فلما كانت الليلة ٧٩٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن حسنًا لما دخل على بنت الملك وأزال بكارتها، التذَّ بها لذةً عظيمة، وزادت محبته لها ووَجْده بها، فأنشَدَ فيها الأبيات المذكورة. وكانت البنات واقفات على الباب، فلما سمعْنَ الشعر قلْنَ لها: يا بنت الملك، أسمعتِ قولَ هذا الإنسي؟ كيف تلوميننا وقد أنشَدَ الشِّعْرَ في هواك؟ فلما سمعَتْ ذلك انبسطت وانشرحت وفرحت. ثم إن حسنًا أقام معها مدة أربعين يومًا في حظ وسرور ولذة وحبور، والبنات تجدِّد له كلَّ يوم فرحًا ونعمة وهدايا وتحفًا، وهو بينهن في سرور وانشراح، وطاب لبنت الملك القعود بينهن ونسيت أهلها. ثم بعد الأربعين يومًا كان حسن نائمًا، فرأى والدته حزينة عليه، وقد رقَّتْ عظامُها، وانتحل جسمها، واصفرَّ لونها، وتغيَّرَ حالها، وكان هو في حالة حسنة، فلما رأته على هذه الحالة قالت له: يا ولدي يا حسن، كيف تعيش في الدنيا منعمًا وتنساني؟ فانظر لحالي بعدك، وأنا ما أنساك، ولا لساني يترك ذِكْرك حتى أموت، وقد عملت لك قبرًا عندي في الدار حتى لا أنساك أبدًا، أترى أعيش يا ولدي وأنظرك عندي ويعود شملنا مجتمعًا كما كان؟ فانتَبَه حسن من نومه وهو يبكي وينوح، ودموعه تجري على خدَّيْه مثل المطر، وصار حزينًا كئيبًا لا ترتفع دموعه ولم يَجِئْه نوم، ولم يقرَّ له قرار، ولم يَبْقَ عنده اصطبار. فلما أصبح دخلت عليه البنات وصبَّحْنَ عليه، وانشرحْنَ معه على عادتهن، فلم يلتفت إليهن، فسألْنَ زوجته عن حاله، فقالت لهن: ما أدري. فقلن لها: اسأليه عن حاله. فتقدَّمَتْ إليه وقالت له: ما الخبر يا سيدي؟ فتنهَّدَ وتضجر وأخبرها بما رآه في منامه، ثم أنشد هذين البيتين:
فأخبرتهن زوجته بما قاله لها، فلما سمعت البنات الشِّعْرَ رققْنَ لحاله، وقلن له: تفضَّلْ باسم الله، ما نقدر أن نمنعك من زيارتها، بل نساعدك على زيارتها بكل ما نقدر عليه، ولكن ينبغي أن تزورنا ولا تنقطع عنَّا، ولو في كل سنة مرة واحدة. فقال لهن: سمعًا وطاعة. فقامت البنات من وقتهن وعملْنَ له الزاد، وجهَّزْنَ له العروسةَ بالحلي والحلل وكل شيء غالٍ يعجز عنه الوصف، وهيَّأْنَ له تحفًا تعجز عن حصرها الأقلام. ثم إنهن ضربن الطبل فجاءت النجائب إليهن من كل مكان، فاخترْنَ منها ما يحمل جميع ما جهَّزْنَه، وأركبْنَ الجارية وحسنًا، وحملْنَ إليهما خمسة وعشرين تختًا من الذهب وخمسين من الفضة، ثم سِرْنَ معهما ثلاثة أيام، فقطعن فيها مسافة ثلاثة أشهر، ثم إنهن ودَّعْنَهما وأردْنَ الرجوع عنهما، فاعتنقَتْه أخته الصغيرة، وبكت حتى غُشِي عليها، فلما أفاقت أنشدت هذين البيتين:
فلما فرغت من شعرها ودَّعته وأكَّدت عليه أنه إذا وصل إلى بلده واجتمع بأمه واطمأنَّ قلبه لا يقطعها من الزيارة في كل ستة أشهر مرة، وقالت له: إذا أهَمَّك أمرًا وخفتَ مكروهًا، فدقَّ طبل المجوسي فتحضر لك النجائب واركب وارجع إلينا ولا تتخلَّف عنَّا. فحلف لها على ذلك، ثم أقسم عليهم أن يرجعن بعد أن ودَّعْنَه وحزنَّ على فراقه، وأكثرهن حزنًا أخته الصغيرة، فإنها لم يستقر لها قرار ولم يطاوعها اصطبار، وصارت تبكي ليلًا ونهارًا. هذا ما كان منهن، وأما ما كان من أمر حسن، فإنه سار طول الليل والنهار يقطع مع زوجته البراري والقفار، والأودية والأوعار، في الهواجر والأسحار، وكتب الله لهما السلامة، فسَلِما ووصلا إلى مدينة البصرة، ولم يزالا سائرين حتى أناخا على باب داره نجائبَهما، ثم صرَفَ النجائبَ وتقدَّمَ إلى الباب ليفتحه، فسمع والدته وهي تبكي بصوت رقيق من كبدٍ ذاقَتْ عذابَ الحريق، وهي تنشد هذه الأبيات:
فبكى حسن لما سمع والدته تبكي وتندب، ثم طرق الباب طرقةً مزعجةً، فقالت أمه: مَن بالباب؟ فقال لها: افتحي. ففتحت الباب ونظرت إليه، فلما عرفَتْه خرَّتْ مغشيًّا عليها، فما زال يلاطفها إلى أن أفاقت، فعانَقَها وعانَقَتْه وقبَّلته، ثم نقل حوائجَه ومتاعه إلى داخل الدار، والجاريةُ تنظر إلى حسن وأمه. ثم إن أم حسن لما اطمأنَّ قلبها وجمع الله شملها بولدها، أنشدت هذه البيات:
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.