تَريَّثي قليلًا فما أجملَكِ
تمهيد تاريخي
تُعالج مأساةُ «فاوست» لجوته موضوعًا ألمانيًّا خالصًا يرجع إلى القرن السادس عشر، ظَهرَت صورته الأدبية لأولِ مرة في عام ١٥٨٧م في الكتاب الشعبي الذي طبَعه الناشر «شبيس» في فرانكفورت. ويروي الكتابُ قصة رجلٍ تحالَف مع الشيطان، وهو موضوعٌ يرجع إلى العصور الوسطى ونجده في حكاياتِ سيمون ماجوس وتيوفيلوس وغيرهما. غير أن في الكتاب الشعبي شيئًا غريبًا على العصور الوسطى، تسري فيه أنفاس القرن السادس عشر، وتَنعكِس عليه روح الإنسان الذي بدأ يبحثُ ويسأل ويشتاق للمعرفة ويخرجُ شيئًا فشيئًا من كهف الطمأنينة اللاهوتية؛ فقد عزم هذا الرجل الذي تحالَف مع الشيطان على أن يتفكَّر في المبادئ الأولى (الفصل السادس من الكتاب الشعبي)، وعذَّبه الشوق إلى المعرفة ليلَ نهارَ، فلَبِس جَناحَي نسر، و«أراد أن يبحث عن أصلِ كلِّ شيءٍ في الأرض والسماء» (الفصل الثاني).
ليس الطمعُ في الثروة أو المتعة هو الذي دفَعه إذن إلى البحث عن «أصول الأشياء»، بل هو الشوق إلى المعرفة. لقد عَجزَ عن إشباع هذا الشوق بكلِّ وسائل السحر والعلم والتنجيم، فلجأ إلى الشخص الوحيد الذي وعَدَه بالإجابة على أسئلته. ولم يأتِ مُؤلِّف الكتاب الشعبي بهذا من عنده، فنحن نعرف قُصورَه وضيقَ أُفقه، وإنما استمدَّه من التيار الروحي الذي ساد العصر كله، فأزعَجَه وسلَبه الراحة والطمأنينة، وأعني به الرغبة في المعرفة، وإعطاء هذا العالم الذي نعيش فيه قيمةً لم تكن له من قبلُ. كان أكبر ممثلي هذا التيار في ألمانيا هو «باراسيلزوس» وهو عالمٌ كيماوي وفلكي ومُتصوِّف روحاني. كان يسأل: إذا استطاع الإنسان أن يرى كيف تسير النجوم بنظام، وكيف يرتبط كلُّ شيء في الكون بكل شيء، وكيف تسري عليه قوانين الحياة كما تسري على سائر الموجودات، ألا يكون تفكيره بذلك هو التفكير الإلهي؟ اعترف باراسيلزوس بالعقيدة المسيحية «نور العناية الإلهية»، ولكنه اعتَرفَ إلى جانبها بما سماه «نور الطبيعة» أو الوحي الإلهي الآخر، الذي يُمكِننا أن نُدرِكه بالحس والروح إذا عرفنا كيف نُدرِك هذا العالم. كان ذلك إيذانًا بغزو العالم، وخروج «الأنا» عن الحدودِ التي رُسِمَت لها، والانطلاق إلى مُغامرة المعرفة التي لم تتوقَّف إلى اليوم. وكان ذلك شيئًا أفزع المتزمتين من أبناء عصره، فزعموا أن الشيطان قد تلبَّسَه، وأصبحَت شخصيَّتُه أُسطورةً تحكي عنها النوادر والأعاجيب. وارتَبطَ هذا الشوق الجَسُور إلى المعرفة بأسرار العالم والتوغُّل فيها بغيرِ حَد، بشخصيةٍ أخرى معاصرةٍ له، أصبَحَت فيما بعدُ أسطورةً تُنسَج حولها الحكايات، ألا وهي شخصية يوهان فاوست. والمعلومات التاريخية عن فاوست شحيحةٌ ومتضاربة؛ فيقال إنه كان ساحرًا ومنجمًا وطبيبًا يحصُل على رزقه من التجوُّل وادِّعاء العلم والإتيان بالمعجزات (فمن زعمه مثلًا أن معجزات المسيح لا تُساوي شيئًا إلى جانبِ مُعجِزاته، وأنه يستطيع أن يَروي كل مُؤلَّفات أفلاطون وأرسطو من الذاكرة، كما يُحكَى عنه أنه استَحضَر أرواحَ الأبطال في إلياذة هوميروس أمام جماعةٍ من الطلَبة في مدينة أرفورت). امتزجت هذه النوادر والحكايات بما كان يُروَى عن باراسيلزوس وتلاميذه، وأصبَحَت شيئًا باهرًا مُخيفًا يجذب العامَّة والعُلماء ويُفزعهُم على السواء.
ومن المعروف من قديم الزمان أن الشرير هو الذي يتحالف مع الشر، ولكنَّا إذا تركنا الحلف جانبًا ونظرنا إلى الباعث عليه فلا بد أن نسأل هل يمكن أن يكون هذا الشوق إلى معرفة العالم شرًّا؟ أليس من طبيعة الإنسان أن يندفع إلى التجربة والتطلُّع والعلم؟ كان ذلك هو السؤال الحقيقي الذي أقلَق العصر، فنَسَج حوله الخرافات، وجعلَه وسيلة التحذير من الغواية والضلال، والدعوة إلى التمسُّك بالعقيدة المسيحية. وظل هذا الموضوع — ويا له من مادة شعرية! — لا يجد الشكل الأدبي الجدير به حتى تناوَلَه جوته، فجَعلَه رمزًا وصورة للإنسان الذي لا يكُف عن السعي والبحث والخطأ ما بَقِي فيه نفَسٌّ يتردَّد.
