قبل أن يفوت الأوان
ولكن من هو «مرسو»؟ هو موظفٌ صغير في إحدى الشركات في مدينة الجزائر، فقير ووحيد، بعيد كل البعد عن أن يكون بطلًا بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، تأتيه ذات صباحٍ برقيةٌ تُنبئه بأن أمه ماتت في ملجأ للعجائز، ويطلب إجازة يومَين ليحضر الجنازة، يعود بعدهما إلى عاداته ومعارفه وكأن شيئًا لم يكن، إلى سيلست وماسون، وإلى سلمانو العجوز وعشيقته ماريا كردونا، الفتاة التي كانت تعمل معه في نفس المكتب، ويذهب معها في نفس اليوم إلى السينما، ويُعاوِد حياته المألوفة، الخالية من كل أثرٍ للحياة، المُتدثِّرة في أكفان الملل وعدم المبالاة، ثم يتعرف على رجل لا صنعة له اسمه رايموند سنتس، كان هذا قد تنازع مع أعرابي، ويسير مرسو مع صاحبه على شاطئ البحر، والشمس من فوقهما عينٌ متوهجة، مملة، وقاتلة. ويتشاجر الطرفان ويُعير رايموند صاحبه مسدَّسه، وينصرفان ثم يعود مرسو وحده إلى الشاطئ، ويجد الأعرابي مُكوَّمًا أمامه في ظل صخرة، فيُصوِّب إليه مسدسه ويرديه قتيلًا. هل قتله لفح الشمس الخانق أو الإصبع التي ضغطَت على الزنادة؟ إن مرسو لا يعرف ولا يهمه أن يعرف: «كانت القصة بالنسبة إليَّ قد انتهت.» وكانت الشمس «تلمع كسيفٍ من النور في معدن المحيط الفائر.»
هذه القصة، التي تخلو في الواقع من كل قصة، يمكن أن نعتبرها مع مسرحيتَي كاليجولا وسوء تفاهم تعبيرًا حادًّا عن الإحساس بالمُحال، ومرحلة انتقال إلى «المتمرد». إن مرسو الذي يقول عنه كامي في مذكراته الخاصة: «مرسو عندي إنسانٌ مسكين عارٍ، يُحب الشمس التي لا تترك وراءها ظلًّا.» يُعبِّر في شكلٍ روائي عن الحساسية بالمُحال التي عبَّر عنها كتاب «أسطورة سيزيف» في شكلٍ تصوري عقلي، وهي بهذه المثابة أيضًا نتاج فكرٍ متمرد، إذا عرفنا أن المُحال والتمرُّد كلاهما طرف في وحدة صراعٍ ديالكتيكي متشابك. إنها تكشف لنا كيف يُعبِّر الكاتب الحديث عن ظواهر الواقع المحسوس في صورٍ محسوسة، بدلًا من التعبير عنها في تأملاتٍ عقلية منطقية. مرسو يهمه الواقع الحاضر فحسب، باعتباره مجموعة من اللحظات المنفصلة العابرة؛ إنه إذ يهب نفسه للواقع الحي الخالص الذي يحياه حياةً تلقائية مباشرة إنما يحكم على نفسه بالحياة في صحراء تجرَّدَت عن كل معنًى. وحين لا يكون هناك معنًى ولا غاية، فإننا نجد أنفسنا أمام مجموعةٍ متنوعة من الصور التي لا يربط بينها رابط، ونغوص في بحرٍ من الألوان والرؤى والإحساسات؛ كل شيء هنا وإن كان تافهًا يصبح فجأة ذا أهمية. إننا نعيش مع مرسو في عالم الظاهرات البحتة التي علَّمنا الفيلسوف هسرل كيف نُجرِّبها ونتذوَّقها ونُحسُّها، بغير أن نلجأ إلى تفسيرات أو شروحٍ علمية أو غير علمية.
عندما يتحدث مرسو عن نفسه نجده يذكُرها كما لو كانت ضميرًا ثالثًا، إنها لم تعد «أنا» بل «هو»؛ كل جملةٍ تقف بمفردها، لا تربطها بالجملة التالية لها رابطةٌ علِّية أو رابطةُ معنًى؛ إنها تصبح مجرد إشارة أو إيماءة، مجموعة من المدركات الحسية وُضِعَت إلى جانب بعضها البعض كيفما اتفَق، لا نعثر فيها على معنًى عام أو صورةٍ كلية؛ كل جملة تفصلها عن الجملة التي تليها هُوةٌ من الصمت والسكون والعدم.
