فلما كانت الليلة ٧٣٠
قالت: بلغني إيها الملك السعيد، أن الشيخ الحارس لما أخذ الألفَيْ دينار من الملكة وعاد إلى منزله، فرحت عياله ودعوا لمَن كان سببًا في ذلك كله. هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر العجوز، فإنها قالت: يا سيدتي، لقد صار هذا المكان مليحًا، وما رأيتُ قطُّ أنصع من بياضه ولا أحسن من دهانه، يا ترى هل الأصلح ظاهره أو باطنه؟ وإلا عمل ظاهره بياضًا وباطنه سوادًا؟ فادخلي بنا حتى نتفرج على باطنه. فدخلت الداية وبنت الملك خلفها، فوجداه مدهونًا ومزوقًا من داخلٍ بأحسن التزويق، فنظرت بنت الملك يمينًا وشمالًا إلى أن وصلت إلى صدر الإيوان، فشخصت إليه وأطالت النظر فيه، فعلمت الداية أن عينها لحظت تصوير ذلك المنام، فأخذت الجاريتين عندها حتى لا يشغلاها. فلما انتهت بنت الملك إلى رؤية تصوير المنام، التفتت إلى العجوز وهي متعجبة تدق يدًا على يد وقالت: يا دايتي، تعالي انظري شيئًا عجيبًا لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمَن اعتبر. قالت العجوز: وما هو يا سيدتي؟ قالت لها الملكة: ادخلي صدر الإيوان وانظري، وأي شيء تنظريه فعرِّفيني به. فدخلت العجوز وتأمَّلت تصوير المنام وخرجت وهي متعجبة وقالت: والله يا سيدتي، إن هذا هو صورة البستان والصياد والشَّرَك وجميع ما رأيته في المنام، وما منع الذَّكَر لما طار من أن يعود إلى أنثاه ويخلصها من شَرَك الصياد إلا مانع عظيم، فإني نظرته تحت مخالب الجارح، وقد ذبحه وشرب دمه ومزَّق لحمه وأكله، وهذا يا سيدتي سبب تأخيره عن العود إليها وتخليصها من الشَّرَك، ولكن يا سيدتي إنما العجب من تصوير هذا المنام بالزواق، ولو كنتِ أنتِ أردتِ أن تفعلي ذلك لَعجزتِ عن تصويره، والله إن هذا الشيء عجيب يُؤرَّخ في السِّيَر، ولكن يا سيدتي لعل الملائكة المُوكَّلين ببني آدم علموا أن الطير الذكر مظلوم، حيث ظلمناه ولمناه على عدم عوده، فأقاموا حجة الذكر وبيَّنوا عذره، وها أنا قد رأيته في هذه الساعة بين مخالب الجارح وهو مذبوح.
قالت بنت الملك: يا دايتي، هذا الطير الذي جرى عليه القضاء والقدر، ونحن قد ظلمناه. قالت العجوز: يا سيدتي، بين يدي الله تعالى تلتقي الخصوم، ولكن يا سيدتي قد تبين لنا الحق ووضح لنا عذر الطير الذكر، ولولا أنه تعلقت به مخالب الجارح وذبحه وشرب دمه وأكل لحمه، ما تأخر عن الرجوع إلى الطيرة، بل كان يرجع إليها ويخلصها من الشَّرَك، ولكن الموت ما فيه حيلة وخصوصًا ابن آدم، فإنه يجوِّع نفسه ويُطعِم زوجته، ويعرِّي نفسه ويكسوها، ويُغضِب أهله ويرضيها، ويعصي والدَيْه ويطيعها، وهي تطَّلِع على سره وخبيئته، ولا تصبر عنه ساعة واحدة، فلو غاب عنها ليلة واحدة لم تنم عينها ولم يكن عندها أعز منه، فتعزه أكثر من والديها، وإذا ناما يتعانقان ويجعل يده تحت عنقها وهي تجعل يدها تحت عنقه، كما قال الشاعر:
وبعد ذلك فهو يقبِّلها وتقبِّله، ومن جملة ما جرى لبعض الملوك مع زوجته أنها ضعفت وماتت، فدفن نفسه معها بالحياة ورضي لنفسه بالموت من محبته إياها، ومن فرط الألفة التي كانت بينهما. وكذلك جرى لبعض الملوك حين ضعف ومات، فلما قصدوا أن يدفنوه قالت زوجته لأهلها: دعوني أدفن نفسي معه بالحياة وإلا أقتل نفسي وأبقى في ذمتكم، فلما علموا أنها لا ترجع عن ذلك تركوها، فرمت نفسها في القبر معه من كثرة محبتها إياه وشفقتها عليه. وما زالت العجوز تحدِّثها بحديث أخبار الرجال والنساء حتى زال ما كان في قلبها من بغض الرجال، فلما عرفت العجوز المودة التي تجدَّدت عندها للرجال قالت: إنه آن أوان تفرجنا في البستان. فخرجتا من القصر يتمشيان بين الأشجار، فلاحت من ابن الملك التفاتة فوقعت عينه عليها ونظر إلى شكلها، واعتدال قدِّها، وتورُّد خدها، وسواد طرفها، وبارع ظرفها، وباهر جمالها، ووافر كمالها؛ فاندهش عقله، وشخص إليها بصره، وعدم في الغرام رشده، وتجاوَزَ به العشق حدَّه، واشتعلت بخدمتها جوارحه، والتهبت بنار العشق جوانحه، فغشي عليه ووقع على الأرض مُغمًى عليه. فلما أفاق وجدها غابت عن عينه، وتوارت منه في الأشجار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.