ليس معنى هذا أن القرنَين السادس عشر والسابع عشر لم يتناولا موضوع السعي إلى المعرفة. بل معناه أنهما عالجاه بطريقةٍ فكرية، موضوعية، تنصرِف إلى التأمُّلات في الفلسفة الطبيعية؛ فرجالٌ مثل فيشينو وباراسيلزوس، وكيبلر وليبنتز أرادوا جميعًا أن يعرفوا «كيف ترتبط الأشياء جميعًا بالكل، وكيف يحيا كلُّ شيء ويُؤثِّر في كل شيء.» على نحوِ ما يُعبِّر فاوست. ولقد أحسُّوا أيضًا أن هذا السعي إلى المعرفة لا يُنافي العقيدة ولا يعني العصيان لطاعة الله، وبحَثُوا في قوانين النجوم وانسجام الأفلاك والعناصر الكيمائية، وتأثيراتها الغامضة على حياة الإنسان ومصيره وقرَّبوا بينها وبين الكتابات المقدَّسة بقَدْرِ ما استطاعوا، ولكنهم انتهَوا من ذلك إلى العلم، والتصوُّف الشامل، والحكمة الكاملة، والتديُّن الخالص الذي يُريد الوصول إلى الله عن طريق العالم. كان كلُّ كلامهم عن العالم، لا عن «الأنا»؛ ولذلك لم يخرجوا منه بشعرٍ ولا فنٍّ حقيقي، وكان لا بُد من الانتظار حتى تنضَج التجربة الباطنة على عصر جوته.
لم تكن ساعة الأدب العظيم قد دقَّت بعدُ في ألمانيا في القرن السادس عشر. كان الأدب لا يزال محصورًا في مجال الدين، مُقسَّمًا بين قلةٍ من العلماء تكتب باللاتينية، ومجموعة تُدوِّن الحكايات والنوادر والكتب الشعبية للعامة، دون أن تصل إحداها إلى مستوى الروائع الحقيقية. أما في إنجلترا فكان الحال غير ذلك؛ فقد بلغ المسرح في أواخر القرن قمةً عالية على يد شكسبير وبن جونسون وغيرهما. واستطاع «مارلو» أن يَستشِفَّ ببصيرته النافذة ما في مادة «فاوست» من عُمق وعظمة، فصاغ مسرحيته المشهورة التي دارت دورتها في البلاد الشمالية حتى وصلَت إلى ألمانيا على هيئة مسرحيةٍ لتخويف الأتقياء من المصير التعس الذي يلقاه كل من يُعانِد الوحي ويتحالَفُ مع الشيطان، ثم تحوَّلَت إلى إحدى مسرحيات الدُّمى والعرائس. وظلَّت الخرافة تنتشر بين الناس عن طريق الكتاب الشعبي الذي تعدَّدت طبعاته، كما كثُرت الإضافات والتعديلات عليه (في طبعتَين أخريَين في أعوام ١٥٩٩م، ١٦٧٤م، ١٧٢٥م)، وعن هذَين الطريقَين وصلَت إلى يدَي جوته.
كان الكتاب الشعبي الذي وضع في عام ١٥٨٧م قد وصل إلى إنجلترا كما قدَّمتُ فالتقَطه الكاتب الشاب كريستوفر مارلو (١٥٦٤–١٥٩٣م) وعَرفَ بفطرته الدرامية كيف يصوغُ المواقف الكبرى فيه؛ فهنا يبدأ فاوست بمونولوجٍ طويلٍ رائع يستعرض فيه ألوان المعارف حتى ينتهي إلى السحر، ويستحضر الأرواح، ويَعقِد الحلف مع الشيطان، ويدخُل في معترك السياسة، ويدعو روح هيلينا، رمز الجمال الإغريقي، حتى يتوب ويندَم ويتمنَّى، بعد فوات الأوان، أو يستطيع أن يحرق كل كتب السحر. إنه بطلٌ عنيد، مُتهوِّر، مُندفِع في التحدِّي والتجديف، جَسُور في نهمه إلى معرفة العالم، شِرِّير لا يَهابُ تجربةً أو مغامرة، يُريدُ أن يُصبِح إلهًا على الأرض وليكن بعد ذلك ما يكون! ووصلَت المسرحية إلى ألمانيا في القرن السابع عشر (وإن لم يطَّلع عليها جوته إلا في عام ١٨١٨م)، وراحت الفرق المُتجوِّلة تَعرِضها على الناس باستمرار، بل تناولَتْها كذلك بالتغيير والإضافة بحيث بَرزَت شخصيَّة فاوست المتعطِّش إلى المعرفة أكثر من فاوست العملاق الشرير. وتحوَّلَت المسرحية كما قلتُ إلى ألعاب العرائس، وظَهرَت شخصيةٌ مقابلةٌ لفاوست وهي شخصية «هانز فورست»، التي تجمع بين المرح والعمق، وشاهد جوته بعض هذه العروض في صباه، وكتب عنها في تاريخ حياته «شِعر وحقيقة» يقول: «لقد راحت قصة لُعبة الدمى الشيقة تَرِن وتتردَّد في ضميري بأنغامٍ مُتنوِّعة.» ولسنا نعرف على وجه التحديد أي نصٍّ شاهده جوته، فقد كانت هناك نصوصٌ عديدة لمسرحياتِ الدمى، كما كانت هناك كتبٌ شعبية عديدة لخرافة فاوست. المهم أنه شاهده بحماسٍ لم يفتُر، وظل ماثلًا أمام عينَيه طوال حياته. ومن المذهل حقًّا أن نُقارِن مسرحيته بأصولها الأولى، سواء في الكتب الشعبية أو مسرحيات العرائس أو المشهد الوحيد الذي أتمَّه ليسنج (ونشره في الخطاب الأدبي السابع عشر في عام ١٧٥٩م) أو أُدباء حركة «العاصفة والاندفاع» الذين جاءوا بعده وتأثَّروا به فكتبوا عن فاوست مسرحية أو رواية (مثل «مالر موللر» الذي ظهرت أجزاءٌ من مسرحيته في عامَي ١٧٧٦م، ١٧٧٨م وفريدريش ماكسميليان كلنجر الذي ظهرت روايته في عام ١٧٩١م)؛ فقد استطاع جوته أن يُحوِّل الخرافة القديمة إلى قصيدٍ كونيٍّ هائل، وأن يستفيد من أدقِّ جزئيات الكتب الشعبية فيرتفع بها إلى مستوًى رمزيٍّ شامل، يُعبِّر من خلاله عن رؤيته للكون والحياة، وعن تجربةِ شبابه وحِكمةِ شيخوخته، بحيث أصبحَت «فاوست» وصيةً رائعةً للأجيال من بعده إلى يومنا الحاضر.