إن الجزء الأول من القصة الذي ينتهي بالحكم على مرسو بالموت لا يدلنا على أنه قد شعَر بالمُحال شعورًا واضحًا. القارئ وحده هو الذي يشعر بالمُحال يتسلل إليه وهو يرى هذا الإنسان الذي لا يُبالي بشيء في الطبيعة ولا في المجتمع، فيتملَّكه الإحساس ببراءته وتعاسته وصدقه. إنه يشعر بأنه ضحية من كل ناحية، ضحية المجتمع الذي نُولَد فيه فنجده يزدحم بالقيم والمواضعات الجاهزة، وضحية الطبيعة التي تدور دورتها لا تُفسِّر شيئًا من نفسها ولا تُبالي بأن نحاول نحن من جانبنا تفسير شيءٍ من أسرارها، لا تبالي إن عشنا أو متنا، شَقِينا أو سَعِدنا، فهمنا أو غَمُضَ علينا كل شيء. إن القارئ كما قلتُ يشعر بهذا الإحساس ببراءة مرسو ووحدته وانفراده، وإن كان لا يستطيع ولا يريد أن يضع نفسه في مكانه. الشعور عند مرسو في هذا الجزء من الرواية يشبه نوعًا من الانتباه يتجه إلى كل شيء ولا يقف عند أي شيء، مثله مثل جهاز تصوير يتجه في كل مرة إلى صورةٍ أخرى، ويلتقط منظرًا آخر. هذه الصور التي يلتقطها مرسو ويُسجِّلها تشبه الصور على فيلمٍ سينمائي، كل صورة منها منعزلة بذاتها، تَتابَع تتابعًا لا غاية له ولا معنى فيه. ولعل الإحساس المباشر الذي يُسيطِر علينا عند قراءة هذه الرواية هو الإحساس بالعزلة، عزلتنا نحن، وعزلة مرسو، وعزلة كل صورة وكل شيءٍ يحدثنا عنه.
مرسو هو الغريب الذي يعيش بين غرباء، مستسلمًا لمعطيات التجربة، واهبًا نفسه لقدَر اللحظة المباشرة. إنه ملقًى في وسط مجتمعٍ غريب عليه، يتكلم لغة ويستخدم تصوراتٍ لا يفهمها ولا يعنيه أن يُحاول فهمها. وهو غريب بالنسبة لنا أيضًا، نحن الذين نتابع مصيره من خلال حكايته؛ إن مفهوماتنا لا تنطبق عليه، ومعاييرنا وقيمنا التي تعوَّدنا عليها لا تعني بالنسبة إليه شيئًا، فلا غرابة إذن في أن نُحس بغربته عنا وعن كل شيء ألِفْناه، وكأنه طفلٌ كبير بريء أُلقي به في عالمنا بلا ذنبٍ جناه، وسيلقى عقابه البشع على ذنبٍ ربما كان من صنعنا نحن. إنه باختصارٍ إنسان لم «يتعود» على شيءٍ مما اعتَدْناه، بل خرج بنفسه عن كل العادات، وجعل ينظر في نفسه وفيما حوله نظرةً قاسية كأنه يفتح عينَيه على الوجود لأول مرة.
