نداء للدب الأكبر
-
وُلِدَت في كلاجنفورت في النمسا في عام ١٩٢٦م.
-
درسَت القانون والفلسفة من عام ١٩٤٥م إلى عام ١٩٥٠م في جامعات إنزبروك وجراتس وفيِنَّا.
-
حصلَت في عام ١٩٥٠م على الدكتوراه برسالة عن النقد الموجَّه إلى فلسفة الوجود عند هيدجر.
-
قرأَت بعض أشعارها أمام جماعة اﻟ ٤٧ في أحد اجتماعاتها في عام ١٩٥٢م.
-
وفي عام ١٩٥٣م ظهر أول دواوينها الشعرية وهو الزمن المؤجَّل.
وفازت من أجله بجائزة هذه الجماعة.
-
عاشت بين عامَي ١٩٥٣م و١٩٥٧م في إيطاليا وبخاصة في نابولي وروما، حيث تعيش الآن ككاتبةٍ حرة.
-
أُذيعت أُولى مسرحياتها الإذاعية «الجنادب» في عام ١٩٥٤م وقامت في العام التالي برحلةٍ إلى الولايات المتحدة الأمريكية بناءً على دعوةٍ تلقَّتْها من جامعة هارفارد.
-
ظهر ديوانها الثاني: «نداء الدب الأكبر» في عام ١٩٥٧م وأُذيعت مسرحيتها الإذاعية الثانية «إله مانهاتن الطيب» في عام ١٩٥٨م وقد تلقَّت عليها جائزة جمعية عُمْيان الحرب.
-
وفي العام الدراسي ١٩٥٩-١٩٦٠م قامت بإلقاء بعض المحاضرات تحت عنوان الأدب «كيتوبيا» وذلك كأستاذة للكرسي الذي أنشأَتْه جامعة فرانكفورت للشعر والفن واعتادت أن تدعو إليه مشاهير الأدباء والشعراء والمفكرين ليُحاضروا الطلبة عن تجاربهم الذاتية في الأدب.
-
وفي عام ١٩٦١ ظَهرَت مجموعتُها القصصية الأولى «العام الثلاثون» ونالت عليها جائزة النقاد في برلين.
كانت القصائد القليلة التي قرأَتْها أمام جماعة السبعة والأربعين (وهي جماعة من أدباء الشباب الْتَفوا بعد انتهاء الحرب حول الكاتبَين الكبيرَين هانز فرنر رشتر وهينريش بل ليُنشئوا أدبًا جديدًا يعيد للألمان كرامتهم وإنسانيتهم، بعيدًا عن صراع السياسة والمذاهب في الشرق والغرب)، كافيةً لكي يعترف الجميع بمولد أعظمِ موهبةٍ في الشعر الألماني الحديث.
اطمأنَّت قلوبهم إلى أن الشعر لا يزال بخير، وأن أنبلَ ما في تراثهم يتصل الآن على لسان هذه الشاعرة النحيلة، ذات الوجه الطيب، والعيون الخجولة الوديعة. لم يشُكَّ أحدٌ في أن هذا الذي يسمعُه شعر؛ هذه النغمة، هذا البعد، هذه المغامرة، هذا الحزن النقي الجسور، لم يشُكَّ أحدٌ في أن هذا كله يأتي منها وحدها. وحين طَبعَت هذه القصائد الشحيحة في ديوانٍ صغير، تبعَتْه مسرحيتان إذاعيتان (الجنادب، إله مانهاتن الطيب) ومجموعةٌ ضئيلة من القصص القصيرة، كانت الجوائز الأدبية قد انهالت عليها من كل ناحية، والشباب الحائر الحسَّاس قد وجد فيها ضالَّته، والدارسون قد عكَفوا على الكتابة عنها، والمختارات الشعرية لا تكاد تخلو من قصائدها.
ومع ذلك كانت قصائد «إنجبورج باخمان» من الحياء بحيث تتوارى عن ضجيجِ ما يُسمَّى بأدب الطليعة، ومن الكبرياء بحيث لا تسمح لأحد من نقاد الصحف المتعجِّلين أن يقيم حولها مظاهرة. إن أحزانها لا تصرُخ، وعاطفتها لا تستدرُّ الدموع، وسخطَها لا يعرف «المودَّة»، وفرحها وأحلامها لا تُجرب ولا تدَّعي.
لقد علَّمَتها دراستها الطويلة للوضعيِّين المنطقيِّين من مدرسة فيِنَّا كيف تلتزم الدقة في اختيار اللفظ وصَوْغ العبارة، وكيف تحفَظ نفسها من عواصف الانفعال، وأتاحت لها الفلسفة — وقد أعدَّت رسالتها عن النقد الموجه لهيدجر — هذه النغمة التي يُحس معها القارئ لشِعرِها كأنه يُطل على قمة زمانٍ سحيق كان يعيش فيه كوكبنا الأرضي، أو كأنه يرى الوجه الأبدي على صفحة الأُفق ويسأله إلى أين يتجه بموكب التاريخ، ويُحاسبه عما فعله بالزمن الذي أعطاه له مهلةً على هذه الأرض «يمكن أن تُسترد».
