فلما كانت الليلة ٧٩٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما سمع كلام أمه حين حكَتْ له جميع ما فعلَتْ
زوجته وقتما طارت، صرخ صرخة عظيمة ووقع مَغْشِيًّا عليه، ولم يزل كذلك إلى آخِر النهار،
فلما أفاق لطم على وجهه وصار يتقلَّب على الأرض مثل الحية، فقعدت أمه تبكي عند رأسه إلى
نصف
الليل، فلما أفاق من غشيته بكى بكاءً عظيمًا وأنشد هذه الأبيات:
قِفُوا وَانْظُرُوا حَالَ الَّذِي تَهْجُرُونَهُ
لَعَلَّكُمُ بَعْدَ الْجَفَا تَرْحَمُونَهُ
فَإِنْ تَنْظُرُوهُ تُنْكِرُوهُ لِسَقْمِهِ
كَأَنَّكُمُ وَاللهِ لَا تَعْرِفُونَهُ
وَمَا هُوَ إِلَّا مَيِّتٌ فِي هَوَاكُمُ
يُعَدُّ مِنَ الْأَمْوَاتِ إِلَّا أَنِينَهُ
وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ التَّفَرُّقَ هَيِّنٌ
يَعِزُّ عَلَى الْمُشْتَاقِ وَالْمَوْتُ دُونَهُ
فلما فرغ من شعره قام وجعل يدور في البيت، وينوح ويبكي وينتحب مدة خمسة أيام، ولم
يَذُقْ
فيها طعامًا ولا شرابًا، فقامت إليه أمه وحلَّفته وأقسمت عليه أن يسكت من البكاء، وهو
لا
يقبل كلامها، وما زال يبكي وينتحب وأمه تُسْلِيه وهو لا يسمع منها شيئًا، ثم أنشد هذه
الأبيات:
أَكَذَا يُجَازَى وُدُّ كُلِّ قَرِينِ
أَمْ هَذِهِ شِيَمُ الظِّبَاءِ الْعِينِ
أَفَمَا بُيُوتُ النَّحْلِ بَيْنَ شِفَاهِهِمْ
مَنْضُوضَةٌ أَوْ حَانَةُ الزَّرْجُونِ
قُصُّوا عَلَيَّ حَدِيثَ مَنْ قَتَلَ الْهَوَى
إِنَّ التَّأَسِّي رُوحُ كُلِّ حَزِينِ
وَوَرَاءَ ذَيَّاكِ الْمُصَلَّى مَوْرِدٌ
حَصَبْاؤُهُ مِنْ لُؤْلُؤٍ مَكْنُونِ
لَوْ كُنْتُ زَرْقَاءَ الْيَمَامَةِ مَا رَأَتْ
مِنْ بَارِقٍ حَيًّا عَلَى جَيْرُونِ
تَرْمِي بِعَيْنَيْكَ الْفُجَاجَ مُقَلِّبًا
ذَاتَ الشِّمَالِ بِهَا وَذَاتَ يَمِينِ
وما زال حسن على هذه الحالة يبكي إلى الصباح، ثم إنه أغفَتْ عيناه فرأى زوجته حزينةً
وهي
تبكي، فقام من نومه وهو صارخ وأنشد هذين البيتين:
خَيَالُكِ عِنْدِي لَيْسَ يَبْرَحُ سَاعَةً
جَعَلْتُ لَهُ فِي الْقَلْبِ أَشْرَفَ مَوْضِعِ
وَلَوْلَا رَجَاءُ الْوَصْلِ مَا عِشْتُ لَحْظَةً
وَلَوْلَا خَيَالُ الطَّيْفِ لَمْ أَتَهَجَّعِ
فلما أصبح الصباح زاد نحيبه وبكاؤه، ولم يزل باكيَ العين، حزينَ القلب، ساهر الليل،
قليل
الأكل، واستمر على هذه الحالة مدة شهر كامل، فلما مضى ذلك الشهر خطر بباله أنه يسافر
إلى
أخواته لأجل أن يساعِدْنَه على قصده من حصولها، فأحضَرَ النجائب ثم حمَّلَ هجينةً من
تحف
العراق وركب واحدة منها، ثم أوصى والدته على البيت وأودَعَ جميع حوائجه إلا قليلًا أبقاه
في
الدار، ثم سار متوجِّهًا إلى أخواته لعله أن يجد عندهن مساعدة على اجتماع زوجته. ولم
يزل
سائرًا حتى وصل إلى قصر البنات في جبل السحاب، فلما دخل عليهن قدَّمَ إليهن الهدايا،
ففَرِحْنَ بها وهنَّأْنَه بالسلامة، وقلن له: يا أخانا، ما سبب مجيئك بسرعة، وما لك غير
شهرين؟ فبكى وأنشَدَ هذه الأبيات:
أَرَى النَّفْسَ فِي فِكْرٍ لِفَقْدِ حَبِيبِهَا
فَلَا تَتَهَنَّى بِالْحَيَاةِ وَطِيبِهَا
سَقَامِيَ دَاءٌ لَيْسَ يُعْرَفُ طِبُّهِ
وَهَلْ يُبْرِئُ الْأَسْقَامَ غَيْرُ طَبِيبِهَا
فَيَا مَانِعِي طِيبَ الْمَنَامِ تَرَكْتَنِي
أُسَائِلُ عَنْكَ الرِّيحَ عِنْدَ هُبُوبِهَا
قَرِيبَةُ عَهْدٍ مِنْ حَبِيبِي وَقَدْ حَوَى
