الألم الجميل
بساطةٌ نبيلة وعظمةٌ هادئة، هكذا وصَف فنكلمان (الأثَري الألماني، وأحدُ مؤسِّسي تاريخ الفن الحديث، وأكبرُ من جعل الدعوة إلى تذوُّقه والاهتداء بمُثُله الفنية والخلُقية رسالةَ حياته) الفن القديم، وجعَل هاتَين الصفتَين طابع الرسمِ والنحتِ عند الإغريق والرومان. إنه يقول في كتابه «محاكاة الأعمال الإغريقية في الرسم والنحت»: «كمثلِ ما تبقَى أعماقُ البحرِ هادئةً في كل حين، مهما غَضِبَ السطحُ وثار، كذلك يكشِفُ التعبير المُرتسِم على الأشكال الإغريقية، مع كلِّ ما يَضطرِم في نفوسِ أصحابها من عواطف، عن نفسٍ عظيمةٍ مُتَّزنة.»
ولم يجد فنكلمان شيئًا يُوضِّح به قوله خيرًا من تمثال لاؤوكون، ولاؤوكون هو أمير طروادة وكاهن أبولُّو أو بوزيدون. ويُقال إن سوفوكليس كتب عنه مسرحيةً ضاعت فيما ضاع من مسرحياته.
أما حكايته كما يرويها فرجيل في ملحمته (الإلياذة، النشيد الثاني، ٤٠–٥٦، ١٩٩–٢٣١) فهي أنه عارَضَ معارضةً شديدة في سَحْب حصان طروادة المشهور إلى داخلِ أسوارِ المدينة وحذَّر أهلها منه. ويُقال إن أثينا عاقبَتْه على ذلك، فزحفَت عليه حيَّتانِ ضَخْمتان من جزيرة تينيدوس فقتَلَتاه مع ولدَيه.
وقد خلَّدَتْه تلك المجموعة من التماثيل المرمرية المعروفة باسمه والمحفوظة الآن في مُتحَف الفاتيكان، وهي تُصوِّره مع ولدَيه يُصارعان الموت. وتُنسَب التماثيل إلى فنَّانينَ ثلاثةٍ من رودوس هم: أجيساندر وبوليدوروس، وأثينودوروس. صَنَعوها في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي. ويُقال إنها كانت معروضةً في قصر الإمبراطور تيتوس وكانت تُحفةَ النحتِ والرسمِ القديمَين.
هذا البطل الطروادي الذي تلتفُّ حولَه الحيَّة الضخمة وتَعتصِر جسده القوي الجميل، وتُصارع الحياة فيه صراعًا غيرَ مُتكافئٍ ولا عادل، يحتفظ مع كل العذاب الذي يُقاسيه بنفسٍ هادئة ومُتَّزنة وعظيمة؛ هذه النفس الصامدة الجليلة لا يُعبِّر عنها الوجهُ وحده بل يُعبِّر عنها الجسد كله؛ فالألم الذي يشُد كلَّ عضلة ووتَر، نكادُ نُحِس به ولو لم ننظُر إلى الوجه أو سائر الأعضاء؛ ذلك لأن كل عضلةٍ وكل عِرقٍ في هذا الجسَد قد أوشكَت أن تُصبِح وجهًا مُعبِّرًا عن ألمٍ فظيع ولكنه جميل. إنه ألمٌ لا يغضَب ولا يصرُخ تلك الصرخة المُفزِعة التي أطلقَها «فرجيل» على لسانه: ففَتْحة فمه لا تسمح بها، بل تكاد تجعل منهما تنهدةَ إشفاقٍ أو توجُّع، وهو ألم عظيم، يتركُ آثار العذاب والنبل على الشكل كله بنفس القوة ونفس الاتزان. لاؤوكون يتعذب، ولكنه يتعذَّب مثل «فيلوكتيت» في مسرحية سوفوكليس المشهورة، تعاسته تمَسُّ شَغاف القلب، ولكننا حين ننظُر إليه نتمنَّى لو كان في قُدرتنا أن نَتحمَّل بعض العذاب الذي يتحمَّله.
لا بُد أن الفنان الإغريقي، كما يقول فنكلمان، قد أَحسَّ بالعظمة في نفسِه قبل أن يطبَعَها على المرمر، ولا بد أن وجدانه كان يجمع بين إحساس الفنَّان وحكمة المُفكِّر، وأن الحكمة قد مدَّت يدها للفن ونفخَت في الأشكال الفنية هذه الروحَ النبيلة الجليلة. وإلا فكيف نُفسِّر هذا التعبير العظيم عن النفس العظيمة، وهو شيءٌ يزيد على كونه مجرد تكوينٍ للطبيعة أو تشكيلٍ للحجر؟ الأَنَّ لاؤوكون يتألم الألم الذي يُمزِّق الجسد ولا يصرخ؟ أم لأنَّه يحتفظ بهدوء الروح، شأن الرُّواقي الذي لا يُبالي، بينما تُشدِّد الحية قبضتَها عليه وتُمعِن فيه لدغًا وتعذيبًا؟ لو صَرخَ لاؤوكون، لكان بذلك صادقًا مع نفسه وطبيعته البشرية؛ فالصُّراخ والبُكاء لن يكونا دليلًا على ضعفه، بل على قُوَّته. وهل منعَنا بكاءُ الأبطال وصُراخُهم في ملاحم هوميروس من الإعجاب ببطولتهم؟ ألم يتَعمَّد الشاعر العظيم أن يُظهِر ضعفهم البشري في أكثرَ من موقفٍ لا يملك الإنسان فيه إلا أن يبكي أو يصرخ، فيزداد عظمةً لأنه يزداد صدقًا؟ لقد رفعَتْهم أعمالهم فوق طبيعة البشر، ولكن إحساسهم جعلهم دائمًا أوفياءَ لطبيعة البشر. وما أكثرَ أبطالَه المحاربين الذين يسقطون على الأرض مجروحين وهم يصرُخون ويَبكون! إن فينوس نفسها تصرخُ صُراخًا عاليًا، ومارس الحديدي حين تمسُّه حربة ديوميدس يصرُخ صرخةً مُفزِعة لا يقدر عليها عشرةُ آلافِ محارب، وابن نسطور الحكيم يقول في الأوديسة: «إنني لا أخجل من البكاء.» فالشاعر يُعطي الطبيعةَ المعذَّبة حقَّها في الشكوى والبكاء والصُّراخ، ويُظهِر ضَعفَ أبطاله في المواقف التي تستلزم الضعف. ولم يكن هوميروس وحده في ذلك؛ فالشعراء والشعراء المسرحيون لا يَخجَلون من الصُّراخ والبُكاء على ألسنة أبطالهم.