إن مرسو بريء بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنًى، قمة براءته هي في نفس الوقت قمة ذنبه، وذنبه أنه عاش إلى الآن معيشةَ مَن لا يبالي بأي شيء، حتى إذا انطلقَت الرصاصة التي قتل بها الأعرابي تفتَّحَت عليه العيون، وأشارت إليه الأصابع بالاتهام. إن جريمة القتل التي دفعَتْه إليها المصادفة هي بالنسبة لمدَّعي الاتهام نتيجةٌ لا بداية؛ نتيجة جرائمَ متتاليةٍ أذنب فيها في حق المجتمع وأزعج بها قيمه التي يُسلِّم بها مغمض العينَين؛ جريمته هذه تُفسِّر موقف عدم الاكتراث الذي عاش فيه حتى اليوم، وإذا بكل حدثٍ في حياته يصبح ذنبًا يحاسب عليه؛ السيجارة التي دخَّنَها أمام جثمان أمه في ملجأ العجزة، الدموع التي لم يذرفها وهو يسير في جنازتها ويقف مع المُعزِّين على قبرها، الفيلم الذي رآه مع صديقته بعد دفن أمه بقليل؛ كل هذه ذنوب، ومرسو إذن مذنبٌ قديم، ولكن ذنبه الأكبر أنه لم يؤمن بأن هناك ذنبًا، وأنه بقي حتى الآن متشبِّثًا بموقفِ مَن لا يبالي بتقاليد المجتمع ونظمه وعاداته. إنه الآن في نظر وكيل النيابة وفي نظر القاضي «وحش» و«عدو للمسيح». هذا الاصطدام بكل القيم الاجتماعية التي تتمثل في القاضي ووكيل النيابة والمحلَّفين وقسيس السجن وكل القيم التي نُسمِّيها بالعدالة والحب والوفاء والواجب (والتي يدور الحديث عنها في أثناء محاكمته فيستمع إليها وكأنهم يحاكمون إنسانًا آخر)؛ أقول إن الاصطدام بكل هذه القيم يُشعِره بالمُحال شعورًا واضحًا. ويزوره قسيس السجن في زنزانته، ويدور بينهما حديث بل صراع يؤدي إلى أن يستيقظ في مرسو هذا الشعور بالمُحال الذي ظل كامنًا حتى الآن؛ فبينما هو يتشبَّث باللحظة العابرة الفانية ويجد كل سعادته في الاستمتاع بها واستنفاد كنوزها (وكأن لسان حاله يقول لها مع جوته على لسان فاوست: تريَّثي قليلًا فما أجملك!) نجد القسيس يَعِده بسعادةٍ أخرى في عالمٍ آخر. إنه يحاول أن يبُث فيه الإيمان بالمستقبل، بينما هو لا يعرف غير الحاضر؛ إنه، بلغة كامي، يُحرِّضُه على أن يقفز «القفزة» التي حرَّمها على نفسه الإنسانُ الذي يشعر بالمُحال، ويُخلِص له، ويجد واجب حياته في أن يصمُد أمامه وجهًا لوجه (وهي القفزة التي قام بها فلاسفةٌ وجوديون وغير وجوديين وأدباءُ تعرَّض كامي للحديث عنهم في أسطورة سيزيف). إن كل ما يؤمن به القسيس لا يُساوي عند مرسو «شعرة واحدة في رأس امرأة»؛ إنه يتمرَّد عليه الآن ويمسك بخناقه ويطرده من زنزانته، لا باسم قيمة من القيم أو عقيدة من العقائد، بل باسم هذه السعادة الأرضية الخالصة، هذه اللحظة العزيزة الغادرة، ولكن ما هي هذه السعادة التي يُعبِّر عنها الآن ويؤكِّد أنه يتمتع بها؟ أليست هي التعاسة بعينها، أليست هي سعادة من تَجرَّد عن كل شيء وتَخلَّى عن كل قيمة ورَضِيَ من حياته كلها أن يمضي بلا عودة؟ «شعَرتُ أنني كنتُ سعيدًا وأنني ما زلتُ كذلك.»
إن مرسو ما زال وحيدًا غريبًا؛ إحساسه بوجود الآخرين لا يستيقظ في نفسه إلا وهو في طريقه إلى المقصلة، هناك يتذكر أمه التي اتهموه بأنه لم يُحبَّها، كما يُفكِّر في الناس الذين يريد الآن أن يموت بينهم، لا بل يُسلِّم لهم رأسه راضيًا، بلا مرارة ولا ندم. إنه لا يجد أُمنيةً يتمناها إلا أن يرى كثيرًا من الناس ازدحموا ليتفرجوا عليه وهو في طريقه إلى المقصلة، لا لشيء إلا لكي يستقبلوه بصرخاتهم الحاقدة: «لكي يتم كل شيء، ولكيلا أحس بثقل الوحدة عليَّ، ما زلت في حاجةٍ إلى أن أتمنى شيئًا واحدًا: أن أرى في يوم إعدامي كثيرًا من المتفرجين يستقبلونني بصرخات الحقد.» إن مرسو يستطيع اليوم أن يواجه الموت ويثبت بصره في عينَيه؛ لقد تحرر من الشر، ولمح خيط الأمل يتدحرج إليه من بين ظلمات اليأس، وأسلَم نفسه للسلام و«اللامبالاة الرقيقة لهذا العالم».