ماذا نقول في عملٍ لا يرتبط بزمانٍ ولا مكان؟ عملٍ تضُم مادَّته الكون كلَّه، وتمتدُّ أحداثُه وأفكاره على مدى ثلاثين قرنًا، ويسع الأرض والسماء، والنعيم والجحيم، والماضي والحاضر والمستقبل؟ أتنطبقُ عليه كلماتٌ كالدراما أو التراجيديا؟ أنجد فيه ما نُسمِّيه عادةً باﻟ «بطل» أو الحَبْكة أو تطوُّر الأحداث؟
قد نستطيع حقًّا أن نقول إن هناك بطلًا يُحدِّد التاريخُ شخصيتَه كما تُحدِّدها الأسطورة، قد نقول إنه هو ذلك الساحر الذائع الصيت، السيئ السمعة، الذي ظهر ومات في القرن السادس عشر، ونُسِجَت حوله حياته وموته الحكايات والخُرافات من جانب العامَّة والعُلماء على السواء، أو إن هذا العمل الهائل الفريد الذي نُسمِّيه «فاوست» ليس إلا مجموعةً من مواقفِ حياته في صورةٍ مسرحيةٍ وملحمية، تَتنوَّع فيها الصيغ والأشكال الشعرية، ويختلط التاريخ بالأسطورة، وتتجاور الحياة المسيحية والحياة اليونانية القديمة، ويشتبك الماضي بالحاضر والسحر بالواقع على صورةٍ لم يسبق لها مثيل.
وقد نستطيع في القسم الأول من «فاوست» أن نتحدَّث عن شخصية البطل أو الأبطال، ولكن ماذا نقول عن القسم الثاني وهو مسرحٌ كونيٌّ كبير، تُصبِح فيه الشخصيات مُجرَّد رموز، وتكتسب الأحداثُ معانيَ صوفيةً شاملة؟ إن كل الأسماء التي نعرفها عن المسرحية التاريخية، أو مسرحية الشخصيات، أو مسرحية القدَر، تفقد هنا معناها؛ ذلك أننا نتحرك في مجالٍ يجمع بين المأساة وبين مسرحيات الأسرار الدينية، ويُصوِّر حياة إنسانٍ تتنازعها رحمة الله ولعنة الشيطان، وتضِل نفسه وتشقَى على الأرض حتى تجدَ الخلاصَ في السماء. صحيحٌ أن جوته نفسه يُسمِّي عمله «مأساة»، وليس من حقنا أن نشُك في هذه التسمية، ولكن المأساة تظل مع ذلك فوق كلِّ مأساة؛ فالسماء هي التي نسجَت خيوطها، والسماء هي التي تجمع خيوطها الأخيرة، السماء هي التي تُكبِّلها بقيود الأرض، والسماء هي التي تُحرِّرها من كل القيود. إنها مأساةُ الذات البشرية التي تُحاول عبثًا أن تصل إلى اللامتناهي، وكلما كسبت نفسَها في العالم عادت ففقَدتها فيه، وكلما قرَّبَتها أشواقُ الروح إلى الله، أبعدتها سقَطاتُ المادة عنه. إنها تسعى في كل لحظةٍ إلى الاتحاد به، ولكن قُدِّر عليها في كل لحظةٍ أيضًا أن تزداد بُعدًا عنه.
كيف ننظُر إذن إلى هذا القصيد الشعري الكبير؟ لو نظرنا إليه من ناحية الأرض وحدها لأخطأناه، ولو نظرنا إليه من جهة السماء وحدها لأخطأناه أيضًا؛ ذلك أن «فاوست» تُمثِّل عالمًا كونيًّا متكاملًا، يضم مجموعة من العوالم الواقعية المتنوِّعة التي يتصل كلٌّ منها بالآخر ويُؤثِّر كلٌّ منها على الحدث الكلي؛ فطريق فاوست على الأرض، وسعيه الدائب إلى الكمال الإلهي، والحِلْف الذي يُوقِّعه بدمه مع الشيطان، والعناية الإلهية التي تكتب له النجاة منذ البداية، كل هذه جوانبُ مختلفةٌ من حدثٍ روحيٍّ كبير، لن نستطيع أن نفهمه من وجهة نظر الإنسان أو الشيطان أو الإله على انفراد. إنها جميعًا أجزاء من «الوجود الكلي» الذي يُخضِع كلَّ ما يدور في الزمان أو المكان لرؤيةٍ شعريةٍ عالية، نظَل نسمع فيها أنغام الانسجام الأبدي، مهما تأزَّمَت أقدار فاوست، ومهما تجلَّى شقاء الإنسان على الأرض، ومهما بدا أن الشياطين قد شدَّدَت قبضتَها على روحه، فالبطل الحقيقي هو الوجود الكلي الشامل، الذي يشارك الإنسانُ فيه دائمًا على نحوٍ مأساوي، ويظل بما هو وجودٌ كليٌّ فوق كل مأساة. وفاوست ليس إنسانًا عاديًّا ولا هو طرازٌ لكل إنسان، ولكنه في سعيه «فوق الإنساني»، وفي فنونه السحرية التي تُمكِّنه من القوى المسيطرة على الطبيعة، إنما يمثل تلك «المونادة» أو ذلك الجوهر أو الكيان الفردي الذي يسعى إلى الكل، ويصطدم بأقصى حدود البشرية، ويُمثِّل قدَر الذات التي تجاهد على الدوام لكي تبلُغ الكمال، فتسقُط على الدوام في النقص والمأساة.
إن فاوست إنسانٌ محدود وغيرُ محدود في وقتٍ واحد، هو أكملُ المخلوقات وأشدُّها نقصًا، وهو أسعدُها وأشقاها جميعًا، هو قريبٌ من الله وبعيدٌ عنه، وكل خطوةٍ يخطوها في الطريق إلى تحقيق ذاته، هي في نفس الوقت سقطةٌ شيطانيةٌ تُبعِده عن عنايةِ السماء ونعمتِها. ومع ذلك فهو لا يصل إلى ذاته إلا عن طريقِ الخروج منها، وهو لا يشقى ولا يقلَق إلا لكي يجد الراحة في الإله الخالد، ولكنها الراحة في الحركة، والسعيُ الدائم الذي يصُب في الصورة النقية للفعل. إن فاوست هو صورةُ الألوهية التي لا تكُف عن خلق ذاتها باستمرار، وهو كذلك الدودة المُنكمِشة التي يتهدَّدها على الدوام خطرُ «التهام التراب بلذة»؛ فكيانُه المغروز في المادة احتجاجٌ مستمر على الله، وروحه التي هي قبسٌ منه حنينٌ دائمٌ إلى الاتحاد به؛ ذلك هو قدَر هاتين النفسَين اللتَين تسكُنان صَدْره المُتعَب، إحداهما تتشبَّث بالمادة بأعضاءٍ متشنِّجة، والأخرى تشتاق إلى «نعيم الجدود الأعلَين». وهو حين يستخدم السحر لكي يقتربَ من سِرِّ الله، ويعرف الحقيقة التي تتجلَّى في كل موجود، إنما يُوسِّع من سُلطان الإنسان على الأرض، ويُقوِّي نزعته الشيطانية إلى التملُّك والتحدِّي والغرور.