فإذا عرفنا إلى ذلك أنها بدأَت حياتها بالتأليف الموسيقي، استطعنا أن نضع شِعْرها داخل هذه المملكة الساحرة التي لم يغادرها أبدًا، واستطعنا أن نُحس بهذا اللحن الغريب الذي تتداخل فيه أصوات اليأس والأمل، والطيبة والقسوة، والرقَّة والنشاز، والفكرة الفلسفية العسيرة مع النداء المباشر للعاطفة؛ لحن غريب كما قلتُ، يعزف أشجى الأنغام عن أفظع الكوارث!
لقد بدأ الأدب فكان غناء، وكان ملحمة ودراما. أما الشعر فلم ينفصل أبدًا عن الموسيقى؛ فهي روحه وحقيقته. وإذا كانت الموسيقى هي وطن الشعر، فإن شعر «باخمان» وطنُه تلك الموسيقى «اللانغمية» التي يُسمُّونها بالموسيقى ذات الأنغام الاثنتَى عشرة، والتي عاصرَتْها الشاعرة وشَهِدت مولدها على يد أمثال «شونبرج» و«ألان برج» و«فيبر»، كما ألَّفَت بعض قصائدها ليلحنها الموسيقيُّ الشابَّ «هانز فرنرهنسه» للأوبرا والباليه. في هذا الإطار الموسيقي يُوشِك البيت أن يتفتَّت إلى مجموعةٍ من الإشارات والإيماءات والرموز، لولا أن يجمعَها نفَسٌّ شاعري يفيض بالحنان ويصدُر عن تأمُّلٍ كَونيٍّ عميق.
وتُصبِح الرؤيا المتشائمة هالةً من النور، والرعب الذي يتهدَّد الإنسان نغمًا تستسيغه الأذن، والكارثة التي تزدحم بالأنقاض والمتناقضات لحنًا لانتصار الإرادة الخيِّرة.
•••
•••
•••
إن قصائدها تتحدَّث عن هذه العلامات التي تنزل من عالمٍ عُلويٍّ آخر لتنفُذ إلى عالمنا فتفتَح عيوننا وتضغط على صدورنا، كما تتحدَّث عن الأخطار التي لا تفتأ تُهدِّد البراءة الأصيلة للإنسان.
وإذا كان لكل شاعرٍ لغتُه الخاصة به، فأنت تعرف لغة هذه الشاعرة من كلمات كالليل والنجوم، والحيوانات التي لها نظراتُ النجوم الثابتة، وأعينُ النجوم، ومخالبُ النجوم.
•••
•••
في البيت الأول من هذه القصيدة تستوحي الشاعرة صورةً فلكية هي صورة الدب الأكبر لتربط بينها وبين شبيهه الأرضي، دب الغابة. وتُحاول المُخيِّلة الشاعرة أن تبحث في صورة النجم السماوي عن شبيهه الأرضي، وتربط بين ظاهرتَين مختلفتَين اختلاف عالم السماء عن عالم الأرض، لتخلُق الإحساس بوجود الإنسان في عالمٍ مجدف بعيد عن رحمة السماء.
فشَوقُ الإنسان إلى القرب من هذا النجم الجبار يظهر في لغة القصيدة في صورة شيءٍ مألوف قريب هو دب الغابة، والنداء الموجه إلى الدب الأكبر يربطنا على الفور بصورة الدب الأرضي، ويُحقِّق عن طريق التسمية وحدها قوةُ الشبَه البصري بينهما.
وحين يصف البيت الأول الليلَ بأنه «أشعث» فإنما يقصد دُب الغابة، ولكنه لا يُقدِّم لنا صورته الواضحة، بل يكتفي بإحدى صفاته التي تتصل بجلده وشعره؛ فالدب هنا لا تكاد صورتُه تتبيَّن في ظلام الليل الذي يسود الغابة، ولا نكاد نُحس بأنه يتميز عنه إلا بأنه ليلٌ أشعث، ولكن الليل أيضًا يبدو أشعثَ حيث تسبَح السحب بين النجوم؛ فالسحب الناعمة كالحيوانات ذات الفراء، وهي بأشكالها غير المنتظمة أو المحدَّدة، قريبة الشبه بجلد الدب، والدب الأكبر أيضًا يصفه البيت الثاني بأنه «الحيوان المُتدثِّر بفراء السحاب»، وتتداخل صورة النجم مع صورة الدب في الغابة فتخلُقان عن طريق الكلمة كائنًا خرافيًّا تُسمِّيه القصيدة بالدب الأكبر ينطبق عليه كل ما تقوله عن دب الغابة؛ فعيون هذا الدب تبدو قديمةً كعيون حيوانٍ منقرض، عُمره أكبرُ من عُمر الإنسان. لكن النجوم بدورها قديمة وعجوز، مُعلَّقة في السماء من أزمنةٍ سحيقة، تشهد بذلك عينا الدب السماوي الذي نراه، ونعرف أن جسده يتكون من السحب المشعثة، والبيت الذي تذكُر فيه القصيدة «عيون النجوم» تقابله في البيت السادس «مخالب النجوم»، وكلاهما يُكثِّف التجربة المزدوجة بالأرض والسماء، ويخلُق صورةً حسية لا نكاد نقف عندها حتى نتجاوزها إلى أعلى أو إلى أسفل، وتنفُذ كفَّا الدب بمخالبهما خلال الدغَل الكثيف، فنتخيَّل الدب في الغابة، ولكن الصورة تقول إنهما تتقدان وتبرقان فترتفعُ المُخيِّلة إلى النجوم التي تشُق دغل السحاب وهي تبرق، وكذلك الأمر في الدب النجمي، فهو أيضًا مُتعبٌ وعجوز، يبدو ذلك في الجنبَين المتعبَين كما يبدو في الأنياب الحادَّة التي تظهر للعين نصفَ عارية.