أما عن رواية «الوباء» الشهيرة فهي تمثل مرحلةً أخرى من مراحل الشعور بالمُحال، كما تُعبِّر عن الانتقال إلى المرحلة التالية له ونقصد بها التمرُّد. إن الطبيب الدكتور «ريو» هو بطل هذه الرواية وهو في نفس الوقت مؤرخها وراويها. تستيقظ مدينة «وهران» ذات يوم فإذا بوباء الطاعون قد هجم عليها؛ إنه يستشري فيها يومًا بعد يوم، دون أن يلقى مقاومةً تُذكر، لا بل يشتد حتى يصبح نظامًا للشر محكمًا دقيقًا، رهيبًا في أحكامه ودقته؛ الموت والعذاب، والفرقة والقلق، الوحدة والحياة على الذكرى تصبح قدَرًا يُصَب على هذه المدينة البائسة وسكانها البؤساء. إنه قدَر يبني الشر ويُنظِّمه، ويهدم الخير ويحطمه؛ الحرية والأمل والحب هي أُولى صرعاه. إن الوباء ينتشر فيغزو مدينة كان لا بد أن تستسلم له؛ لقد فقدَت كل شعورٍ بالواقع وكل إحساسٍ بالخير أو بالشر. فقدَت الوعي بكل ما يجعل الإنسان إنسانًا، فهي لهذا تتخبط تحت سكين الوباء كالحيوان الهائل الجريح. إن الوباء ينتشر مملًّا «كالتجريد الذي يفضح نفسه بعلامات السلب والنفي.»
نخطئ إن نحن نظرنا إلى الوباء كما لو كان شرًّا أصاب المدينة وسكانَها من خارجها، إنه النتيجة المنطقية المحتومة لتلك القيم السلبية التي عاشت فيها المدينة مدى حياتها الخالية من كل شعور حتى بحقوق الإنسانية وواجباتها. إنه الجزاء العادل الذي تنالُه مدينةٌ عاشت في شبه سباتٍ وجداني وإنساني، فإذا بها تدفَع الثمن الغالي من جُثث أبنائها وعذابهم ودموعهم لكي تعرف من جديد قيمة الإنسان وما يربطه بأخيه الإنسان من روابط الحب والمصير.
إن الوباء في نظر الدكتور «ريو» وصديقه «تارو» موقف لا مخرج منه ولا انتهاء له حتى ولو قُضي على الوباء. إنهما يريان واجبهما في مواجهته بشعورٍ واضح مصمم؛ إن مثله مثل صخرة المُحال بالنسبة لسيزيف، فهو عودٌ على بدء لا ينقطع ولا يجدي. ومع أن الإنسان يقف في نهاية الأمر عاجزًا أمامه، ومع أن ميكروبه لا يختفي ولا يموت أبدًا، فإن ريو وصديقه يكافحانه بكلِّ ما يملكان من قوة؛ ريو بإمكانياته كطبيب يدفعه إحساسه بالواجب وأمانته في حق المدينة أن يُضحِّي بزوجته المريضة التي ستموت في إحدى دور الاستشفاء بسويسرا، وتارو بكل ما يملك من إنسانيةٍ صادقة وكراهية للموت وللوباء، هذا الجلَّاد الكبير؛ كلاهما إذن تدفعه الأمانة وحدها إلى مواصلة الكفاح ضد الوباء: «إن الطريقة الوحيدة لكفاح الوباء هي الأمانة.» إن ريو يرفض حتى الموت «أن يحب الخليقة التي يتعذَّب فيها الأطفال.» وتارو يُصمِّم على أن يرفض كل شيء «يقتل أو يُبرِّر القتل من قريب أو بعيد، لأسبابٍ طيبة أو شريرة.» إنهما يتشبَّثان بعمر اللحظة العابرة، ويُحسَّان طعم الأرض و«حقائق الجسد»، ويعرفان لون الوجه والملامح، ويرفضان أن يُضيعا كنوز هذا العالم الفانية من أجل فكرةٍ موهومة تتدثَّر في ضباب مستقبلٍ بعيد: «لقد شبعتُ من أناس يموتون من أجل فكرة. لم يعُد يهمني الآن إلا أن أحيا على ما أحب، وأموت مما أحب.» إنهما يواجهان المُحال الذي يظهر في صورة الوباء ويرفُضان في إصرارٍ أن يحنيا له رءوسهما «فإن على الإنسان أن يكافح بهذه الوسيلة أو تلك وألا يركع على ركبتَيه.» إنهما يواجهانه ويرفُضان العدمية المطلَقة التي تعيش فيها شخصيةٌ مثل «كوتار»، كما يرفضان كل رجاء في العناية السماوية أو في عالمٍ آخر غير هذا العالم، كما يفعل الأب «بانيلو» الذي يُحمِّل الناس ذنب الوباء في مواعظه البليغة وينصحهم بالتوجُّه بالدعاء إلى السماء لتُخلِّصهم من الكارثة: «يا أخوتي، إنكم أشقياء، يا أخوتي، لقد استَحققتُم هذا الشقاء … هذا العالم قد طالما احتمل الشر، وهذا العالم قد طالما وَثِق في رحمة الإله.»