لا تقتصر مأساة فاوست إذن على إدراكه لعجز المعرفة الإنسانية بل تتخطَّاها إلى مأساة المثالية بوجه عام؛ فهو يُحس، كما لم يُحسَّ أحدٌ قبله أو بعده، بأن هذه المثالية لعنةٌ على الإنسان؛ فهي مثاليةٌ لا تستطيع أن تُخلِّصه من أَسْر المادة، بل تُسقِطه في حضيضها، وهي تَشَبُّهٌ بالألوهية لا يرفعه إلى مصافِّ الآلهة بل يزيده إحساسًا بعجز البشر؛ ولذلك فقد يئس من المعرفة التي لا تتجاوز القشرة الخارجية، ولا تُنيله «إلا ثوب الألوهية الحي»، وبدأ رحلته في العالم كلِّه بحثًا عن الله وهي رحلةٌ لن تَزيدَه إلا سخطًا وجوعًا وظمأ!
ذلك لأن الدافع الذي يسوقه إلى البحث عن اللامتناهي سيصطدم بتناهي الحياة، والشوق إلى الإله غير المحدود، سيُصدَم في كل مرة بعجز فرديته المحدودة. إنه يريد أن يجد الله في كل مظاهر الحياة، ولكن متى تجلَّى الله في شيءٍ بعينه؟ وإذا كان العِلمُ عاجزًا عن إدراك الكل، فإن الحياة تبخل علينا بتلك اللحظة التي نُحسُّ فيها باللامتناهي من خلال شيءٍ مُتناهٍ، أو نذُوق طعم الخلود في شيءٍ فانٍ، أو نُشبِع الشوق إلى ما وراء الطبيعة في مظهرٍ من مظاهر الطبيعة. قد نرضي هذا الدافع أو ذاك من متع الحياة، أما الدافع المعتم، أما الشوق الغامض كما يُسمِّيه الرب في حديثه مع الشيطان فهو لا يُشبع ولا يرضي أبدًا؛ ذلك لأنه شوقٌ إلى الألوهية نفسها، ينبُع منها ويتجه إليها، ومُحالٌ أن يجد سعادته الأخيرة إلا فيها. وما دام فاوست يبحث عن الكل في الجزئي، واللامتناهي في المتناهي، والله في العالم، فإن خيبة الأمل هي حصادُه الوحيد، وكلما زادت آماله زادت خيبةُ أمله، ولكنها خيبة من نوعٍ فريد؛ ذلك لأنها لا تُصيبُه باليأس أو تحمله على الزهد؛ لأن شوقه إلى اللامتناهي هو نفسه شوقٌ غير مُتناهٍ.
ويسأل الرب فجأة، وكأنه يُريد أن يضرب له مثلًا على النفس التي كان يمكن أن تُرضِيَه: هل تعرف فاوست؟
ويُسرع مفيستو فيُسمِّي لقبه الذي اشتُهر به بين الناس: الدكتور؟
فيُسرع الرب أيضًا بتأكيد الحقيقة الباقية وراء العرض المغرور: عبدي!
وإذا كانت هذه هي مأساة فاوست، فإن الشيطان، وهو الروح النافية المُتمرِّدة من الأزل، لا يخلو كذلك من المأساة. إنه يعرف مُقدَّمًا أن الله أقوى منه، وأن الحياة تنتصر على الموت، والخير يَتفوَّق دائمًا على الشر، والوجود على عدم الوجود، ومأساته الحقيقية أنه يعرف ذلك ولا يستطيع أن يغيره؛ ولهذا فهو لا يملك حيالَ هذه المأساة سِوى السخرية من نفسه!
إن الشيطان (مفيستو) لا يعرف شيئًا عن انقسام النفس عند فاوست إلى نفسَين كلٌّ منهما تُعاند الأُخرى وتُصارِعها، فهو يُسلِّط قُوَّته وأساليبه السحرية على تلك النفس الأرضية الجائعة إلى اللذة والحياة، الباحثة عن اللحظة التي يمكنها أن تقول لها تريثي قليلًا فما أجملك. والشيطان لا ينفي بالعقل فحَسْب، بل يُوقِع فاوست في المآزق والآلام، ويُغوِيه بالشهوات والأوهام، ويَجذِبه دائمًا إلى الضَّعة والانحطاط لعله أن «يفترس التراب بلذة.» ولعله أن يُخدَع ويخيب أمله فيَهزأ به ويَسخَر منه. إنه يدفع فاوست بكل وسائل السحر وقوى الشر إلى تحطيم نفسه، ويجعل من جُوع الحياة الذي يحس به جُوعًا إلى المادة، ويتركه بعد كل مُغامرةٍ هامدًا متعبًا، أو ظمآنَ جائعًا يتوقُ عبثًا إلى الريِّ والشبع. كل لحظةٍ عاشَها فاوست بملء كيانه وخُيِّل إليه أنه عايَشَ فيها المُطلَق يردُّها الشيطان إلى مَوضعِها العادي المشروط في تيَّار الزمان، ولكنه يجهل في غَمرة تفوُّقه العقلي أن جُوع فاوست إلى الحياة وإيمانه بها وشوقَه إليها إنما هو صورةٌ أخرى من إيمانه بالله، والشيطان لا يستطيع ولا يُريد أن يفهم ذلك أو يُصدِّقه. ومن هنا يتفَوَّق فاوست عليه شيئًا فشيئًا، وتتضح له عوالمُ ستظل مغلقةً في وجه الشيطان إلى الأبد، ويحيا تجاربَ صوفيةً مشرقةً يعجز عن المشاركة فيها حتى يجد نفسه في النهاية وحيدًا مخدوعًا، وهو الذي ظن نفسه أمير الخداع.
