقلن له: نحن كلنا بين يديك ومهما طلبتَه فعلناه، لكن قصَّ علينا خبرَك ولا تكتم عنَّا شيئًا من حالك. فقال لأخته: قصِّي خبري عليهن، فإني أستحي منهن ولا أقدر أن أقابلهن بهذا الكلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.