ريو وتارو يعيشان مثل سيزيف في تناقُضٍ باطني، في تمزُّق مستمر هو طابع الحياة نفسها عند كامي، ولكنهما يختلفان عن سيزيف كما يختلفان عن مرسو اختلافًا جوهريًّا؛ إنهما لا يتعذبان عذابًا فرديًّا وإنما عذابهما للآخرين، العذاب الفردي قد أصبح الآن عذابًا جمعيًّا، يؤكد تضامُن الإنسان مع أخيه الإنسان، كما يُعبِّر عن اشتراك البشر جميعًا في طبيعةٍ إنسانية واحدة: «عندئذ لم تعُد هناك أقدارٌ فردية، بل لم تَبقَ إلا تجربةٌ واحدةٌ مشتركة، هي تجربة الوباء وتجربة المشاعر التي يحس بها الجميع.» إن فكرة الآخرين — باعتبارها جزءًا لا يتجزأ في بناء الوجدان الواضح المتمرِّد على المُحال — قد بَرزَت الآن لأول مرة تحت تأثير العذاب المشترك في ظل مصيرٍ مشترك. إن الراوي — الدكتور ريو — لم يعُد يقول «أنا»، بل أصبح يؤكِّد الإحساس بالجماعة وبالمصير المشترك بكلمة «نحن»؛ هي جماعةٌ من الضحايا والمقهورين، يؤلِّف بينها الكفاح المشترك في وجه مصيرٍ ظالمٍ مشترك.
رواية «الوباء» ومسرحية «الحصار» تُمثِّلان الانتقال من «الأنا» إلى «النحن»، من الفردية إلى التضامن، من التمرد الفردي الصامت الأخرس في وجه المحال إلى التمرد الحق الذي يعرف حدوده ويثور من أجل احترام هذه الحدود كما يثور من أجل الاعتراف بطبيعة إنسانية مشتركة. وبهذه الرواية يتم الانتقال من أفق فردي محدود عبرت عنه «أسطورة سيزيف» إلى أفقٍ إنساني رحيب عبَّر عنه «المتمرد»، من مشكلة الانتحار بوصفها مشكلةَ مصيرٍ فردي إلى مشكلة القتل بالجملة التي لجأت إليها الثورات الغربية الحديثة من الثورة الفرنسية إلى الثورة الماركسية، فانحرفَت بذلك عن منبع التمرد النقي البريء، كما حادت عن الحد والمقياس اللذَين يلتزم بهما كل مُتمردٍ حق. هناك كان الشعار «كل شيء أو لا شيء» — شعار العدميِّين في كل زمان ومكان — وهنا محاولةٌ مخلصة لتأكيد حد ينتهي عنده امتهان الإنسان وتُحترم عنده إنسانيته وطبيعته. إنه انتقالٌ من مرحلةٍ فردية مغرقة في الفردية إلى أخرى جماعيةٍ يكتشف الفرد فيها قيمته وإنسانيته في كفاحه من أجل الجماعة. إنه انتقال من شعار: إنني لا أبالي بشيء ولا بأحد لأن الموت يتهددني ولا أملك له دفعًا، ولأن الطبيعة والوجود لا يكترثان بي، ولأن القيم المتوارثة في المجتمع والدين والفلسفة لا تُقدِّم لي تفسيرًا مقنعًا، إلى شعار: إن موت الآخرين هو موتُ لي، وقتلهم هو قتل لطبيعتي الإنسانية وإهدارٌ لها، وتمردِي على ظلمٍ يلحقهم هو إثبات لوجودي، فشعاري من الآن فصاعدًا هو «أنا أتمرد فنحن إذن موجودون.»