ولم يمنع الصراخ والبكاء فيلوكتيت ولا أوديب ولا هرقل في موقف الموت من الظهور على المسرح في هالةٍ من النبل والجلال. ولقد قيل إن سوفوكليس كتب مسرحية عن لاؤوكون ضاعت فيما ضاع من مسرحياته المفقودة. ولا شَكَّ في أنه أظهره على المسرح وهو يبكي ويتأوَّه ويَصرُخ.
لقد أَحَسَّ اليوناني وخاف، ولم يُخجِلْه أن يُعبِّر عن ألمه وحُزنه، ولم يمنعه الضعف البشري من مُواصَلة السعي إلى الشرف ولا حالَ بينه وبين أداء الواجب. لقد استطاع أن يبكي وأن يظل شجاعًا، واستطاع أن يُحقِّق أعمال الأبطال دون أن يتنكَّر لضعف البشر، فهل نَصِف لاؤوكون بالعظمة لأنه يصرخ؟ وهل نَصِفه بالنُّبل لأن فتحةَ فمِه أضيقُ من أن تُطلِق صَيْحة الألم؟ وهل يكفي أن يمتنع عن البكاء ويَكتُم الصُّراخ في صَدرِه لكي نقول إنه يتألم ألمًا جميلًا؟ لا بد أن هناك سببًا آخر جعل هذا التمثال يُعبِّر عما سمَّيناه بالألم الجميل، ولا بد أن نلتمس هذا السبب في هذه الجملة الموجَزة الصادقة التي أطلقَها ذلك الباحث المتحمس للروح اليونانية حين تحدَّث عن «البساطة النبيلة والعظمة الساكنة».
•••
إذا صح ما يُقال في الخرافة أو في التاريخ من أن الحب هو الذي قام بالمحاولة الأُولى في الفنون التشكيلية، فلا شك في أنه هو الذي حرك يدَ الفنان القديم كما حَرَّك نفسه. لم يكن الرسم عند الإغريقي القديم محاكاةً للأجسام أيًّا كانت هذه الأجسام، بل محاكاة للجميل منها فحسب. ولم يكن يكتفي بتصوير هذا الجمال أو يقنَع من مشاهديه بلذَّة التأمُّل فيه، بل كانت غاية الفن عنده هي الجمال نفسه، وكان الجمال بمثابة الغشاء الخارجي الذي يُعبِّر عن الكمال الباطن في الأشياء.
كان الجمال عند القدماء هو القانون الأعلى في الفنون.
وقد نضحك الآن حين نسمع أن الفنون كانت خاضعة للقوانين التي يخضع لها المواطنون؛ فلم تجد السلطات حَرجًا في إلزام الفنان بقواعدَ معينةٍ لا يجوز له أن يحيدَ عنها. ومن المعروف أن القانون في مدينةِ طيبة كان يُوصِي الفنان بمحاكاة الجمال ويُحرِّم عليه محاكاةَ القبح، لا بل يُهدِّده بالعقاب الصارم إن فعَل! فقد كان المُشرِّع يعتقد بحقٍّ أن الفنون لها أثَرُها البيِّن على أخلاق الأمة؛ ولذلك فقد وجَد من حَقِّه أن يُخضِع هذا التأثير لسُلطة القانون، كان يقولُ لنفسه دائمًا: إذا كان الجميلون يصنعون أعمدةً جميلة، فإن هذه تتركُ أثَرها على أولئك، والدولة تَدين للأعمدة الجميلة بوجود أُناسٍ يتصفون بالجمال. وكان يقول لها كذلك إن القانون لا سلطانَ له على العلوم؛ لأن هدفها الأخير هو الحقيقة، والحقيقة ضروريةٌ للنفس لا تستطع أن تحيا بغيرها، ومن الظلم والطغيان أن يتدخل القانون في أَمرِها أو يتَحكَّم فيها أدنى تحكُّم. أما الفن فغايتُه المتعة، ومن حق القانون أن يُحدِّد للمواطنين ما يجوز من هذه المتع وما لا يجوز.
التزمَ الفنَّان القديم إذن بالجمال في كلِّ ما صَوَّره وعبَّر عنه، وحين كانت العواطف تَعصِف بالإنسان، فتبدو آثارُها على الوجه والجسد في أقبحِ صُورةٍ من الالتواء والتعقيد، كان الفنان يمتنع كلَّ الامتناع عن تصويرها أو يَردُّها إلى الحد الأدنى من الجمال؛ ولذلك فليس عجيبًا ألَّا نراه يُعبِّر عن الغضب أو اليأس، فإذا اضطُر إلى التعبير عنهما خفَّفَ من حِدَّتهِما فصارا لديه تعبيرًا عن الجد أو الحُزن الهادئ النبيل.