هذه العلاقة بين فاوست والشيطان تَظهَر أوضحَ ما تكون في الحلف المشهور الذي عقَده معه؛ فالحكاية المسيحية المأثورة عن هذا الحِلف تُصوِّره لنا تعبيرًا عن تهوُّر إنسانٍ أشاح بوجهه عن الله، حتى يتمكن بمساعدة الشيطان من التمتع بالحياة الأرضية، ولو كان الثمن هو بيع روحه للشيطان والجحيم. وفي هذا الحلِف الذي صورته الكُتب الشعبية في أواخر القرن السادس عشر ينطوي نوعٌ من الرعب من التجديف على الله، ونوعٌ من الإعجاب الخفي بالتحدي له، ينتهي بالضرورة إلى أن هذا النهَم للحياة يستحق أشد العقاب، ولكن الحِلف الذي عقَده فاوست مع الشيطان على نحوِ ما صوَّره جوته لا يمكن أن يُفهَم على أنه خطيئةٌ تُقترَف في حق الله، ولا على أساس التفرقة بين الدنيا والآخرة. حقًّا إن فاوست يعقد الحِلف في لحظةٍ من لحظات يأسه الشامل ووَحْدته القاتلة، لحظةٍ يلعن فيها الوجود كله، ويكفُر بكل ما حَصَّله من علمٍ لم يكن إلا جهلًا وغباء «وهكذا أصبح وجودي عبئًا، وأصبحتُ أتمنَّى الموت وأُبغض الحياة.» إنه يُحسُّ أنه خُدع في الحياة فلم ينَل من مُتَعها الحقَّة شيئًا؛ ولذلك فهو يُنكِر عليها كلَّ قيمة ويُجرِّدها من كلِّ معنًى إلهي. في هذا الجو اليائس الساخط يُعقَد الحلف بين فاوست والشيطان، دون أن يُؤثِّر ذلك على شك الأول في قدرة الثاني، لا بل على احتقارِ كلِّ ما يمكن أن يُقدِّمه له.
صحيحٌ أنه يطلب بنفسه من الشيطان أن يُحقِّق له بعض هذه المُتَع، وهذا الطلب نفسُه تعبيرٌ عن قلَقه وتناقُضه مع نفسه؛ لأنه يؤكد المتعة وينفيها، ويطلبها ويزدريها في وقتٍ واحد؛ يؤكدها لأنه يريد أن يُجرِّب الإلهي في الأرضي، وينفيها لأن الإلهي يظل ممتنعًا على الأرضي. هذه المفارقة التي تُعبِّر عن مأساة فاوست كإنسان، تظل لغزًا يُحيِّر مفيستو؛ فهو لا يستطيع — على ذكائه وصدقِ أحكامه عن البشر — أن يتصوَّر شوق فاوست إلى المُطلَق والمستحيل إلا أن يكون نوعًا من الوهم، وفاوست بدَوْره لا يتصوَّر المتعة والرضا بها إلا نوعًا من خداع النفس.
في هذه الأبيات البالغة الدلالة على مأساة فاوست اعترافٌ باللحظة، ولكن أية لحظة هي؟ لا شك أنها ليست لحظة المتعة الحسية التي تنكَّر لها من قبلُ وأعلَن عن احتقارِه لها في حواره السابق مع الشيطان؛ فهو يُؤكِّد الآن أن قدومَ هذه اللحظةِ إيذانٌ بموتِه وبانتهاءِ مهمة الشيطان، وهو يَتنبَّأ باستحالتها، ويكاد يُعلِن عن يأسه من أن تكون في يوم من الأيام جزءًا من الزمن الذي نعيش ونموت فيه. إنه يعُدُّها اللحظة الخصبة الأصيلة، التي يتركَّز فيها معنى وجود الإنسان كله، لحظة أن يجتمع الخلود والفناء في نَبضةٍ واحدة، ويحضُران على هذه الأرض فيتعانق الأبَد والزوال. وفاوست يشعُر سلفًا بأن تجربة هذه اللحظة ممتنعةٌ عليه بما هو إنسان، ولكنه يشعر كذلك شعورًا حادًّا بالقلق الذي يُعذِّبه إليها بما هو إنسان. إنه يعرف أنه لن يكُفَّ عن السعي إليها، ويعرف أيضًا أنها لن تُمكِّنه من نفسها، وبين هذَين الطرفَين تدور مأساتُه، فتَتمزَّق حياتُه بين البحث عن اللحظة الإلهية والاستغراق في لحظات المتعة الأرضية، بين اليأس من بُعدِه عن الله، والشوقِ إلى الاتحاد به، بين لعنةِ وجوده وأملِه في الخلاص. وفي هذه المفارقة يجد فاوست نفسه؛ فهو برغم سعيه الشقي المتصل قد فقَد الأمل في الوصول إلى هذه اللحظة السماوية الخصبة، ويزداد يأسُه فيصرخ معلنًا استعداده للتخلي عن الله وعن كل معنًى إلهي لظنه أن الإنسان الذي قُدِّرَت عليه المأساة فوق الأرض لا سبيل له إلى النجاة. وهكذا كلما أراد أن يهَب نفسه بكُلِّيتها للحظةِ العابرة الخلَّاقة، وجَد نفسَه مُضطرًّا لتجربة الخطأ والنقص والضياع، وكلما استسلَم لتيَّارها اكتشَف أنه يزداد بُعدًا عن الشاطئ، وغُربة عن العالم، ويظلُّ يضرب في بحر الوجود بلا قصدٍ أو هدف، ولا وطنٍ أو بيت، كشلَّالِ ماءٍ يسقُط في الهاوية، مكروهًا من الله، أسيرًا في قبضة الجحيم.