الوباء مجهول لا اسم له ولا ملامح، وكم حيَّر الناقدين تفسيره!
هنالك التفسير الميتافيزيقي، والاجتماعي، والسياسي؛ فقد يكون الوباء هو الاحتلال الألماني لفرنسا إبان الحرب العالمية الأخيرة، وقد يكون هو عالم معسكرات الاعتقال في الحرب الأخيرة، وفي أماكنَ كثيرةٍ من العالم في الغرب والشرق حتى اليوم، وقد يكون هو الخطر الذي يُهدِّد الإنسان والرعب الذي ينام ويصحو فيه من القنبلة الذرية والهيدروجينية، وحرب الميكروبات والصواريخ، وقد يكون رمزًا لسيادة الآلة على الإنسان أو للبيروقراطية المملة القاتلة لروح الخلق والإبداع فيه، وقد يكون رمزًا لعصر الأيديولوجيات وعصر تأليه الفرد أو تأليه الدولة، عصر التنين على اختلاف صوره وأشكاله، الذي يُضحَّى فيه باللحظة الحاضرة ذات الطعم والملامح في سبيل مستقبلٍ غامضٍ بعيد لا وجه له ولا ملامح، وقد يكون رمزًا للظلم في صوره المتعددة، يقبض على خناق الإنسان فيسلبه حريته ويمسخُ إنسانيته. ومع ذلك فقد يمتد معنى الوباء فيشمل الوجود الإنساني بوجهٍ عام، كما يقول كامي نفسه في إحدى مذكراته، ولكن المهم عندنا الآن أن هذه الرواية الميتافيزيقية في صميمها كان يمكن أن يكون عنوانها هو «القدر الإنساني»؛ ذلك أن أحداثها يمكن أن تدور في أي مكان من العالم، وأن مشهدها قد يكون هو «الواقع» أو «العالم» نفسه، كما أن أبطالها ليسوا رجالًا ونساء وأطفالًا في مدينة وهران الجزائرية فحسب بل يمكن أن يكونوا أي رجال أو نساء أو أطفال بين بحر الشمال وبحر الصين. أما الوباء فليس هو هذا المرض الفتَّاك الذي نُسمِّيه بالطاعون، بقَدْر ما هو الشر المطلَق الذي يُطبِق على وجود الإنسان، وقد يكون تعبيرًا عن الموقف الإنساني على إجماله، عما فيه من استحالةٍ وسخفٍ وتناقُض وعن واجب الإنسان في التمرد الدائم عليه على الرغم من معرفته سلفًا بعدم جدوى هذا التمرد. قد يكون الوباء واحدًا من هذه التفسيرات وقد يحتملها جميعًا بغير تمييز، والمهم هو أن العمل الفني الخصب يدع للقارئ مجال تفسيره كما يشاء.