إن الفنَّان لا يختار من مشاهدِ الطبيعةِ المتغيِّرة أمامه سوى لحظةٍ واحدة، والرسَّام لا يختار غير جانبٍ واحد من هذه اللحظة الواحدة. ولا بد له لكي يُثبِّت هذه اللحظة الفريدة في تعبيرٍ يستحق المشاهدة والتأمُّل أن تكون لحظةً خصبةً ممتلئة بالحياة، ولا تكون خصبةً أو ممتلئةً بالحياة حتى تترك للمُخيِّلة فرصة الحرية والانطلاق. ونحن لا نمل من النظر؛ لأننا لا نمل من الإضافة إليها بالفكر والخيال، وكلما نظرنا إليها خُيِّل إلينا أننا نرى فيها أكثر مما تُعطيه، فإذا أثبت الفنان لحظة التعبير في أقصى درجاتها، لم نجد فرصةً للتخيُّل أو التفكير، وإذا أعطى العين أقصى ما تطلُبه، قصَّ جناح الخيال وأعجَزه عن التحليق فوق الانطباع الحسي، فالفنان الذي جعل لاؤوكون يتنهَّد، جعلنا نسمع صرختَه بالخيال، ولو أنه أطلَق فمه بالصياح، لرأيناه بعين الخيال وهو يموت، ولما أحسَسْنا إزاءه بغير النفور والاشمئزاز. هذه اللحظة ينبغي أن تكون لحظةً عابرة، لا تلبث أن تَظهَر حتى تختفي، ولو أن الفنَّان عبَّر عنها لاضطُر إلى التعبير عن ألمٍ يخلو من أثَر الجمال، ألمٍ يَنِمُّ عن نفسٍ ضعيفةٍ مُتخاذِلة لا عن نفسٍ نبيلةٍ تصمُد للقهر والعذاب.
•••
لنستمع الآن إلى فنكلمان وهو يصف من مكان إقامته في روما تمثال لاؤوكون: «لقد اعتُبر هذا التمثال، من بين آلاف الأعمال الفنية المشهورة التي جُلبَت إلى روما من مختلف الأماكن في بلاد اليونان، أعظمَ ما يُمكِن إبداعُه في الفن؛ ولذلكَ فهو يستَحقُّ من الأجيال المُنحَطَّة التي أعقَبَتْه، والتي لم تستطع أن تُنتِج شيئًا يمكن أن يُقارَنَ به ولو من بعيد، أعظَمَ قَدْرٍ من الالتفات والإعجاب. إن الحكيم يجد هنا بُغيةَ بحثه، والفنَّان يتعلم دروسًا لا تنتهي، وكلاهما يمكنه أن يَقتنِع بأن هذا التمثال يُخفي أكثر مما تكشِف عنه العين، وأن عقل الفنَّان الذي أبدَعه كان أسمى بكثيرٍ من عمله.»
إن لاؤوكون طبيعةٌ تُعاني أشد ألوان الألم، صُنِعَت لتُعبِّر عن رجلٍ يحاول أن يجمع قوة الروح التي يُواجِه بها هذا الألم.
وبينما ينفُخ عذابُه العضلات ويشُدُّ الأعصاب، تتجلَّى الروحُ المسلَّحة بالقوة في الجبهة المُتغضِّنة، ويرتفع الصدْر بالنفَس المُحتبِس وبمقاومة الإحساس الذي يُوشِكُ أن ينفجر لكي يضُمَّ الألم ويَطويَه. إن الشهقة الطويلة التي يكتمُها والنفَس الذي يجذِبه يُضنِيان النصفَ الأسفل من جسمه ويجعلان جانبَيه غائرَينِ مما يجعلُنا نحكُم على حركة أحشائه المُتشنِّجة.
ومع ذلك فيبدو أن عذابَه لا يُقلِقُه بقَدْر ما يُقلِقُه الألم الذي يُقاسيه ولداه اللذان يرفعان وجهَيْهِما إليه ويصرُخان طلبًا للنجدة؛ ذلك لأن قلب الأب يتَبدَّى في العينَين الحزينتَين، والتعاطُف يبدو كأنه يَسبَح كغيمةٍ من العطر. إن وجهه يتشكَّى، ولكن لا يصرخ، وعيناه تتجهان إلى السماء بحثًا عن النجدة، الفَمُ ممتلئ حُزنًا، والشفَة السفلى متدليةٌ تحت ثقل هذا الحزن، أما الشفَة العليا المرتفعة إلى أعلى فيَمتزج فيها الحزن بالألم بالسخط على عذابٍ لا يستحقه ولا يليق به، ويَظهَر هذا السخط في انتفاخِ الأنف واتساعِ فتحتَيه وارتفاعهما.
أما الصراع الذي يدُور تحت الجبهة بين الألمِ والمُقاوَمَة فقد صُوِّر بأكبرِ قَدْرٍ من الحكمة وبدا كأنه قد تجمَّع في نقطةٍ واحدة؛ فبينما يدفع الألم بالحاجبَين إلى أعلى، تخفِض مقاومةُ هذا الألم لحمَ العينَين إلى أسفل في اتجاهِ الرمش الأعلى، حتى إن ذلك اللحمَ يُغطِّيه.
