فلما كانت الليلة ٨٠٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن البنات لما قعدن يتحدَّثن مع عمهن، قالت له البنت الكبيرة: يا عمي، إننا كنَّا حدَّثناك بحديث حسن البصري الذي جاء به بهرام المجوسي، وكيف قتله، وحدَّثناك بالصَّبِيَّة بنت الملك الأكبر التي أخذها، وما قاسَى من الأمور الصعاب والأهوال، وكيف اصطاد بنت الملك وتزوَّجَ بها، وكيف سافَرَ بها إلى بلاده. قال: نعم، فما حدث له بعد هذا؟ قالت له: إنها غدرَتْ به وقد رُزِق منها بولدَيْن، فأخذتهما وسافرت بهما إلى بلادها وهو غائب، وقالت لأمه: إذا حضر ولدك وطالت عليه ليالي الفراق، وأراد مني القرب والتلاق، وهزَّتْهُ أرياحُ المحبة والاشتياق، فَلْيَجِئْني إلى جزائر واق. فحرَّكَ رأسه وعضَّ على إصبعه، ثم أطرق رأسه إلى الأرض، وصار ينكت في الأرض بإصبعه، ثم التفَتَ يمينًا وشمالًا وحرَّكَ رأسه، وحسن ينظره وهو متوارٍ عنه، فقالت البنات لعمهن: رُدَّ علينا الجواب، فقد تفتَّتَتْ منَّا الأكباد. فهزَّ رأسه إليهن وقال لهن: يا بناتي، لقد أتعَبَ هذا الرجلُ نفسَه، ورمى روحه في هول عظيم وخطر جسيم، فإنه لا يقدر أن يُقبِلَ على جزائر واق. فعند ذلك نادت البنات حسنًا، فخرج إليهن وتقدَّمَ إلى الشيخ عبد القدوس وقبَّلَ يده وسلَّمَ عليه، ففرح به وأجلَسَه بجانبه، فقالت البنات لعمهن: يا عم، بيِّنْ لأخينا حقيقةَ ما قلْتَه. فقال له: يا ولدي، اترك عنك هذا العذاب الشديد، فإنك لا تقدر أن تصل إلى جزائر واق، ولو كان معك الجن الطيارة والنجوم السيارة؛ لأن بينك وبين الجزائر سبعة أودية، وسبعة بحار، وسبعة جبال عظام، وكيف تقدر أن تصل إلى هذا المكان؟ ومَن يوصلك إليه؟ بالله عليك أن ترجع من قريب ولا تتعب سرك.
فلما سمع حسن كلام الشيخ عبد القدوس بكى حتى غُشِيَ عليه، وقعدت البنات حوله يبكين لبكائه، وأما البنت الصغيرة فإنها شقَّتْ ثيابَها ولطمت على وجهها حتى غُشِيَ عليها؛ فلما رآهم الشيخ عبد القدوس على هذه الحالة من الهم والوَجْد والحزن، رَقَّ لهم وأخذته الرأفة عليهم، فقال: اسكتوا. ثم قال لحسن: طيِّبْ قلبك وأبشِرْ بقضاء حاجتك إن شاء الله تعالى. ثم قال: يا ولدي، قُمْ وشِدَّ حيلك واتبعني. فقام حسن على حيله بعد أن ودَّعَ البنات وتبعه، وقد فرح بقضاء حاجته. ثم إن الشيخ عبد القدوس استدعى الفيل فحضر، فركبه وأردَفَ حسنًا خلفه وسار به مدة ثلاثة أيام بلياليها مثل البرق الخاطف، حتى وصل إلى جبل عظيم أزرق، وحجارته كلها زرق، وفي ذلك الجبل مغارة وعليها باب من الحديد الصيني، فأخذ الشيخ بيد حسن وأنزَلَه، ثم نزل الشيخ وأطلَقَ الفيل، ثم تقدَّمَ إلى باب المغارة وطرَقَه فانفتح الباب وخرج إليه عبد أسود أجرود كأنه عفريت، وبيده اليمنى سيف والأخرى ترس من بولاد، فلما نظَرَ الشيخَ عبد القدوس رَمَى السيف والترس من يده وتقدَّمَ إلى الشيخ عبد القدوس وقبَّلَ يده، ثم أخذ الشيخ بيد حسن ودخل هو وإياه وقفل العبد الباب خلفهما، فرأى حسن المغارة كبيرة واسعة جدًّا ولها دهليز معقود، ولم يزالوا سائرين مقدار ميل، ثم انتهى بهم السير إلى فلاة عظيمة، وتوجَّهوا إلى ركنٍ فيه بابان عظيمان مسبوكان من النحاس الأصفر، ففتح الشيخ عبد القدوس بابًا منهما ودخل ورَدَّه، وقال لحسن: اقعدْ على هذا الباب واحذَرْ أن تفتحه وتدخل حتى أدخل وأرجع إليك عاجلًا.
فلما دخل الشيخ غاب مدة ساعة فلكية، ثم خرج ومعه حصان مسرَّج ملجَّم، إنْ سارَ طارَ، وإنْ طارَ لم يلحقه غبار، فقدَّمَه الشيخُ لحسن وقال: اركب. ثم إن الشيخ فتح الباب الثاني فبانَ منه برية واسعة، فركب حسن الحصان وخرج الاثنان من الباب وسارَا في تلك البرية، فقال الشيخ لحسن: يا ولدي، خذ هذا الكتاب وسِرْ على هذا الحصان إلى الموضع الذي يوصلك إليه، فإذا نظرَتْه وقَفَ على باب مغارة مثل هذه، فانزلْ عن ظهره واجعلْ عِنانه في قربوص السرج وأطلِقْه، فإنه يدخل المغارة فلا تدخل معه وقِفْ على باب المغارة مدة خمسة أيام ولا تضجر، فإنه في اليوم السادس يخرج إليك شيخ أسود، عليه لباس أسود، وذقنه بيضاء طويلة نازلة إلى سرته، فإذا رأيته فقبِّلْ يدَيْه وأمسِكْ ذيله واجعله على رأسك وَابْكِ بين يدَيْه حتى يرحمك، فإنه يسألك عن حاجتك، فإذا قال لك: ما حاجتك؟ فادفع إليه هذا الكتاب، فإنه يأخذه منك ولا يكلِّمك ويدخل ويخليك، فقِفْ مكانك خمسة أيام أُخَر ولا تضجر، وفي اليوم السادس انتظره فإنه يخرج إليك، فإنْ خرج إليك بنفسه فاعلم أن حاجتك تُقضَى، وإنْ خرج إليك أحدٌ من غلمانه، فاعلم أن الذي خرج إليك يريد قتلك والسلام. واعلم يا ولدي أن كلَّ مَن خاطَرَ بنفسه أهلَكَ نفسَه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.