فلما كانت الليلة ٨٠٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز لما حكَتْ للملكة نور الهدى حكايةَ حسن، قالت لها: وما رأيتُ أقوى قلبًا منه، إلا أن الهوى قد تمكَّنَ منه غاية التمكُّن. فلما سمعتِ الملكةُ كلامها وفهمت قصة حسن، غضبت غضبًا شديدًا وأطرقَتْ رأسها إلى الأرض ساعةً، ثم رفعت رأسها ونظرت إلى العجوز وقالت لها: يا عجوزَ النحس، هل بلغ من خبثك أنك تحملين الذكورَ وتأتين بهم معك إلى جزائر واق، وتدخلين بهم عليَّ ولم تخافي من سطوتي؟ وحق رأس الملك لولا ما لكِ عليَّ من التربية لَقتلتُكِ أنت وإياه في هذه الساعة أقبحَ قتلة، حتى يعتبر المسافرون بك يا ملعونة؛ لئلا يفعل أحد مثل ما فعلتِ من هذه الفعلة العظيمة التي لم يقدر أحدٌ عليها، ولكن اخرجي وأحضريه في هذه الساعة حتى أنظره. فخرجت العجوز من بين يدَيْها وهي مدهوشة لا تدري أين تذهب وتقول: كل هذه المصيبة ساقَهَا الله لي من هذه الملكة على يد حسن. ومضَتْ إلى أن دخلت على حسن فقالت له: قُمْ كلِّمِ الملكةَ يا مَن آخِرُ عمره قد دَنَا. فقام معها ولسانه لا يفتر عن ذِكْر الله تعالى ويقول: اللهم الطُفْ بي في قضائك، وخلِّصْني من بلائك. فسارت به حتى أوقفَتْه بين يدي الملكة نور الهدى، وأوصَتْه العجوز في الطريق بما يتكلَّم به معها، فلما تمثَّلَ بين يدَيْ نور الهدى رآها ضاربةً لثامًا، فقبَّلَ الأرضَ بين يديها وسلَّمَ عليها، وأنشد هذين البيتين:
فلما فرغ من شعره أشارت الملكة إلى العجوز أن تخاطبه قدامها لتسمع مجاوَبتَه، فقالت العجوز: إن الملكة تردُّ عليك السلام وتقول لك: ما اسمك؟ ومن أيِّ البلاد أنتَ؟ وما اسم زوجتك وأولادك الذين جئتَ من أجلهم؟ وما اسم بلادك؟ فقال لها وقد ثبت جنانه وساعدته المقادير: يا ملكة العصر والأوان، ووحيدة الدهر والزمان، أمَّا أنا فاسمي حسن الكثير الحزن، وبلدي البصرة، وأما زوجتي فلا أعرف لها اسمًا، وأما اسم أولادي فواحد اسمه ناصر، والآخَر منصور. فلما سمعت الملكة كلامه وحديثه قالت: فمن أين أخذت أولادها؟ فقال لها: يا ملكة، من مدينة بغداد من قصر الخلافة. فقالت له: وهل قالت لكم شيئًا عندما طارت؟ قال: إنها قالت لوالدتي: إذا جاء ولدكِ وطالَتْ عليه أيام الفراقِ، واشتهى القُرْبَ والتلاق، وهَزَّتْه رياح الاشتياق، فَلْيجئني إلى جزائر واق. فحرَّكَتِ الملكة نور الهدى رأسها، ثم قالت له: إنها لو كانت ما تريدك ما قالت لأمك هذا الكلام، ولولا أنها تريدك وتشتهي قُرْبك ما كانت أعلمَتْكَ بمكانها ولا طلبتك إلى بلادها. فقال حسن: يا سيدة الملوك، والحاكمة على كل ملك وصعلوك، الذي جرى أخبرتُكِ به وما أخفيتُ منه شيئًا، وأنا أستجير بالله وبكِ ألَّا تظلميني، فارحميني واربحي أَجْرِي وثوابي، وساعديني على الاجتماع بزوجتي وأولادي، وردِّي لهفتي وقرِّي عيني بأولادي، وأسعِفِيني برؤيتهم. ثم بكى وحنَّ واشتكى، وأنشد هذين البيتين:
فأطرقت الملكة نور الهدى رأسها إلى الأرض وحرَّكته زمانًا طويلًا، ثم رفعته وقالت له: قد رحمتُكَ ورثيتُ لك، وقد عزمتُ على أن أعرض عليك كلَّ بنت في المدينة وفي بلاد جزيرتي، فإنْ عرفْتَ زوجتك سلَّمْتُها إليك، وإنْ لم تعرفها قتلْتُكَ وصلبْتُكَ على باب دار العجوز. فقال لها حسن: قبلتُ ذلك منكِ يا ملكة الزمان. ثم أنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره قال: رضيتُ بالشرط الذي شرطتِه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. فعند ذلك أمرَتِ الملكةُ نور الهدى ألَّا تبقى بنت في المدينة حتى تطلع القصر وتمر أمامه، ثم إن الملكة أمرَتِ العجوزَ شواهي أن تنزل بنفسها إلى المدينة، وتحضر كل بنت كانت في المدينة إلى الملكة في قصرها، وصارت الملكة تُدخِل البنات على حسن مائة بعد مائة، حتى لم يَبْقَ في المدينة بنت إلا وقد عرضَتْها على حسن، فلم يَرَ زوجته فيهن، فسألَتْه الملكة وقالت له: هل رأيتَها في هؤلاء؟ فقال لها: وحياتك يا ملكة ما هي فيهن. فاشتدَّ غضب الملكة عليه وقالت للعجوز: ادخلي وأَخْرِجي كلَّ مَن كنَّ في القصر واعرضيهن عليه. فلما عرضت عليه كلَّ مَن في القصر، لم يَرَ زوجته فيهن وقال للملكة: وحياة رأسك يا ملكة ما هي فيهن. فغضبت وصرخت على مَن حولها وقالت: خذْنَه واسحبْنَه على وجهه فوق الأرض، واضربْنَ عنقه؛ لئلا يخاطرَ بنفسه أحد بعده ويطَّلِع على حالنا، ويجوز علينا في بلادنا، ويطأ أرضنا وجزائرنا. فسحبْنَه على وجهه وطرحْنَ ذيله فوقه وغمَّضْنَ عينَيْه، ووقفْنَ بالسيوف على رأسه ينتظرْنَ الإذن، فعند ذلك تقدَّمَتْ شواهي إلى الملكة وقبَّلَتِ الأرضَ بين يديها، ومسكت ذيلها ورفعَتْه فوق رأسها وقالت لها: يا ملكة، بحق التربية لا تعجلي عليه، خصوصًا وأنت تعرفين أن هذا المسكين غريب قد خاطَرَ بنفسه، وقاسَى أمورًا ما قاسَاها أحد قبله، ونجَّاه الله تعالى عز وجل من الموت لطول عمره، وقد سمع بعَدْلِكِ فدخل بلادك وحِمَاك، فإنْ قتلتِه تنتشر الأخبار عنكِ مع المسافرين بأنك تبغضين الأغرابَ وتقتلينهم، وهو على كل حال تحت قهرك، ومقتول سيفك إنْ لم تظهر زوجته في بلدك، وأي وقت تشتهين حضوره فأنا قادرة على ردِّه إليك، وأيضًا فأنا ما أَجَرْتُه إلا طمعًا في كرمك بسبب ما لي عليك من التربية، حتى ضمنتُ له أنك توصلينه إلى بغيته؛ لعلمي بعدلك وشفقتك، ولولا أني أعلم منك هذا ما كنتُ أدخلْتُه بلدك، وقلتُ في نفسي: إن الملكة تتفرَّج عليه وعلى ما يقوله من الأشعار والكلام المليح الفصيح الذي يشبه الدر المنظوم، وهذا قد دخل بلادنا وأكل زادنا، فوجَبَ حقُّه علينا. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.