إن الطبيعة التي لم يستطعِ الفنان أن يُجمِّلَها قد حاولَ أن يُظهِرها أكثرَ تفصيلًا وعناءً وقوة، وحيث يكمُن أكبرُ قَدْرٍ من الألم يتجلَّى كذلك أكبرُ قَدْرٍ من الجمال. والجانب الأيسر، الذي تصُبُّ فيه الحيَّة سُمَّها وهي تعَضُّه بقسوة وغضَب، هو الذي يبدو أنه يُقاسي أشدَّ ألوان العذاب لقُربه من القلب، وهذا الجزء من الجسم يمكن أن يُعَد معجزةً من معجزات الفن.
إن ساقَي لاؤوكون تُحاوِلان النهوضَ للخلاصِ من عذابه، وما من جُزءٍ من أجزاء الجسم يبدو في حالة سكون، بل إن الضرباتِ الفنية الكبرى نفسَها تُشير إلى جلدٍ مُتصلِّب.
فمن هو هذا الأثَري الذي تحمس للمثل الأعلى في الفن، وأراد أن يجعل منه مثلًا أعلى للإنسان؟ من هذا الذي أيقَظَ الروح اليونانية في ضمير الغرب، وجعل من محاكاة اليونان سِرَّ الأصالة ومن فنِّهم وحكمتهم مَنبعَ الإنسانية الحقة؟ من هذا الذي راح يُكافِح وحده ليُعيد القلوب والعقول إلى المنبع الأصيل، ويبعثَ الحرارة والحياة في الشعلة اليونانية فتَلتهِب من جديد؟ «بالحرمان والفقر، وبالعَناء والحاجة كان عليَّ أن أشُقَّ طريقي. كنتَ دليلي ومرشدي في كل شيءٍ تقريبًا.»
حين خرج بعمله الأول إلى الناس، تطلَّع إليه العالم الأوروبي الذي سادَتْه حضارة الرومان في دهشة؛ فها هي صفحةٌ جديدة من الرؤية والتربية قد بدأَت، وها هو عصرٌ خالٍ قد عاد يُؤثِّر على النفوس من جديد، وها هو صوتُ اليونان يتردَّد في الآذان بكل إنسانيته وجماله، ويلمعُ كالنجم الباهر الجديد في السماء.
حقًّا إن القلوب كانت قد بدأَت تتهيأ لعهدٍ جديد، والزمن قد نَضجَ لبعث الروح الإغريقية القديمة، وبعض الأصوات — كصوت مواطنه الكبير ليسنج — تُوجِّه الأنظار إلى هذه الروح الأصيلة القوية وتُكافِح الروح الرومانية المسيطرة.
إن فنكلمان كان أول من وجَد في نفسه القوةَ والحماسَ الكافيَيْن لتحويل الدفَّة من الرومان إلى اليونان:
«إن أصفَى منابع الفن قد تفتَّحَت. سعيدٌ من يعثُر عليها ويَتذَوَّق ماءها. إن البحث عن هذه المنابع معناه السفر إلى أثينا.»
ولكن فنكلمان سيبحث عن أثينا وهو في روما، وستنشأ عقيدته اليونانية وإيمانه بالماضي الإغريقي على الأرض الرومانية، وسينتصر على روما من روما نفسها. إنه يعلم أن الكفاح سيكون شاقًا، والمعركة على أرضٍ تؤمن بروما ويبعث الروح الرومانية منذ ثلاثة قرون ستكون معركةً قاسية. قد تكون هذه السيادة الرومانية قد خَمدَت من الناحية السياسية، ولكنها لم تزل منذ عصر النهضة ذاتَ تأثيرٍ حضاريٍّ كبير في إيطاليا وفرنسا، ولم يزل مجد روما القديمة وعظمة ماضيها يلمعان في كتاباتِ شخصياتٍ كبيرةٍ مثل فولتير ومونتسكيو في فرنسا، وجيبون في إنجلترا، وببرانيزي في إيطاليا، فأين تذهبُ كلمة فنكلمان عن البساطة الجميلة النبيلة في الفن اليوناني أمام هذا كله؟ وكيف له أن يؤكِّد الفن اليوناني، لا بل الفكرة اليونانية في الحياة والإنسانية أمام هذه السيطرة الرومانية التي تُواجِهُه في كل مكان؟
ها هو ذا في فبراير سنة ١٧٥٨م يقول عن نفسه إنه «اليوناني الوحيد الذي يعيش في روما.» وها هو ذا يُحاوِل من مكانه في هذه المدينة العريقة أن يُكافِحَ الروح الرومانية في الفن والتربية، ويكتشفَ الذوق اليوناني ويُبشِّر به. إنه لا يشغل نفسه بالفن ولا بالآثار لذاتهما بل من أجل تأكيدِ قيمةِ الإنسانِ وكرامته. إنه يريد أن يسير على «طريق سقراط» فيجعل من نفسه مُربيًا للشباب بالمعنى الشامل لهذه الكلمة، ويهَب حياته وجُهده وكتاباتِه لإحياء ذلك النموذج الإغريقي الكامل للشباب حتى يكونَ قُدوةً حيَّة لمواطنيه «هذه هي حياةُ ومعجزاتُ يوهان فنكلمان، المولود في ستندال من مقاطعة ألتمارك في بداية سنة ١٧١٨م.» تلك هي السطور التي يختتم بها فنكلمان خطابًا يروي فيه قصةَ حياتِه لأحد أصدقائه الألمان في ديسمبر ١٧٦٢م، وكان قد أرسلَه إليه من روما، وطنه الجديد الذي أراد أن يَختمَ فيه أيامه.