كان حديثنا حتى الآن عن الانتقال من قصة الغريب إلى رواية الوباء، من «الأنا» إلى «النحن»، من الحوار الداخلي الصامت المغلق على نفسه (المونولوج) إلى الحوار (الديالوج) الذي يعبُر فيه الإنسان إلى أخيه الإنسان على جسرٍ من التضحية والإيثار والتمرد المشترك ضد الظلم المشترك. والحقيقة أن هذا الانتقال من الفردية إلى الروح الجمعية لا يعني أن الفرد، وإن عاش في الجماعة وأكَّد انتماءه إليها، قد تخلَّى عن وحدته أو قَبِل التنازُل عنها؛ فما زال هذا السؤال يُلِح على كامي كما يُلحُّ على كل إنسانٍ أمين: هل أعيش وحيدًا أو أعيش متضامنًا مع الآخرين؟
هذا الصراع بين المونولوج والديالوج يظهر في أجلى صُوره في رواية كامي الأخيرة أو قل درته الفريدة ونعني بها «السقطة». إن بطلها جان بابنست كليمانس صورةٌ للفرد الذي يعيشُ أسيرَ فرديته، الرواية كلها اعترافٌ نادمٌ مُر على هذه الحياة المغلقة؛ كان كليمانس محاميًا ناجحًا في باريس، مرموقًا من المجتمع والنساء، فإذا به يرى زيف حياته وزيف نفسه ويلجأ إلى الحياة الوحيدة في أمستردام، وينفي نفسه في إحدى حاناتها، ولا يكُف هناك عن نعي الإنسانية إلى نفسها. إن القصة نفسها حديثٌ ذاتي (مونولوج) متصل، يتحدَّث فيه هذا المدَّعي المتهِم لنفسه ولكل واحدٍ منا إلى شريكٍ له غير منظور، لا يقول كلمةً واحدة طول الرواية كلها. إن تعاسة الناس في نظره تكمُن في أنهم لا يقدرون أن يدخلوا في حديثٍ مشترك فيما بينهم، ولا أن يعيشوا في حوارٍ بكل ما يُميِّزه من حرية وتفاهم، ومن محبة وتعاطف؛ إنهم يتحدثون حقًّا مع بعضهم، ولكن أحاديثهم تمضي عبثًا، ولا تُحدِث لقاءً حقيقيًّا بينهم: «نحن لا نقول كما كان يحدث في الأزمنة السالفة المهذَّبة: هذا هو رأيي فما هي اعتراضاتك عليه؟ لقد تفتَّحَت الآن عيوننا؛ لقد استبدلنا الحوار بالأوامر.»
إن حديث كليمانس مع أحد زملائه في المهنة والوطن هو في الحقيقة حديثٌ مع ذاته الماضية واتهامٌ لها في الوقت نفسه؛ لقد كان محاميًا ناجحًا مرموقًا، راضيًا عن نفسه وعن العالم، مغتبطًا بفضائله الزائفة، سعيدًا بتمثيل دور الإنسان الطيب الشاعر بواجبه. ظل يعيش هذه الحياة الراضية المنافقة، لا يعرف نفسه ولا يحاول أن يعرفها، حتى كانت تلك الليلة على مفترق الطريق؛ كان يَعْبُر على أحد جسور نَهرِ السين فإذا به يسمع صرخةً مكتومة لامرأةٍ شابة مجهولة، نحيلةٍ متشحة بالسواد، كان قد رآها منذُ قليلٍ مائلة بجسدها على سور الجسر، سمع استغاثةً فتوقَّف لحظة عن المسير، تردَّد، لم تواتِه الشجاعة الكافية لإنقاذها: «كنتُ قد قطعتُ حوالي الخمسين مترًا عندما سمعتُ صوتَ اصطدامِ جسمٍ بالماء، وعلى الرغم من المسافة التي تفصلني عنه فقد بدا لي في سكون الليل كأنه صوتٌ هائل مرتفع الضجيج، ظللتُ واقفًا ولم ألتفت ورائي، وسمعت في نفس الوقت صرخةً تتكرر عدة مرات، متجهةً مع تيار النهر المنحدر جنوبًا، ثم خَرسَت مرةً واحدة. أردتُ أن أتابع سيري، ولكنني لم أستطع أن أتحرك من مكاني، قلت لنفسي إن الأمر يحتاج إلى السرعة، وأحسستُ كأن ضعفًا لا سبيل إلى مقاومته قد تسلَّط على جسدي … رحتُ أتنصَّت وأنا جامد في موضعي، ثم ابتعدتُ في خطواتٍ متردِّدة والمطر يتساقط عليَّ، ولم أخبر أحدًا.»
