فلما كانت الليلة ٨٠٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن حسنًا لما أخذ السلاح الذي أعطته إياه الصبية التاجرة التي استجارَ بها وقالت له: اجلس تحت الدكة ولا تخل أحدًا يفهم حالك. تقلَّدَ به، ثم جلس فوق الدكة ولسانه لم يغفل عن ذكر الله، وصار يطلب من الله الستر، فبينما هو جالس إذا أقبلت المشاعل والفوانيس والشموع، وأقبلت عساكر النساء، فقام حسن واختلط بالعسكر وصار كواحدة منهن، فلما قرب طلوع الفجر توجَّهَتِ العساكر وحسن معهن حتى وصلن إلى خيامهن، ودخلت كل واحدة خيمتها، فدخل حسن خيمة واحدة منهن، وإذا هي خيمة صاحبته التي كان استجار بها، فلما دخلت خيمتها ألقَتْ سلاحها وقلعت الزردية والنقاب، وألقى حسن سلاحه فنظر إلى صاحبته فوجدها زرقاء العينين كبيرة الأنف، وهي داهية من الدواهي، أقبح ما يكون في الخلق، بوجه أجدر، وحاجب أمعط، وأسنان مكسرة، وخدود معجرة، وشعر شائب، وفم بالريالة سائل، وهي كما قال في مثلها الشاعر:
وهي بذات معطاء كحية رقطاء، فلما نظرَتِ العجوزُ إلى حسن تعجَّبَتْ وقالت: كيف وصل هذا إلى هذه الديار؟ وفي أي المراكب حضر؟ وكيف سَلِمَ؟ وصارت تسأله عن حاله وتتعجَّب من وصوله، فعند ذلك وقع حسن على قدمَيْها، ومرَّغَ وجهه على رجلَيْها، وبكى حتى غُشِيَ عليه، فلما أفاق أنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره أخذ ذيل العجوز ووضعه فوق رأسه وصار يبكي ويستجير بها، فلما رأت العجوز احتراقه ولوعته وتوجُّعه وكربته، حنَّ قلبها إليه وأجارته وقالت له: لا تَخَفْ أبدًا. ثم سألته عن حاله، فحكى لها جميع ما جرى له من المبتدأ إلى المنتهى، فتعجبت العجوز من حكايته وقالت له: طيِّبْ قلبك وطيِّبْ خاطرك، ما بقي عليك خوف، وقد وصلتَ إلى مطلوبك وقضاء حاجتك إن شاء الله تعالى. ففرح حسن بذلك فرحًا شديدًا، ثم إن العجوز أرسلت إلى قوَّاد العسكر أن يحضرْنَ، وكان ذلك آخِر يوم من الشهر، فلما حضرْنَ بين يدَيْها قالت لهن: اخرجن ونادين في جميع العسكر أن يخرجن في غدٍ بكرة النهار ولا تتخلف واحدة منهن، فإنْ تخلَّفَتْ واحدة راحَتْ روحها، فقلْنَ لها: سمعًا وطاعةً. ثم خرجْنَ ونادَيْنَ في جميع العسكر بالرحيل في غدٍ بكرة النهار، ثم عدن وأخبرْنَها بذلك، فعلم حسن أنها هي رئيسة العسكر وصاحبة الرأي فيه، وهي المقدَّمة عليه.
ثم إن حسنًا لم يقلع السلاح من فوق بدنه في ذلك النهار، وكان اسم تلك العجوز التي هو عندها شواهي وتُكنَّى بأم الدواهي، فما فرغت العجوز من أمرها ونهيها إلا وقد طلع الفجر، فخرج العسكر جميعه من أماكنه ولم تخرج العجوز معهن، فلما سار العسكر وخلت منه الأماكن، قالت شواهي لحسن: ادنُ مني يا ولدي. فدنا منها ووقف بين يدَيْها، فأقبلت عليه وقالت له: ما السبب في مخاطرتك بنفسك ودخولك إلى هذه البلاد؟ وكيف رضيتَ نفسك بالهلاك؟ فأخبِرْني بالصحيح عن جميع شأنك ولا تُخْفِ عني منه شيئًا، ولا تَخَفْ فإنك قد صرتَ في عهدي، وقد أَجَرْتُك ورحمتك ورثيت لحالك، فإن أخبرتَني بالصدق أعنْتُكَ على قضاء حاجتك، ولو كان فيها رواح الأرواح وهلاك الأشياخ، وحيث وصلتَ إليَّ ما بقي عليك بأس، ولا أخلي أحدًا يصل إليك بسوء أبدًا من كل ما في جزائر واق.
فحكى لها قصته من أولها إلى آخِرها، وعرَّفها بشأن زوجته وبالطيور، وكيف اصطادها من بين العشرة، وكيف تزوَّجَ بها، ثم أقام معها حتى رُزِق منها بولدَيْن، وكيف أخذت أولادها وطارت حين عرفت طريق الثوب الريش، ولم يُخْفِ من حديثه شيئًا من أوله إلى يومه الذي هو فيه. فلما سمعت العجوز كلامه حرَّكَتْ رأسها وقالت له: سبحان الله الذي سلَّمَك وأوصلك إلى هنا وأوقعك عندي، ولو كنتَ وقعتَ عند غيري كانت روحك راحت، ولم تُقْضَ لك حاجة، ولكنَّ صِدْقَ نيتك ومحبتك وفرط شوقك إلى زوجتك وأولادك هو الذي أوصَلَك إلى حصول بغيتك، ولولا أنك لها مُحِبٌّ وبها ولهان، ما كنتَ خاطرْتَ بنفسك هذه المخاطرة، والحمد لله على السلامة. وحينئذٍ يجب علينا أن نقضي لك حاجتك ونساعدك على مطلوبك، حتى تنال بغيتك عن قريب إن شاء الله تعالى، ولكن اعلم يا ولدي أن زوجتك في الجزيرة السابعة من جزائر واق، ومسافة ما بيننا وبينها سبعة أشهر ليلًا ونهارًا، فإننا نسير من هنا حتى نصل إلى أرضٍ يقال لها أرض الطيور، فمن شدة صياح الطيور وخفقان أجنحتها لا يسمع بعضنا كلام بعض. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.