ساقه طريق القدر إليها، وهو يعلم أنه طريق مملوء بالعذاب، ولكنه لا يُريد أن يُفارقها؛ لأن فراقها هو فراقُ أعزِّ الأحباب. لقد ذاق الفاقةَ والعبوديةَ في صباه، وهو لذلك سعيدٌ بالحريةِ التي نالها في روما، والمكانةِ المرموقة التي رفعَها إليها عِلمُه وحُبُّه القوي الغامض للقِدَم والقُدَماء، وكلما زادت الصعاب التي كان عليه أن يُواجهَها لمع نجمُه في عيون الأوروبيِّين، وزاد إحساسه بالكرامة والإباء. لقد تغَلغلَت روما في كيانه، كما سيقول عنه جوته فيما بعدُ، وعَرفَ طَعم الحرية التي ستجعله يقول عن نفسه: «إنني فقير ولا أملك شيئًا، ولكنَّني أستمتع بحريةٍ أبيَّة، لا أبيعها بكنوز العالم كلها.» لقد عَرفَ منذ البداية أن طريقه يسير به إلى روما «مدرسة العالم العليا» وبلدِ الفن الكلاسيكي العظيم، والحياةِ الحرة من التجهُّم والادِّعاء. ولقد ساقه طريقُه إليها ليرى ويقول ما لا يستطيع سواه أن يقوله أو يراه، وليُشبِع شوقَ الشمال نحو الجنوب، ويبحث عن حياةٍ أفضلَ وسعادةٍ أبعدَ. عرف أن طريقه سيسوقه إلى إيطاليا، بلد الفن القديم، أو بلدِ الإنسانية كما سيقول عنها فيما بعدُ، فلم يتردَّد في السير على هذا الطريق في رجولةٍ وإصرار. إنه الآن في روما يرى الجمال ويُحِسُّ أنه يُؤدِّي رسالته في بعثِ إنسانيةٍ جديدةٍ من خلال هذا الجمال الكلاسيكي القديم.
بدأ عهدٌ جديدٌ من الرؤية والتجربة عندما رأى فنكلمان لأول مرة بعضَ النماذج الأصلية من الفن الإغريقي. كان العلماء من قبله يقرءون ويقرءون، وها هو ذا يتأمل ويُشاهد فيهتزُّ من أعماق كيانه، تماثيل آلهةٍ وأبطالٍ يراها لأول مرة فتملؤه إحساسًا بالعظمة والجلال. إنه يرى الإله والبطل نفسه أمامه، بقَوامه الفارع الجميل فلا يملك إلا أن ينظر إلى هذه التماثيل نظرة العابد المتبتل ويقول: «إن الآلهة والأبطال تقف كأنها في أماكنَ مقدَّسة حيث يسودُ السكون.» وهو يُحِسُّ أمام هذه الأعمال التي تتكشَّف له كالوحي كأنَّ على الإنسان أن يتحوَّل بكُلِّيَّته أمامها: «إن الإنسان يتجوَّل بين تماثيل المرمر الجميلة بخطًى أكثرَ وثوقًا وبأفكارٍ أكثر ثباتًا.» وينظُر إلى تمثال الإله فيُحِس بالإنسانِ وكَرامتِه، ويعرف أن الهدف الأسمى للفن لا بُد أن يكون هو الإنسان نفسه.
إنه يقف الآن أمام تمثال الإله أبولُّو فيشعُر أن مُشاهدتَه لهذا الجمال تُربِّيه وترتفعُ به، وتُحوِّله إلى مُرب ومُعلِّم ومُبشِّر بالمثل الأعلى للإنسان. ويتطلَّب منه وصفُ هذا التمثال مع تماثيل لاؤوكون وأنتينوس وفينوس وغيرها ما تتطلبه كتابةُ قصيدةٍ عن الأبطال من جُهدٍ وعَناء. ويأتي هذا الوصف كقصيدةٍ عن الأبطال، مطبوعة بروح هوميروس، ممتلئة بالورع والإكبار لهؤلاء البشر الإلهيين أو هؤلاء الآلهة البشريين. ويزداد حماسُه لمثال الجمال القديم بازدياد الحفريات في مَنطقتَي بومبي وهركولانوم، وخروج أعمالٍ فنية إلى النور من تحت ركام بركان فيزوف، تجعلُه يُحِسُّ بسعادةٍ لا تُعادِلها سعادةٌ أخرى في سُموِّها وصفائها. لنستمع إليه وهو يُعبِّر في عام ١٧٦٤م عن الهزَّة التي اجتاحَتْه أمام تمثالٍ اكتُشِف حديثًا في تلك المنطقة: «لقد تمَّ الكشفُ منذ بضعة أيامٍ عن رأس بيلاس يفوقُ في جماله كلَّ ما يمكن أن تراه عينٌ بشرية، وكلَّ ما يخطُر على قلبِ بشَر أو يجولُ في فِكرِه. لقد وقفتُ جامدًا كالحجر عندما رأيتُه.»
هذه الانتفاضة المُتجدِّدة التي راحت تنتابه أمام كل تمثالٍ جميل، وهذا الشوقُ إلى الاتحاد بالجمال الإلهي، كان يجعله يتجوَّل بين التماثيل الإغريقية كأنه يتجوَّل في معبدٍ مقدَّس، كما كان يُعيدُه إلى نفسه التي هي مصدرُ كلِّ جمال، ويُشعِره بالأصل الإلهي الذي انحدَر منه. وأصبح التبشير بالإنسانية الصافية المتجسِّدة في هذا الجمال الإغريقي رسالتَه التي يعيش ليُعلِنَها لمُواطنيه ولأوروبا كلِّها التي أخذَت تنظُر إليه في دهشة واحترام وإعجاب.