إنه هنا يُسجِّل مأساةَ حياتِه كلها، ويكتَشِف كيف أخطأ وفيم أخطأ؛ فهو لا يذكُر تلك القوة الخفيَّة التي كانت ترفَعُه فوق مستوى البشر، وإنما يعترف في آخرِ المطافِ بأنه عاش ضحيةَ الأرواح التي ناداها، ووقَع في شِباك الأشباح الشرِّيرة التي جذَبَتْه إلى عالمها. لقد عاش منذ أن وقَع الحِلف مع الشيطان في عالمَين، ونظَر إلى الأشياء بنظرتَين؛ ذلك لأنه كان يراها دائمًا في ذلك الضوء الشاحب بين الشبَح والواقع، وبين المظهر والحقيقة، وإذا كان يصرُخ الآن باسم الحرية، فهي صرخةٌ تَنطلِق بعد فوات الأوان، في اللحظة التي يقبَل الموت فيها عليه، وتُحيط به الشياطين التي لم يدعُها إليه. وإذا كان الهمُّ سيُعمي عينَيه بلمسةٍ منه ويَسلبُه عالم الموضوعات الخارجية، فإنه سيُتيح له أن يدخُل عالمه الباطن «ففي الباطن وحده يلمع النور الساطع.» وستظل ذاته المُشتبِكة بالعالم، الغارقة في أَسْر المادة والقوة، هي الذات التي لا تكُف عن السعي والمُجاهَدة حتى تَلفِظ النفس الأخير: «ما زلتُ أُكافح دونَ أن أبلُغ الحرية.» وها هي فاعليَّته الحقَّة تنبُع الآن من وجدانه، لا من استسلامه لغوايات العالم. إن الموت يُفاجئه في اللحظة التي يَنتزِع فيها الأرضَ من مخالب البحر، ليُقيم عليها أرضَ شعبٍ حر، ويُحقِّق عليها الجماعة الإنسانية السعيدة. أتكون هي اللحظة الأبدية السامية التي يصل إليها قبل أن يعبُر جسر الموت الكئيب؟ ها هو ذا الموت يأتيه وهو في ذروة الأمل والفعل والحياة، بعد أن زَهِد في العالم وتخلَّى عن السحر، فهل تكونُ هي لحظة الفعل النقي الذي يعلو على كل ما هو أرضي؟ وهل تكون هي اللحظة التي خاطَبَها بقوله «تَريَّثي قليلًا فما أجملَك!»؟
تصل المأساة إلى قمَّتها ثلاثَ مراتٍ في ثلاثِ مآسٍ متوالية: مأساة جريتشن، الفتاة الطيبة، المذنبة البريئة. ومأساة هيلينا، مثَل الجمال بل مِثال المثَل. ومأساة فاوست حين يموتُ وهو الحاكم الذي لا يزال يسعى إلى التشبُّث بالعالم والسيطرة عليه.
والمعروف أن مأساةَ جريتشن من الأصول الأُولى للعمل الشعري الكبير؛ ففي حكاية الفتاة «الطيبة البريئة» التي يُحبها الساحر فاوست ثم يتخلَّى عنها ليُعاني ندم الخائن أصداء من قصة حب جوته حين كان يطلُب العلم في شتراسبورج لفردريكه بريون، ولكن الدافع الحقيقي الذي حرَّك فكرةَ فاوست كلَّها في نفسه هي قضية الفتاة «سوزانا برانت» التي قتلَت طفلها خوفًا من العار ثم قُبِض عليها في سجنٍ قريب من بيتِ أُسرة جوته وشغلَت دوائر القضاء في فرانكفورت كما شغلَت المحامي الشاب وبعضَ أفرادِ أُسرته حتى أُعدِمَت في الرابع عشر من يناير ١٧٧٢م. هزَّت مأساةُ البريئة المذنبة قلب جوته الشاب هزةً عنيفة، ومن حقنا أن نقول إن في معالجتها نوعًا من الاعتراف الذاتي والندَم على محبوبه الشباب التي تخلَّى الشاعر عنها بغير ذنبٍ جنَتْه. إن فاوست الذي أغوى «جريتشن» وحالَ الشيطانُ بينه وبين إنقاذها يُجرِّب أقصى ما يستطيع الإنسان من إحساسٍ بالذنب وتعاطُف مع التُّعَساء، وهي أشياءُ لا يُفهَم عنها روح الأرض الذي يتجلَّى له ولا الشيطان نفسه شيئًا. ليس فاوست هنا ذلك الساحر العملاق الذي يتألَّه ويُريد أن يتخطَّى حدود الوجود، بل الإنسان الذي يتعذَّب عذابًا لن نُصادِفه في المأساة كلها بعد ذلك، ويحترقُ بنار المعرفة حتى يصل إلى قمَّة اليأس حين يهتف: «آه يا ليتني ما وُلِدت!»
هذا الشعور اللامتناهي باللحظة الخالدة، هذا الإحساسُ بأن لحظةَ الحُب هي التي تُوحِّده بالمحبوب، وتنقلُه إلى قلب الحياة، هو الذي ينقُضه مفيستو ويُجرِّده من معناه، ولا يرى فيه غيرَ المتعة والغِواية، في حين يَرى فيه فاوست نعيم السماء على الأرض.
ويزداد إحساس فاوست بالخطيئة في حق جريتشن، ويعرف أنه هو الذي ساقها إلى مصيرها الحزين، وأن حُبَّه النقي هو الذي دفَعها إلى إثمٍ لا يمكن أن يغفره لها البشر، ولا يستطيع هو أيضًا أن يغفره لنفسه. إن الشهوة والقلَق هما اللذان دفَعاه على ذلك، ولكن هل الحب حقًّا مُجرَّد قِناع للشهوة؟ هل الوفاء وَهْم يخدَع الإنسان به نفسه؟ إن فاوست ينحدر شيئًا فشيئًا، والشيطان يَشحَذ كل أسلحته الجهنَّمية ليُضِلَّه ويُجرِّدَه من تأنيب الضمير، ولكن الجواب على السؤال السابق لا يأتي من الشيطان، وإنما نُحِس به في المشهد الأخير من المأساة، وجريتشن التي أصابتها لوثةُ الجنون تَنتظِر في زنزانتها تنفيذَ حُكم البشَر عليها، حين يقول الشيطان: لقد هلَكَت! فيُجيب صوتٌ من السماء: لقد نجت!
وفاوست أيضًا يَعرِف أنه هو الذي دفع جريتشن إلى هاويةٍ من الغواية والخطيئة لم تعرف ببساطتِها ونقائها كيف تحمي نفسها من التردِّي فيها، ولكنها ليست مجرَّد تجربةٍ أدخلَه الشيطان فيها فسقط، بل هي كذلك الطرف المُقابِل للشيطان، «وأوَّل وأسمَى مُتَع الشباب التي طالما حُرم منها.» غير أن لهيبَ الحسِّ الذي أشعلَه فيه الشيطان، يُضيء بشرارة حُبٍّ إلهي، والعاطفة التي ساقته إلى الشر واليأس تَنطوِي على وسيلة الخلاصِ منها على يدِ المرأة التي ستهديه إلى السماء، فمأساةُ جريتشن بالنسبة لفاوست إذن غواية وهداية، نقمة ونعمة، عذاب الشهوة التي لم تشبع، وفرحة الخلاص التي ستَتحقَّق. وهذه الطبيعة المزدوجة في التجربة التي يُواجهها فاوست تُقابِل طبيعته المزدوجة التي تتصارع فيها نفسان تتشبَّث إحداهما بالأرض وتتطلع الأخرى إلى السماء، كما أن أخطار المادة التي يتعرض لها لا تستطيع أن تُحطِّم جوهر الحب النقي ولا أن تقتُل فيه طفولةَ القلب التي تُحافظ رغم كل شيءٍ على براءتها وسعادتها.