نداءٌ إلى الدب الأكبر، ولكن من الذي يُناديه؟ نحن الذين نُناديه، ولكن كيف نناديه ونحن نخافه؟ هل نشتاق إلى ما نخشاه ونفر منه؟ إن صورة النجم الهائل الذي يسطع في السماء منذ تعوَّد الإنسان أن يرفع عينَيه إليها قد لمست قلوبنا بسرها وغموضها؛ فالدب الأكبر مُتعَب وعجوز، ولكنه خطير وغضوب، مثله في ذلك مثل دب الغابة، والبشر الذين ينادونه يخافون إن هو نزل على الأرض أن تتبدَّد قطعانهم ويحترق متاعهم، ولكن هل صحيح أننا لا نزال نجهل مع ذلك لماذا ينادون عليه، أو لماذا يتمنَّون أن يهبط إليهم؟ إنهم على استعدادٍ لمقدمه، فهم ساهرون على القطيع وإن كان سِحْر الدب الأكبر يُقيِّدهم ويأْسِرهم. وهم يُحصون قطعهم الفضيلة القليلة ليتصدَّقوا على الرجل الأعمى الذي يسحبه على جانب الطريق، وإن كانوا في رهبة من أسنانه العارية وجنبَيه المتعبَين. وليس عجيبًا أن يثير المجهول العظيم الخوف والرجاء في النفوس، وأن تكون صورة الخالق على مر الأزمان شيئًا يبتهل إليه البشر ويفرون منه في وقتٍ واحد.
بعد النداء من جانب البشر والجواب من جانب الدب الأكبر تبدأ الشاعرة في الحديث؛ فالدب في المقطعَين السابقَين كان يلعب بأقدار العالم، ويُنذر أشجار الصنوبر بالعقاب الأخير، وهو في هذا المقطع الأخير يبدو دبًّا مسالمًا لا خطر منه، يسحبه رجلٌ أعمى على جانب الطريق، لكن هذا الدب الأسير المسالم يمكن أن ينطلق من الأَسْر الذي فرضَه على نفسه — فقد ترك زمامه في يد أعمى — فيُدمر كل شيءٍ في طريقه. لا بد إذن أن نتَّقي غضبه ولا نَغتَر بضعفه.
«خافوا أو لا تخافوا!» بهذا يبدأ البيت الأَوَّل من المقطع الأخير، ربما كان مُوجَّهًا إلى جمهور النظَّارة الذين يُخيفُهم مشهد الدب الأسير أو يُدخِل البهجة على قلوبهم، لكن البيت يريد كذلك أن يُذكِّر النظَّارة بيوم الحساب؛ فهو يومٌ يخشاه الناس، غير أنه قد يكون كذلك سبيل النجاة للعالم المُقفِر الجديب. بذلك تخلُق الكلمة الشاعرة ذلك الإحساسَ بوعد الإله ووعيده متمثلًا في صورة الدب الكبير. وعلى البشر الآن — وقد اغتَرُّوا بسلطانهم على الأرض وانتشَوا بضجيج آلاتهم وفُتات علومهم — أن يبذلوا لصاحب الدب الأعمى كلمةً طيبة وأن يعدُّوا النقود في كيسهم الرنان، وعليهم أن يبذُلوا الضحية وينثُروا عليها الملح والتوابل، إن كانوا يطمعون في الخلاص؛ ذلك أن الدب الأكبر قد يفلِت من قيده في كل لحظة، فيَسحَق الغابة، ويَسحَق العالم بما عليه ومن عليه. وإذا كانت القصيدة تنتهي بصورة الكارثة الكونية التي تتمثَّل في أشجار الصنَوْبَر العظيمة المُجنحة وهي تَهْوي من الفردوس — والملائكة هم أشجار الفِرْدَوس كما تقول بعض النصوص المسيحية المُقدَّسة — فهي تتركُ للبشر مع ذلك حرية الاختيار حين تقول لهم قبل ذلك بقليل: خافوا أو لا تخافوا! فقد تنهارُ العوالم، وتَهْوي الملائكة، وتقوم الساعة، حين تُقفِر القلوب من مخافة الرحمن.