كان هذا «البروسي» قد تأهَّب زمنًا طويلًا للقاء القدماء في روما. لم يكتفِ بالتعمُّق في لغة اليونان وآدابهم حتى أصبَح «هوميروس» كتابه الوحيد الذي لا يُفارِقه، بل ذهب إلى هناك بعِقال «القديم» وإحساسه وكيانه، هذا الإحساس الوثني بالقِدَم، وهذا البحث الغريزي عن روح الإغريق وأفكارهم وعقائدهم، كان أشبه بالاستعداد الطبيعي الذي وجَّه حياته وملأه إحساسًا بالثقة في نفسه ورسالته، وأذاقَه طَعم السعادة والرضا والحرية على فردوسه الأرضي في عاصمة العالم القديم. وهذه الحرية كانت بدورها قوةً أخرى قديمةً تغَلغلَت في حياته الظاهرة والباطنة، وتفوَّقَت على كل قوَّةٍ سواها: «أيتها الحرية المباركة التي استطعتُ أخيرًا أن أذوقَ طعمَها وأستَمتعَ بها كل الاستمتاع في كل خطوةٍ أخطوها في روما!» وهي نفس الحرية التي رأى فيها القوة الأساسية التي تُشكِّل الفن الإغريقي، ونفس الحرية التي وجَّهَت إحساسَه بالحياة ورسمَت الطريق لكل أعماله العلمية. وكانت الصداقة إلى جانب الحرية هما الهدف الأخير الذي حدَّد كل شيءٍ في حياته، كما يقول في خطابٍ كتَبه من درسدن قبل أن يُغادِر بلاده بلا عودة. إنها الصداقة الإغريقية القديمة التي كانت تقوم بين الرجال وهي نفس الصداقة الحسية التي كانت تربط سقراط بتلاميذه، وتجعل من البطل الشاب رمزًا للقوة والعظمة والجمال، بهذا الإحساس الوثني بالصداقة البطولية سمَّى نفسه صديق كل الأصدقاء. ولعله حين قال ذلك كان يتوقع الصدَمات التي ستُصيبه من ورائه، ولعل الحب الذي تقوم عليه تلك الصداقة هو الذي جلَب عليه الموت، فقدَّم حياته كالضحيَّة التي يُقدِّمها الوثني لآلهة الوثنيين. المهم أنه ظل يتسمَّع لصوت الحب «الأيروس» في كلِّ ما تراه عينه من آثار الفن القديم، وفي كل ما يُسجِّله قلمُه عنه.
هذه الكلمة الأورفية القديمة الحافلة بالأسرار تغَلغلَت في مذهبه عن الفن الإغريقي، وفي تمجيده للمثل الكامل المتحقق في الجسد الشاب الجميل. كان هذا الجسد الجميل هو غاية الفن الإغريقي ومعناه، وكان همه كله أن يفتح عيونَ الناسِ عليه كما يظهر في تمثال أبولُّو أو غيره من الآلهة والأبطال. هنا أحس فنكلمان بذلك الانسجام الذي يعلو على مدارك البشر ويربط بين الأشياء برباط الأزل، وهنا أحسَّ كذلك بالجمال المثالي الذي رأى كما رأى أفلاطون من قبل أنه كامنٌ في الله، وأنه لا يهبط على البشر أو يغمرهم بنوره إلا لكي يُذكِّرهم بالجمال الإلهي الأصيل. ولم يكن فنكلمان وحده في ذلك، فقد سبقَه إليه مواطنه العظيم «دورر»، ومعاصره شافتزبري وممثلو النهضة الإيطالية، وكلهم تلاميذُ أفلاطون الذين يملؤهم الشوق للعودة إلى المنبع الإلهي القديم، والإحساس بكرامة الإنسانِ وتفرُّدِه وأنه العالم الصغير الذي ينبغي عليه دائمًا ألا يَفقِد صِلتَه بالعالم الكبير. وكما يسودُ التجانُس والانسجام ذلك العالم الكبير، كذلك ينبغي أن يكون هذا العالم الصغير عملًا فنيًّا وكلًّا متجانسًا تسودُه كما تسود العالم الكبير قوانينُ الجمال والأخلاق والانسجام.
لم يكن هذا المثَل الإغريقي القديم في الجمال شيئًا يتصل بالفن وحده، بل كان بالنسبة لفنكلمان مَصدرًا للقانون والمعيار، ومَبعثًا للقوة والإرادة التي تُحاوِل أن تبني الإنسان على نموذج المثال الكامل القديم.