ومع ذلك تظل اللحظة الخالدة الخصبة، التي تتجلى فيها الحقيقة العالية تجليًا مباشرًا، هي المشكلة الأولى في حياة فاوست، ولكن هذه المشكلة التي عُرضَتْ في الجزء الأول من المأساة على نحوٍ ذاتي وتجريبي، تُقابِلنا في الجزء الثاني في صورةٍ رمزيةٍ وأسطورية، فالتناول هنا قد انتقل من الخاص إلى العام؛ لأن التخصيص والتنويع من صفات الشباب (على حدِّ تعبير جوته نفسه في حديثه مع ريمر في عام ١٨٣١م)، والرمزية عند الشاعر ومعناها أن يتَحوَّل الجانب الإلهي إلى صورة، بحيث يظل في هذه الصورة فعَّالًا إلى أقصى حَدٍّ وبعيدًا وممتنعًا إلى أقصى حَدٍّ أيضًا، إنه الآن شيء لا يمكن التعبير عنه بلغة أو لسان، كلُّ ما يحدُث فهو رمز وتشبيه، فالواقع لا بُد من النظر إليه على أنه رمزٌ والصور الشعرية هي في الحقيقة صُورٌ تعكِس تلك الرموز. لم يعُد الأمرُ مقصورًا على التصوير المباشر لنفس فاوست الحائرة في علاقتها بالله والعالم والحقيقة، بل نحنُ الآن — ولنعُد إلى الكلام بلغة ليبنتز — فصاحب هذه «المونادة» الجبارة أو هذه الذات الفَردة التي لا تكُف عن السعي والشوقِ والقلَق في عوالمَ مختلفةٍ تَعكِس آمالها وإمكانياتِها وحدودها، لا بل إن هذه الذات الفَردة قد أصبحَت ظاهرةً أُولى أو فكرةً أفلاطونيةً لا يمكن أن تصل إليها إلا عن طريق الانعكاسات التي تَظهَر فيها، مثلما يستحيل على العين أن تُدرِك الشمسَ نفسَها فتكتفي بانعكاساتها في الألوان والمرئيات أو على سطحِ الماء.
حقًّا إن فاوست يرتفع في القسم الثاني فوق السحر وأساليبه، كما يَرتفِع فوق الخطيئة التي جناها من حُبه القديم ويصل بالفكر والواقع إلى آفاقٍ من العالم أوسعَ وأشدَّ نفاذًا وتأثيرًا من تجاربه الذاتية في القسم الأول. وليس الأمر هنا أمر تطوُّرٍ في شخصية فاوست فحَسْب، بحيث يصل إلى درجةٍ من الكمال والإشراق والبصيرة لم يستطع أن يبلُغْها من قبل؛ فالحقيقة أن مأساتَه تزدادُ عمقًا بازدياد قوة السحر وخَطرِه وامتدادِه إلى آفاقٍ أسطورية وروحانية لم يصل إليها من قبل، وهل هناك مشهدٌ أكثر فزعًا ورهبةً من رؤية فاوست العجوز في نهاية المأساة، تحيط به أرواح الشياطين من كل جانب، وتدفَعه إلى اقترافِ ذنبٍ مُروِّع بتدمير بيتٍ صغير يسكنُه عجوزان آمنان (فيلمون وباوكيس) لمجرد أنه يُعطِّل مشروعاته العمرانية؟ وهل هناك دليلٌ على فظاعةِ مأساةِ هذه النفس التي لا تمَل السعيَ والجهاد والخطأ، من أن «الهَمَّ» يُطفئ نور عينَيه في النهاية بينما هو يُشرِف على حَفْر قناةٍ ولا يعلمُ أن الأرواح تَحفِر قبره؟
إن النفسَين لا تزالان تتصارعان في صدره؛ إحداهما تتشبَّث بالعالم في لذة الحب العارمة والأخرى ترتفع في شوقٍ لا يَشبَع إلى نعيم الجدود الأعلين. كل شيءٍ يدُل على أن فاوست لا يزال يتطلَّع إلى اللامحدود فيصدمُه وجوده المحدود. صحيحٌ أن نفسه قد ازدادت عمقًا وبصيرةً ورحابةَ أُفق، ولكن مأساتها ازدادت كذلك حدَّةً وقسوةً ووضوحًا. إن العجوز الذي يُريد الآن أن يستعمر الأرض ويبني حياةً مثالية «لشعبٍ حُر على أرضٍ حُرة» لا يتورَّع عن التسبُّب في تدمير عالمٍ مثاليٍّ صغير، وتحطيم كوخٍ مُسالمٍ يسكُنه عجوزان على حافة القبر، والمشروع الضخم الذي يُقدِم عليه بانتزاع الأرض من البحرِ لتعميرها لصالح المجموع يقوم على قرصنة ثلاثةٍ من أتباع الشيطان الأقوياء. فاوست لا يزال يبحث عن لحظةٍ سعيدةٍ خالدة يستطيع أن يقول لها: «تريثي قليلًا فما أجملَك!» ولكنه يسعى إليها بوسائل السحر والشر، ويزيدها بعدًا عنه في كل لحظة. هذا الهدف الأخير الذي يسعى إليه فاوست تعبيرٌ عن سعي الإنسان الذي لا يمكن أن يصلَ إلى الهدف الأخير؛ لأن الإنسان قد كُتِب عليه أن يعيش في تناقُضٍ متصل بين شوقه غير المحدود وبين قدرته المحدودة.
هذه اللحظة السامية الخالدة التي ظل طول حياته يسعى إليها ويقَع في سبيلها فيما لا نهاية له من الأخطاء والذنوب ينظُر إليها مفيستو نظرةً ساخرةً ويُسمِّيها «اللحظة الأخيرة، الرديئة، الفارغة». إنها في رأيه قد تحمل للإنسان متعةً مؤقَّتة، ولكنها في النهاية دليلٌ على انخداعِه بالأوهام.