كانت سقطة هذه الشابة البائسة في السين هي سقطته في الخطيئة، استيقظ معها وجدانه وتفتَّحَت عيناه على واقعه؛ إن تلك الصرخة التي لم يسمعها أحدٌ سواه لم تزل تتردَّد في سمعه وتُؤرِّق نومه: «لقد نُوديتُ، ولكنني لم أستمع إلى النداء.» امتدت يدٌ مجهولة، في لحظةٍ عابرة، ذات ليلةٍ باردة معتمة، تستنجد به، ولكنه لم يمُدَّ يده إليها، لم يُنقِذ الغريقة ولا أنقذ نفسه معها. من ذلك اليوم وهو يُوجِّه الاتهام القاسي إلى نفسه وإلى البشر جميعًا؛ إنه يكتشف أنه لم يحب إلا نفسه؛ إنه يعرف الآن أنه لم يحب إنسانًا ولم يحبه إنسان: «إنني لم أتغير؛ ما زلتُ أُحب نفسي وأضع نفسي في خدمة الغير.» إنه لم يعُد يستطيع أن يُحِب ولا أن يُحَب بل يحكُم على الناس ويُدينهم كما يحكُم على نفسه ويُدينها: «تحدثتَ يا سيدي عن يوم الحساب الأخير. أما أنا فقد عانيتُ أسوأ ما يمكن أن يُعانيه الإنسان، وذلك هو حكم الناس.» ولكنه لا يكتفي بأن يتهم نفسه، ويُواجهها بالجريمة التي لم يعرف عنها أحدٌ شيئًا؛ فينبغي على الآخرين أيضًا أن يَرَوه ويُدينوه: «ولكن من الذي كانت لديه الجرأة ليحكم عليَّ في عالم بغير قضاة، عالم ليس فيه بريء؟» وهكذا يستيقظ كليمانس فيجد نفسه في عالمٍ كلُّ من فيه متهمون، أو متهمون يسيرون صفوفًا ترتعش تحت نظرةٍ قاسيةٍ يُسلِّطها عليهم قضاةُ محاكم التفتيش؛ عالمٍ بلا رحمة ولا عناية، سقَط السقطة التي لا قيام له منها. وحين يعجز الإنسان عن أن يجد من يقول عنه إنه بريء، يصبح جميع الناس في عينَيه مذنبين.
لقد أصبح كليمانس قاضيَ نفسِه ومُتهمَها، يُوجِّه اتهامه إليها وإلى الناس وإلينا معهم. إنه الآن بعد أن أغلَق مكتبه في باريس يُريد أن يُكفِّر عن ذنوبه فيعيش في حي الملَّاحين في أمستردام في حانةٍ متسخةٍ تزدحم بالضجيج والدخان ورائحة الخمر الرخيص، مثل نبيٍّ حائر يُنادي فيضيع صدَى صوته في صحراءَ مِن الضباب والحجارة والأنانية؛ إنه يتهم الناس وهو ينظر في مرآته، واتهامه لهم ولنفسه هو محاولتُه اليائسة الأخيرة لكي يَفلِت من سجنِ ذاته ويتصل بالآخرين. نحن إذن نعيش في صحراءِ الحوار الذاتي، ولا نستطيع أن نفُك عنا إسار الأنا المغلقة على نفسِها. إن اعترافه الذي يمتلئ بالمرارة والشك والسخرية واليأس الذي لا رجاء فيه يجعله يُصمِّم على أن يبدأ حياةً جديدة، أن ينسى نفسه ولو مرةً واحدة من أجل إنسانٍ آخر. إنه الآن يرى الصورة المضادة له تنعكس في إنسان «كان صديقه يعيش في السجن وكان هو ينام في كل ليلةٍ على الأرض الرطبة العارية لكيلا يُمتِّع نفسه بشيءٍ حُرم منه صديقه.» ثم يسأل مُحدِّثه قائلًا: «مَن، مَن منا يا سيدي العزيز على استعدادٍ اليوم لكي ينام على الأرض من أجلنا؟!»
إن كليمانس (كما يدل اسمه اللاتيني) لن يستريح أبدًا ولن يكُفَّ عن النداء. إن الصرخة اليائسة المكتومة ستظل تتردَّد في سَمْعه (إذ كيف يَهرُبُ مِن ضميره مَن ألحق الشر بغيره؟) وسيظل يُردِّد هذه الشكوى المعذَّبة الضائعة: «أيتها الفتاة! ألقي بنفسكِ مرةً أخرى في الماء، لكي يتسنَّى لي مرةً ثانية أن أُنقذَكِ وأُنقذَ نفسي معك.»
ولكن الفرصة قد فاتَتْه.
فلنَدعُ السماءَ ألا تفوتنا هذه الفرصة، وأن نُسارِع فنمُدَّ أيدينا إلى الغريق في اللحظة المناسبة، حتى نستطيع أن نُنقِذَه ونُنقِذَ أنفسنا معه، قبل أن يفوت الأوان.