إن إنسانَ القرن الثامن عشر الذي ابتعَد عن الطبيعة وأفسَد عينَيه بالقراءة وأخلاقَه بالرقَّة والتخاذُل يجبُ عليه أن يعودَ مرةً أخرى إلى المثَل الإغريقي القديم في الجمال والقوة والرجولة والشباب، فإذا كان الجمال هو جَوْهر الفن وغايته الأخيرة، فهو كذلك القوة التي ستُوقِظ في أعماق الإنسان الإحساس بكرامته وقوَّته «وألوهيته»؛ فالجمال هو في نفس الوقت الخير، والجسَد الجميل لا تسكُنه إلا نفسٌ جميلةٌ وفاضلة. هكذا يصبح الحب للفن — عند قارئٍ مُتحمِّسٍ لأفلاطون ولمحاورته فايدروس بالذات! — حبًّا للإنسان بوصفه أنبلَ مخلوقات الله، والمثال الذي كان يتغنى به في الفن والشكل لم يكن مثالًا جماليًّا فحَسْب، بل كان مثالًا أخلاقيًّا قبل كلِّ شيء. إن قانون الفن هو قانون الإنسان، كذلك كان الأمرُ عند فنكلمان وليسنج، وسيكون كذلك عند الروح الكلاسيكية كلِّها من بعدُ؛ فأعمال النحت القديم التي رآها فنكلمان لأول مرة في درسدن، ثم بعد ذلك في ليبزج وبوتسدام لم تكشف له عن الجمال وحده، بل كشفَت له عن قيمتها الأخلاقية، وقُدرتها على شفاء الإنسان الحديث من تمزُّقه، وإعادته «كلًّا» متكاملًا، بفضلِ ما فيها من بساطةٍ نبيلة وعظمةٍ هادئة، لا بل بفضلِ ما فيها من قداسة، هذه الآلهة والأبطال التي يُحيط بها سكونٌ أشبه بسكون المعابد، هذه الأجسام الجميلة النامية وهذه الخطوط والأشكال النقية البسيطة في الفن الإغريقي والروماني كما في فن النهضة الإيطالية عند رافائيل ومدرسته، ليست متعةً للعين والذوق فحسب، وإنما هي دليلٌ إلى تربية الإنسان ومرشدٌ إلى الأسلوب الحق في الحياة، والنظر النافذ إلى جوهر الأشياء؛ ومن ثَمَّ لم تكن الروح اليونانية التي يصفُها في كتاباته، وبخاصة في كتاب حياته «تاريخ الفن القديم» ماضيًا بعيدًا يكشف عنه لمعاصريه، بل كانت عنده حاضرًا مُباشرًا وقوةً فعَّالة تستطيع أن تُرجع الإنسان إلى العظمة البسيطة أو البساطة العظيمة، وتُعيد له الكرامة المفقودة كما تدُلُّه على الطريق إلى أصله الإلهي وبالجملة إلى صورة الإنسانية الحقة والبساطة المقدَّسة كما كان يُسمِّيها الإنسانيون من قبله.
كانت نقطة البداية إذن عند فنكلمان هي حبه للجمال وللفن الإغريقي، أما هدفه الأخير، كما سيقول «هردر» فيما بعدُ، فهو إحياءُ طريقة التفكير اليونانية الطبيعية الجميلة. الهدف إذن تربويٌّ إنساني، والمثل الأعلى هو الفن الإغريقي. لا بد من خَلْق فنٍّ جديدٍ على هُدى هذا النموذج القديم، ولا بد من تجاوُز فن الباروك المتأخر «والروكوكو» بكلِّ ما فيهما من تهويلٍ وافتعال، ولا بد أيضًا من تجاوُز صورة الإنسان فيهما. بهذه العقيدة الإغريقية ظهر أول كُتبِ فنكلمان «خواطرُ عن محاكاة الأعمال الإغريقية في الرسم وفن النحت» (١٧٥٥م) ليُشعل نُورًا جديدًا ويقول كلمةً حاسمة في الصراع الخالد بين القديم والجديد. ولم يترَّدد فنكلمان في الوقوف في صَف القدماء، مُؤمنًا بأنه بذلك يُمهِّد الطريق إلى الذوق الحقيقي الصحيح. ولم تكن فكرةُ محاكاة القدماء فكرةً جديدة كل الجدَّة؛ فقد عُرِفَ منذ عصر النهضة أن مُحاكاةَ الأعمال القديمة بما فيها من «بساطةٍ نبيلة» هي التي ستَفتَح الطريق إلى الفن الأصيل، وأن على من يُريد أن يصبح أستاذًا في فنه أن يبدأ بدراسة أعمال القدماء.
هذا المثَل الأعلى في الجمال يمكن أن نفهَمه حين نتأمل شكلًا إغريقيًّا كاملًا بلغ حدًّا من الجمال يصعُب أن نجده في الطبيعة بنفس هذه الدرجة التي يظهر بها في بعض التماثيل؛ فروائع الفن الإغريقي تُقدِّم لنا الطبيعة الكاملة النقية بعد أن تحرَّرَت من كل الحاجات البشرية واقتربَت من الجمال المثالي أو لنقُل من الجمال الإلهي. بهذا المبدأ الأفلاطوني نقَل فنكلمان الجمال الأسمى في هذا العالم إلى عالمٍ آخر يفيضُ منه ويعودُ إليه. وبهذا أصبح الجمال البشري يُقاس بالجمال الأسمى، ويُحدَّد كمالُه بمقدارِ ما يقتربُ من ذلك المثال ويتفِقُ معه في البساطة والتجانُس.
وبهذا أيضًا لا يكون الجمال مُجرَّد فِكرةٍ استطيقيةٍ فحَسْب، بل يصبح كذلك عاملًا أساسيًّا في تكوين الإنسان والارتفاع بأخلاقه إلى النبل والكمال، فإذا نظرنا إلى تمثالِ شابٍّ إغريقي لم نُؤخذ بجمال الشكل وبساطة الخطوط وعظمة التكوين فحَسْب، بل استطعنا كذلك أن نُحِسَّ فيه بالرجولة، والحرية والنُّبل، والقوة، والقدرة على الحياة المرحة السعيدة. بذلك لا نجد أنفسنا أمام تمثالٍ لشابٍّ إغريقي بقَدْرِ ما نجد أننا نُواجِه رمزًا انعَكسَت عليه كل أشعة الروح اليونانية، وتجمَّعَت فيه كلُّ مُثُلها في الحياة والفكر والحضارة.
هكذا نجد فنكلمان يصف تمثال «أبولُّو» فيُصبِح رمزًا للروح الإغريقية وللحياة الحرة السعيدة التي عاشَها هذا الشعب الذي لم يفقد شبابه أبدًا. لنسمع معًا ما يقوله عنه: «إن أسمى فكرة عن الشباب المثالي الرجولي قد صُوِّرَت على نحو مدهش في أبولُّو، حيث تتحد قوة السنوات الكاملة مع الأشكال الناعمة لربيع الشباب.» وهكذا يُحسُّ فنكلمان بسُمو الجسد البشري وألوهيته ويتجوَّل بين تماثيل الأبطال والآلهة كالكاهن الذي يُبشِّر بعبادة الجمال. لقد رأى الإغريق وقد ألَّهُوا الجسد وجَسَّدوا الإله، وأذابوا الجمال البشري والجمال الإلهي في كيان واحد.