حقًّا إن فاوست الذي يفاجئه الموت مختلفٌ كلَّ الاختلاف عن فاوست الذي عقَد الحِلف مع الشيطان، ولكن جوهر مأساته لم يتغير؛ فالصراع لا يزال يدُور بين نَفسَيه، والرغبة الشيطانية غير المحدودة لا تزال تصطدم بالقدرة البشرية العاجزة، والبحث المُخلِص عن الله (فهو لا يزال عبد الرب كما قال عنه الإله العجوز!) تُضلُّه الشهوة العارمة، وتُوقِعه على الدوام تحت سَطْوة الشيطان. كُتِب عليه أن يُخطئ ما دام يُواصِل السعي، وكُتِب عليه أن يحمل تناقُض الوجود، ما دام يخدمُ الرب والشيطان، ويُحاوِل أن يُرضي الجسد والروح في آنٍ واحد.
إن مأساتَه إذن هي مأساة الإنسان نفسه، الذي يعيش في تناقُضٍ مُستمرٍّ بين الحِس وما فوق الحِس، والأرض والسماء، والنعيم والشقاء، والمحدود وغير المحدود، واليأس من الحياة والإيمان بالحياة، والقرب من الله والبعد عنه، وإن كانت مأساتُه تزدادُ مع كل تجربةٍ عُمقًا وتطرُّفًا؛ فكل معرفةٍ جديدةٍ يَكتسبُها لتقرُّبه من الحقيقة تزيدُه عنها بعدًا، وكل قوة أو سلطان يبلغه عن طريق السحر يزيده وحدة وانفرادًا، وكل متعةٍ يُجربها تُباعِد بينَه وبين «اللحظة الخصبة الخالدة».
كان فاوست قد وعَد الشيطان عند توقيع الحِلف معه أنه إن قال ذات يومٍ للحظةٍ تَريَّثي قليلًا فما أجملَكِ فإن ساعتَه تكون قد انتهَت وله أن يَقبضَ رُوحَه كما يشاء. وقد ظن مراتٍ عديدةً أن هذه اللحظة قد جاءت، ولكنه كان ظنًّا فحَسْب، سرعان ما أكَّده الذنبُ والحسرةُ والندَم. لم تأت هذه اللحظة الفانية الخالدة أبدًا، لأنه لم يكُفَّ عن السعي والشوق والحياة؛ ولذلك استحق أن تمُد العناية يدَها فتجذبه إليها في النهاية، وتُوحِّد بين نفسَيه المتنازعتَين بالحب والحنان. هذه الوحدة الصوفية لا يمكن أن تتحقق إلا بالسعي المستمر؛ فالذي يسعى «هو وحده الذي يُكتب له الخلاص»، والذي يُكابِد ويشقَى ولا يتريث، هو وحده الذي يصل إلى لحظةٍ لن يحتاج أن يقول لها «تَريَّثي قليلًا!» لأنها ستكونُ هي لحظة الجمال والسعادة والخلود! وليس مصادفةً أن تقوم المرأة بهذا الدور فتُصبح هيلينا هي رمز بلوغ الإنسانِ مَرتبةَ الألوهية عن طريق الجمال، وجريتشن هي رمز خلاصه عن طريق الحب؛ ذلك لأن الأنوثة الخالدة، كما يقول آخر بيتٍ في المأساة، تجذبنا إليها على الدوام.
لقد اكتشف أن الفعل أيضًا له حدوده، وأنه لم يستطع أن يحُلَّ مشكلة حياته؛ لأنها لا تُحل من الخارج أبدًا، ولقد استطاع الحب والسحر والقوة أن تمنحه لحظاتٍ شَعَر فيها بالرضا والسعادة، ولكن هذه اللحظات لم تدُم؛ ولذلك فلم تستطع أن تُحقِّق حلمه في اللحظة الخصبة الكاملة؛ ذلك أنه كان يخرج من كل تجربةٍ مر بها — سواء كان ذلك في المونولوج الأول الذي عبَّر فيه عن ضيقه بحياته أو في حديثه الأخير الذي توهَّم فيه أنه وصل إلى أسمى لحظاتِ حياته — بحقيقةٍ تُلازمه على كل مراحل الطريق؛ تلك هي فَناء الحياة وقصورها وتناهيها؛ ولذلك فلم يضعف إحساسُه بالألم الكوني، بل ازداد مع كل تجربة ألمًا، وبقِيَت الحياة كما كانت مشكلةً لا تحل!
كانت تلك آخر كلماتٍ خرجت من فم فاوست. لقد ظن أنه يستشعر مقدمًا طعم اللحظة السامية، بل أسمى اللحظات جميعًا، ولكنه كان مجرد ظنٍّ فحَسْب، جال في خاطره وهو على عتبة الموت، فلم تستطع قوة أن تضع حدًّا لشوقه إلى الحياة، ولم يستطع شيءٌ غير لحظة الموت أن يهَبه اللحظة الأخيرة التي يتريث فيها، ولولا أن الموت عاجله لأحسَّ من جديدٍ بخيبة الأمل في الفعل، ولَعَرف أنه لن يستطيع أن يمنحه كلَّ ما كان ينتظره منه.
إنه ينتهي راضيًا مطمئنًّا، فيُخيِّل له الوَهْم والعمى أنه يُشرِفُ على حَفْر قناةٍ تُفيد الشعب الحر، بينما هو يُشرِف على حَفْر قَبْرٍ يضُم جسَده العجوز الفاني. وإذا كانت تجاربه الكثيرة لم تُفلح في إشباع روحه فإنها لم تنجح كذلك في أن تجعلَه إلى اليأس أو خيبة الأمل، ومع ذلك فلعلَّها قد أفلحَت في أن تخلُق لديه ذلك الرضا الوحيد الذي لا يأتينا إلا من الباطن، ويَهبُنا الإيمان بالحياة في مجموعها، والثقة بأن أيامنا التي قضَيناها في البحث والشوق والاجتهاد لا يُمكِن أن تضيع في خضم الزمان؛ ومن ثَم فقد استطاع أخيرًا أن يجد أو يُوهِم نفسَه بأنه وجَد تلك اللحظة التي يحِقُّ له أن يقول لها: تريثي قليلًا فما أجملك!
ولكنَّها ليست لحظةً دائمة — ولعل هذا التناقُض في التعبير قد اتضَح الآن! — بل لحظة تفرض على الإنسان أن يقتحمَها ويغزُوَها في كل مرة، وتَضطَرُّه أن يَهتِفَ بها كل حين: تريثي قليلًا! وإن كانت لا تَتريَّث أبدًا!