فلما كانت الليلة ٨٠٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما قال له الملك حسون هذا الكلامَ وأوصاه بالذي ذكرناه، وقال له: أنا لا أقدر لك على شيء غير هذا. قال له بعد ذلك: واعلم أنه لولا حصلَتْ لك عنايةٌ من رب السماء ما وصلْتَ إلى هنا. فلما سمع حسن كلامَ الملك حسون بكى حتى غُشِيَ عليه، فلما أفاق أنشد هذين البيتين:
فلما فرغ حسن من شعره قبَّلَ الأرض بين يدي الملك وقال له: أيها الملك العظيم، وكم بقي من الأيام حتى تأتي المراكب؟ قال: مدة شهر، ويمكثون هنا لبيع ما فيها مدة شهرين، ثم يرجعون إلى بلادهم، فلا تترجَّ سفرك فيها إلا بعد ستة أشهر كاملة. ثم إن الملك أمَرَ حسنًا أن يذهب إلى دار الضيافة، وأمر أن يُحمَل إليه كلُّ ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وملبوس من الذي يناسب الملوك، فأقام في دار الضيافة شهرًا، وبعد الشهر حضرت المراكب، فخرج الملك والتجار وأخذ حسنًا معه إلى المراكب، فرأى مركبًا فيها خلق كثير مثل الحصى ما يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، وتلك المركب في وسط البحر، ولها زوارق صغار تنقل ما فيها من البضائع إلى البر، فأقام حسن عندهم حتى نزع أهلها البضائع منها إلى البر، وباعوا واشتروا، وما بقي للسفر إلا ثلاثة أيام، فأحضَرَ الملكُ حسنًا بين يدَيْه وجهَّزَ له ما يحتاج إليه، وأنعَمَ عليه إنعامًا عظيمًا، ثم بعد ذلك استدعى ريس تلك المركب وقال له: خذ هذا الشاب معك في المركب، ولا تُعلِم به أحدًا، وأوصله إلى جزائر واق، واتركْه هناك ولا تأتِ به. فقال الريس: سمعًا وطاعة.
ثم إن الملك أوصى حسنًا وقال له: لا تُعلِمْ أحدًا من الذين معك في المركب بشيء من حالك، ولا تُطلِعْ أحدًا على قصتك فتهلك. قال: سمعًا وطاعة. ثم ودَّعَه بعد أن دَعَا له بطول البقاء والدوام، والنصر على جميع الحساد والأعداء، وشكره الملك على ذلك ودَعَا له بالسلامة وقضاء حاجته، ثم سلَّمَه للريس، فأخذه وحطَّه في صندوق وأنزَلَه في قارب، ولم يطلعه في المركب إلا والناس مشغولون في نقل البضائع، وبعد ذلك سافَرَتِ المراكب، ولم تزل مسافرة مدة عشرة أيام، فلما كان اليوم الحادي عشر وصلوا إلى البر، فطلَّعه الريس من المركب، فلما طلع من المركب إلى البر رأى فيه دككًا لا يعلم عددها إلا الله، فمشى حتى وصل إلى دكةٍ ليس لها نظير واختفى تحتها، فلما أقبَلَ الليلُ جاء خلق كثير من النساء كالجراد المنتشر، وهنَّ ماشيات على أقدامهن وسيوفهن مشهورة في أيديهن، ولكنهن غائصات في الزرد، فلما رأت النساء البضائعَ اشتغلن بها، ثم بعد ذلك جلسْنَ لأجل الاستراحة، فجلست واحدة منهن على الدكة التي تحتها حسن، فأخذ حسن طرفَ ذيلها وحطَّه فوق رأسه، ورمى نفسه عليها وصار يقبِّل يدَيْها وقدمَيْها وهو يبكي، فقالت له: يا هذا، قُمْ واقفًا قبل أن يراك أحد فيقتلك. فعند ذلك خرج حسن من تحت الدكة ونهض قائمًا على قدمَيْه وقبَّلَ يدَيْها وقال لها: يا سيدتي، أنا في جيرتك. ثم بكى وقال لها: ارحمي مَن فارَقَ أهله وزوجته وأولاده، وبادَرَ إلى الاجتماع بهم، وخاطَرَ بروحه ومهجته، فارحميني وأيقني أنك تُؤجَرين على ذلك بالجنة، وإنْ لم تقبليني فأسألك بالله العظيم الستَّار أن تستري عليَّ. فصارت التاجرة شاخصةً له وهو يكلِّمها، فلما سمعت كلامه ونظرَتْ تضرُّعَه رحمَتْه ورقَّ قلبها إليه، وعلمت أنه ما خاطَرَ بنفسه وجاء إلى هذا المكان إلا لأمر عظيم، فعند ذلك قالت لحسن: يا ولدي، طِبْ نفسًا، وقرَّ عينًا، وطيِّب قلبك وخاطرك، وارجع إلى مكانك واختفِ تحت الدكة كما كنتَ أولًا إلى الليلة التالية؛ يفعل الله ما يريده. ثم ودَّعَتْه ودخل حسن تحت الدكة كما كان.
ثم إن العساكر بتْنَ يوقدن الشموعَ الممزوجة بالعود الند والعنبر الخام إلى الصباح، فلما طلع النهار رجعت المراكب إلى البر، واشتغل التجار بنقل البضائع والأمتعة إلى أن أقبل الليل وحسن مختفٍ تحت الدكة باكي العين حزين القلب، ولم يعلم بالذي قُدِّرَ له في الغيب، فبينما هو كذلك إذا أقبلت عليه المرأة التاجرة التي كان استجار بها وناولَتْه زردية وسيفًا وحياصة مذهَّبة ورمحًا، ثم انصرفت عنه خوفًا من العسكر، فلما رأى ذلك علم أن التاجرة ما أحضرَتْ له هذه العدة إلا ليلبسها، فقام حسن ولبس الزردية، وشدَّ الحياصة على وسطه، وتقلَّدَ بالسيف تحت إبطه، وأخذ الرمح بيده وجلس على تلك الدكة ولسانه لم يغفل عن ذكر الله تعالى، بل يطلب منه الستر. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.