مَحَاسِنَ تَدْعُو مُقْلَتِي لِصَبِيبِهَا
فَيَا أَيُّهَا الشَّخْصُ الْمُلِمُّ بِأَرْضِهِ
عَسَى نَفْحَةٌ تُحْيِي الْقُلُوبَ بِطِيبِهَا
فلما فرغ من شعره صرخ صرخة عظيمة وخرَّ مَغْشِيًّا عليه، وقعدت البنات حوله يبكين
عليه
حتى أفاق من غشيته، فلما أفاق أنشد هذين البيتين:
عَسَى وَلَعَلَّ الدَّهْرَ يَلْوِي عِنَانَهُ
وَيَأْتِي بِحِبِّي وَالزَّمَانُ غَيُورُ
وَيُسْعِدُنِي دَهْرِي فَتُقْضَى حَوَائِجِي
وَتَحْصُلُ مِنْ بَعْدِ الْأُمُورِ أُمُورُ
فلما فرغ من شعره بكى حتى غُشِي عليه،
فلما أفاق أنشد هذين البيتين:
بِاللهِ يَا مُنْتَهَى سَقْمِي وَأَمْرَاضِي
هَلْ أَنْتَ رَاضٍ فَإِنِّي فِي الْهَوَى رَاضِ
أَتَهْجُرِينَ بِلَا ذَنْبٍ وَلَا سَبَبٍ
فَوَاصِلِي وَارْحَمِي مِنْ هَجْرِكِ الْمَاضِي
فلما فرغ من شعره بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق أنشد هذه
الأبيات:
هَجَرَ الْمَنَامَ وَوَاصَلَ التَّسْهِيدَ
وَالْعَيْنُ بِالدَّمْعِ الْمَصُونِ تَجُودُ
تَبْكِي بِدَمْعٍ كَالْعَقِيقِ صَبَابَةً
يَرْبُو عَلَى طُولِ الْمَدَى وَيَزِيدُ
أَهْدَى إِلَيَّ الشَّوْقُ يَا أَهْلَ الْهَوَى
نَارًا لَهَا بَيْنَ الضُّلُوعِ وَقُودُ
وَإِذَا ذَكَرْتُكِ لَمْ تَفِضْ لِي دَمْعَةٌ
إِلَّا وَفِيهَا بَارِقٌ وَرُعُودُ
فلما فرغ من شعره بكى حتى غُشِي عليه، فلما أفاق من غشيته أنشد هذه
الأبيات:
أَفِي الْعِشْقِ وَالتَّبْرِيحِ دُنْتُمْ كَمَا دُنَّا
وَهَلْ وُدُّنَا مِنْكُمْ كَمْا وُدُّكُمْ مِنَّا
أَلَا قَاتَلَ اللهُ الْهَوَى مَا أَمَرَّهُ
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا يُرِيدُ الْهَوَى مِنَّا
وُجُوهُكُمُ الْحَسْنَاءُ إِنْ شَطَّتِ النَّوَى
تَمَثَّلُ فِي أَبْصَارِنَا أَيْنَمَا كُنَّا
فَقَلْبِيَ مَشْغُولٌ بِتَذْكَارِ حَيِّكُمْ
وَيُطْرِبُنِي صَوْتُ الْحَمَامِ إِذَا غَنَّى
أَلَا يَا حَمَامًا بَاتَ يَدْعُو أَلِيفَهُ
لَقَدْ زِدْتَنِي شَوْقًا وَأَصْحَبْتَنِي حُزْنَا
تَرَكْتَ جُفُونِي لَا تَمَلُّ مِنَ الْبُكَا
عَلَى سَادَةٍ غَابُوا بِرُؤْيَتِهِمْ عَنَّا
أَحِنُّ إِلَيْهِمْ كُلَّ وَقْتٍ وَسَاعَةٍ
وَأَشْتَاقُهُمْ فِي اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّ
فلما سمعَتْ كلامَه أختُه، خرجَتْ إليه فرأته راقدًا مَغْشِيًّا عليه، فصرخت ولطمت
وجهها،
فسمعها أخواتها فخرجْنَ إليها، فرأيْنَ حسنًا راقدًا مَغْشِيًّا عليه، فاحتطْنَ به وبكين
عليه، ولم يَخْفَ عليهن حين رأينه ما حلَّ به من الوَجْد والهيام والشوق والغرام، فسألنه
عن
حاله، فبكى وأخبرهن بما جرى له في غيابه حيث طارت زوجته وأخذت أولادها معها، فحَزِنَّ
عليها
وسألْنَه عن الذي قالت عندما راحت، قال: يا أخواتي إنها قالت لوالدتي: قولي لولدك إذا
جاء
وطالت عليه ليالي الفراق، واشتهى القُرْبَ مني والتلاق، وهزَّتْه أرياح المحبة والأشواق،
فَلْيَجِئني إلى جزائر واق. فلما سمعن كلامه تغامزْنَ
وتذكَّرْنَ، وصارت كل واحدة تنظر إلى أختها وحسن ينظرهن، ثم أطرقْنَ برءوسهن إلى الأرض
ساعة، وبعد ذلك رفعْنَها وقلن: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم قلن له: امدُدْ
يدَكَ إلى السماء، فإنْ وصلت إلى السماء تصل إلى زوجتك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ
عن
الكلام المباح.