ولذلك فهو يرى أن واجبه يُحتِّم عليه أن يُبشِّر بهذا النبل والكمال الذي اكتشَفَه في الفن اليوناني، ليجعل منه أنموذجًا ومعيارًا لِما يصنَعه الإنسان في الحجَر وفي الحياة على السواء.
وهكذا يصل فنكلمان إلى عبارته المشهورة التي تجعل من تجربته الجمالية تجربةً أخلاقية وتربوية، وتُجسِّد الفكرة الإنسانية في أكمل صورها حيث يقول: «إن العلامة العامة المميزة لروائع الفن الإغريقي هي البساطة النبيلة والعظمة الساكنة في الوضع والتعبير على السواء. وكما تبقى أعماق البحر هادئةً في كل الأحوال مهما غَضِبَ السطح وثار، كذلك يدُل التعبير في التماثيل الإغريقية، مع كلِّ ما يَضطرِم في نفوس أصحابها من عواطفَ عن نفسٍ عظيمةٍ مُتَّزِنة.»
ولم يجد فنكلمان — هذا المُتصوِّف العاشق للروح اليونانية والجمال اليوناني — ما يُوضِّح به مثلَه الأعلى في السكونِ والاتزانِ والتزامِ الحد في التعبيرِ خيرًا من تمثال لاؤوكون أو مجموعةِ تماثيله. هنا استطاع الفنان أن يُعبِّر عن أبشعِ ألمٍ في أجملِ صُوره فظَهَر الجمال في أسمَى صُوره حيث كان الألم في أقسى شِدَّته. لم يُثِر لاؤوكون المعذب ولم يصُرخ ولم يَتطرَّف في إشارته أو حركاته، بل ظل الكون يرفُّ حوله على الرغم من العذاب البشِع الذي يَعصِر جسده، والثعابين الضخمة التي تَغرِز أنيابها فيه. بهذا عبَّر الفنان عن الألم الذي يتجاوز طاقةَ البشر، ولكنه بقي الألم الذي لا يُفقِد النفس شيئًا من الانسجام والسكون والاتزان، والذي يُعبِّر عن كبرياء الروح وقُوَّتها وصمودها مهما لَقِيَت من ظلمٍ أو عذاب؛ لأنه يظل دائمًا ذلك الألم الذي لا نُغالي إذا سمَّيناه بالألم الجميل.
كان من نصيب هذا المُؤرِّخ الأثَري الألماني — الذي لُقِّبَ عن جدارة بأب الروح الكلاسيكية — أن يرتفع من حضيض الفقر والظلام والعذاب الذي عَرفَه في شبابه إلى قِمَّة الجمال والشهرة والنور. لقد لبَّى صوتَ الشوق الغامض الذي ظل يدعوه إلى أرض الجنوب وشمسِها ودفئِها وفنِّها. وهناك في روما عاصمة العالم القديم، تعرَّف على الفن الإغريقي ووجد رسالة حياته في التبشير بالإنسانية الكاملة التي رآها في التماثيل الإغريقية، ولكن القَدَر الذي كتَب له أن يذوق كل هذه السعادة التي تفوقُ قُدرة الفانِين، لم يُقدِّر له أن يضع قدَمه على أرض الإغريق، بل لم يُقدِّر له أن يضع قدَمه على أرض صِقلِّيَّة، أو يُطلَّ من قمة جبال الأجرجنت على بقايا معبد سيجست أو يُرسِلَ بصره إلى البحر، كما فعل مواطنه العظيم جوته في رحلته الإيطالية فيما بعدُ؛ فها هو ذا في أواخر أيام حياتِه ينظر عَبْر بحر الجنوب الواسع الساطع إلى شواطئ الجزر البعيدة، حيث يرقد مثال الجمال الأسمى والإنسانية الخالصة بعيدًا كالأحلام. وها هو ذا يختم كتابه الكبير «تاريخ الفن القديم» قائلًا: «كما تَتبَع المحبوبة من على شاطئ البحر حبيبها المسافر بعينَين دامعتَين وبلا أملٍ في اللقاء، ويُخيَّل إليها أنها ترى في الشراع المُبتعِد صورة المحبوب.» ولقد أودى بفنكلمان هذا الحماسُ الصادق المتدفق للفن القديم حين كان في طريق عودته من وطنه؛ فقد لَقِيَ مَصرعَه في أحد فنادق تريستا على يد أحد الأفَّاقين. كان فنكلمان، في موجةِ حماسِه وحُبه للفن الإغريقي قد عَرضَ أمامه بعض التحف والعُملات الأثَرية التي يحملها معه، وظَنَّ المجرم أن هذا الضيف يُخفي كنزًا ثمينًا، فاغتاله على أبشَعِ صُورة. وسرعانَ ما انتشر النبأ في أوروبا وتلقَّاه المعجبون به في ذهول ووجوم؛ فقد هالهم أن ينتهي هذا المُعلِّم المُلهم، والمُبشِّر المتحمس بالروح اليونانية وبالمثَل الإنساني الذي اكتشَفه في روائعها على هذه الصورة الأليمة. ولعلهم قد سألوا أنفسهم إن كان في استطاعة الإنسان في مُواجهَة الموت أن يُعبِّر عن الألم الذي يشعر به في لحظاته الأخيرة تَعبيرَ لاؤوكون عن الألم الجميل!