فلما كانت الليلة ٧٩٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن والدة حسن قعدت هي وإياه يتحدثان، وصارت تقول له: كيف حالك يا ولدي مع الأعجمي؟ فقال لها: يا أمي، ما كان أعجميًّا بل كان مجوسيًّا يعبد النار دون الملك الجبار. ثم إنه أخبرها بما فعل به من أنه سافَرَ به وحطَّه في جلد الجمل وخيَّطه عليه، وحملته الطيور وحطَّتْه فوق الجبل، وأخبَرَها بما رآه فوق الجبل من الخلائق الميتين الذين كان يحتال عليهم المجوسي ويتركهم فوق الجبل بعد أن يقضوا حاجته، وكيف رمى روحه في البحر من فوق الجبل وسلَّمَه الله تعالى وأوصَلَه إلى قصر البنات، ومؤاخاة البنت له وقعوده عند البنات، وكيف أوصَلَ الله المجوسيَّ إلى المكان الذي هو فيه، وأخبَرَها بعشق الصَّبِية وكيف اصطادها، وبقصتها كلها إلى أن جمع الله شملهما ببعضهما. فلما سمعت أمه حكايته تعجَّبَتْ وحمدت الله تعالى على عافيته وسلامته، ثم قامت إلى تلك الحمول فنظرَتْها وسألته عنها، فأخبرها بما فيها، ففرحت فرحًا عظيمًا، ثم تقدَّمَتْ إلى الجارية تحدِّثها وتؤانسها، فلما وقعت عينها عليها اندهَشَ عقلها من ملاحتها، وفرحت وتعجَّبَتْ من حُسْنها وجمالها وقدِّها واعتدالها، ثم قالت له: يا ولدي، الحمد لله على السلامة وعلى رجوعك سالمًا. ثم إن أمه قعدت جنب الصبية وآنستها وطيَّبَتْ خاطرها، ثم نزلت في بكرة النهار إلى السوق فاشترت عشر بدلات أفخر ما في المدينة من الثياب، وأحضرت لها الفرش العظيم، وألبسَتِ الصَّبِية وجمَّلَتْها بكل شيء مليح، ثم أقبلت على ولدها وقالت: يا ولدي، نحن بهذا المال لا نقدر أن نعيش في هذه المدينة، وأنت تعرف أننا ناس فقراء والناس يتهموننا بعمل الكيمياء، فقُمْ بنا نسافر إلى مدينة بغداد دار السلام لنقيم في حَرَم الخليفة، وتقعد أنت في دكان فتبيع وتشتري وتتَّقِي الله عز وجل، فيفتح عليك بهذا المال.
فلما سمع حسن كلامَها استصوبه، وقام من وقته وخرج من عندها وباع البيت، وأحضَرَ النجائبَ وحمل عليها جميعَ أمواله وأمتعته وأمه وزوجته وسار، ولم يزل سائرًا إلى أن وصل إلى الدجلة، فاكترى مركبًا لبغداد ونقل فيها جميع ماله وحوائجه ووالدته وزوجته وكل ما كان عنده، ثم ركب المركب فسارت بهم المركب في ريح طيبة مدة عشرة أيام حتى أشرفوا على بغداد، فلما أشرفوا عليها فرحوا ودخلت بهم المركب المدينة، فطلع من وقته وساعته إلى المدينة واكترى مخزنًا في بعض الخانات، ثم نقل حوائجه من المركب إليه، وطلع وأقام ليلة في الخان. فلما أصبح غيَّرَ ما عليه من الثياب، فلما رآه الدلَّال سأله عن حاجته وعمَّا يريد، فقال: أريد دارًا تكون مليحة واسعة. فعرض عليه الدُّورَ التي عنده فأعجبته دارٌ كانت لبعض الوزراء، فاشتراها منه بمائة ألف دينار من الذهب وأعطاه الثمن، ثم عاد إلى الخان الذي نزل فيه ونقل جميع ماله وحوائجه إلى الدار، ثم خرج إلى السوق وأخذ ما تحتاج إليه الدار من آنية وفرش وغير ذلك، واشترى خَدَمًا، ومن جملتها عبدٌ صغيرٌ للدار، وأقام مطمئِنًّا مع زوجته في ألذِّ عيش وسرور مدةَ ثلاث سنين، وقد رُزِق منها بغلامين سمَّى أحدهما ناصرًا والآخر منصورًا.
وبعد هذه المدة تذكَّرَ أخواته البنات وتذكَّرَ إحسانهن إليه، وكيف ساعَدْنَه على مقصوده؛ فاشتاق إليهن وخرج إلى أسواق المدينة فاشترى منها شيئًا من حلي وقماش نفيس ونقل ما رأَيْنَ مثله قط ولا يعرِفْنَه، فسألته أمه عن سبب اشتراء تلك التحف، فقال لها: إني عزمت على أن أسافر إلى أخواتي اللاتي فعلْنَ معي كل جميل، ورزقي الذي أنا فيه من خيرهن وإحسانهن إليَّ، فإني أريد أن أسافر إليهن وأنظرهن وأعود قريبًا إن شاء الله تعالى. فقالت له: يا ولدي، لا تَغِبْ عليَّ. فقال لها: اعلمي يا أمي كيف تكونين مع زوجتي، وهذا ثوبها الريش في صندوق مدفون في الأرض، فاحرصي عليه لئلا تقع عليه فتأخذه وتطير هي وأولادها ويروحون، وأبقى لا أقع لهم على خبر فأموت كمدًا من أجلهم، واعلمي يا أمي أني أحذِّرك من أن تذكري ذلك لها، واعلمي أنها بنت ملك الجان، وما في ملوك الجان أكبر من أبيها ولا أكثر منه جنودًا ولا مالًا، واعلمي أنها سيدةُ قَوْمِها وأعزُّ ما عند أبيها، فهي عزيزة النفس جدًّا؛ فاخدميها أنت بنفسك ولا تمكِّنيها من أن تخرج من الباب أو تطل من الطاقة أو من حائط، فإني أخاف عليها من الهواء إذا هبَّ، وإذا جرى عليها أمرٌ من أمور الدنيا، فأنا أقتل روحي من أجلها. فقالت أمه: أعوذ بالله من مخالفتك يا ولدي، هل أنا مجنونة حتى توصيني بهذه الوصية وأخالفك فيها؟ سافِرْ يا ولدي وطِبْ نفسًا، وسوف تحضر في خير وتنظرها إن شاء الله تعالى وتُخبِرك بما جرى لها مني، ولكن يا ولدي لا تقعد غير مسافة الطريق. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.