فلما كانت الليلة ٨٠٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز لما قالت لحسن: بالله عليك يا ولدي أن تسمع مني كلامي، وتختار لك واحدة من هؤلاء البنات غير زوجتك وترجع إلى بلادك من قريبٍ سالمًا. فأطرق رأسه وبكى بكاءً شديدًا، وأنشد الأبيات المذكورة، فلما فرغ من شعره بكى حتى غُشِيَ عليه، فما زالت العجوز ترشُّ الماءَ على وجهه حتى أفاق من غشيته، ثم أقبلَتْ عليه وقالت: يا سيدي، ارجع إلى بلادك، فإني متى سافرتُ بكَ إلى المدينة راحت روحك وروحي؛ لأن الملكة إذا علمَتْ بذلك تلومني على دخولي بك إلى بلادها وجزائرها التي لم يصلها أحدٌ من أولاد بني آدم، وتقتلني حيث حملتُكَ معي، وأطلعتُكَ على هؤلاء الأبكار اللاتي رأيتَهن في البحر، مع أنه لم يمسهنَّ فَحْل ولم يقربهن بَعْل. فحلف حسن أنه ما نظر إليهن نظر سوء قطُّ، فقالت له: يا ولدي، ارجع إلى بلادك وأنا أعطيك من المال والذخائر والتحف ما تستغني به عن جميع النساء، فاسمع كلامي وارجع من قريب ولا تخاطر بنفسك فقد نصحتك. فلما سمع حسن كلامها بكى ومرَّغَ خدَيْه على قدميها وقال: يا سيدتي ومولاتي وقرة عيني، كيف أرجع بعدما وصلتُ إلى هذا المكان ولم أنظر مَن أريد؟ وقد قربت من دار الحبيب، وترجيت اللقاءَ عن قريب، ولعله أن يكون لي في الاجتماع نصيب. ثم أنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ حسن من شعره، رقَّتْ له العجوز ورحمته، وأقبلت عليه وطيَّبَتْ خاطره، وقالت له: طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا، وأخل فكرك من الهم، والله لَأخاطِرَنَّ معك بروحي حتى تبلغ مقصودك أو تدركني منيتي. فطاب قلب حسن وانشرح صدره، وجلس يتحدَّث مع العجوز إلى آخِر النهار، فلما أقبَلَ الليل تفرَّقت البنات كلهن؛ فمنهن مَن دخلت قصرها في البلد، ومنهن مَن باتت في الخيام. ثم إن العجوز أخذت حسنًا معها ودخلت به البلد، فأخلَتْ له مكانًا وحده لئلا يطَّلِع عليه أحدٌ فيُعلِم الملكة به فتقتله وتقتل مَن أتى به، ثم صارت تخدمه بنفسها وتخوِّفه من سطوة الملك الأكبر أبي زوجته، وهو يبكي بين يديها ويقول: يا سيدتي، قد اخترتُ الموتَ لنفسي وكرهت الدنيا، إنْ لم أجتمع بزوجتي وأولادي، فأنا أخاطِرُ بروحي، إما أن أبلغ مرادي وإما أن أموت.
فصارت العجوز تتفكَّر في كيفية وصاله واجتماعه بزوجته، وكيف تكون الحيلة في أمر هذا المسكين الذي رمى روحه في الهلاك، ولم ينزجر عن قصده بخوف ولا غيره، وقد سلا نفسه، وصاحِبُ المثل يقول: العاشق لا يسمع كلام خليٍّ. وكانت تلك البنت ملكة الجزيرة التي هم نازلون فيها، وكان اسمها نور الهدى، وكان لهذه الملكة سبع أخوات بنات أبكار مُقِيمات عند أبيهن الملك الأكبر، الذي هو حاكم على السبع جزائر وأقطار واق، وكان تخت ذلك الملك في المدينة التي هي أكبر مدن ذلك البر، وكانت بنته الكبيرة وهي نور الهدى هي الحاكمة على تلك المدينة التي فيها حسن وعلى سائر أقطارها. ثم إن العجوز لما رأت حسنًا محترقًا على الاجتماع بزوجته وأولاده، قامت وتوجَّهَتْ إلى قصر الملكة نور الهدى، فدخلَتْ عليها وقبَّلَتِ الأرضَ بين يدَيْها، وكان للعجوز فضل عليها؛ لأنها ربَّتْ بناتَ المَلِك جميعهن، ولها على الجميع سلطنة، وهي مكرَّمة عندهن عزيزة عند الملك.
فلما دخلت العجوز على الملكة نور الهدى، قامت لها وعانقَتْها وأجلَسَتْها جنبها، وسألتها عن سفرتها، فقالت لها: والله يا سيدتي إنها كانت سفرة مباركة، وقد استصحبتُ لكِ معي هدية سأحضِرُها بين يديك. ثم قالت لها: يا بنتي، يا ملكة العصر والزمان، إني قد أتيتُ معي بشيء عجيب وأريد أن أُطلِعَكِ عليه لأجل أن تساعديني على قضاء حاجته. فقالت لها: وما هو؟ فأخبرَتْها بحكاية حسن من أولها إلى آخِرها وهي ترتعد كالقصبة في مهبِّ الريح العاصف، حتى وقعَتْ بين يدي بنت الملك، وقالت لها: يا سيدتي، قد استجارَ بي شخصٌ على الساحل كان مختفيًا تحت الدكة فأجرْتُه، وأتيتُ به معي بين عسكر البنات وهو حامل السلاح بحيث لا يعرفه أحدٌ، وأدخلته البلد. ثم قالت لها: وقد خوَّفْتُه من سطوتكِ وعرَّفْتُه ببأسك وقوتك، وكلما أخوِّفه يبكي وينشد الأشعار ويقول لي: لا بد من رؤية زوجتي وأولادي، أو أموت ولا أرجع إلى بلادي من غيرهم. وقد خاطَرَ بنفسه وجاء إلى جزائر واق، ولم أَرَ عمري آدميًّا أقوى قلبًا منه، ولا أشد بأسًا، إلا أن الهوى قد تمكَّنَ منه غاية التمكُّن. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.