انتظر فسوف تستريح
في القصيدة الأولى يُعبِّر الشاعر عن شَوقِه إلى الراحة والهدوء، في عالمٍ تلفُّه السكينة والسلام. إنه لم يصل إلى هذا الهدوء بعدُ، ولكنه يتهيأ له في ثقة، وينتظره في اطمئنان، وبناء القصيدة نفسه يُعبِّر عن هذا الهدوء، ويعكس التجانُس الكامل بين التكوين اللغوي وبين حركة الإيقاع في الطبيعة. ليس هناك انفصالٌ أو تنافُر بين إحساس الشاعر الذاتي وبين حالة الطبيعة الموضوعية بل توازُنٌ كامل بين الرؤية الكونية وبين الإحساس الكوني. إن «الأنا» لا تُطِل برأسها لحظةً واحدة، ولا تُفسِد الانسجام الشامل السعيد. إنها تشعُر بنفسها كما لو كانت قاربًا صغيرًا يتهَدْهد على سطح البحر الكبير، وتتحد مع العالم المحيط بها فلا تعود تقول له «أنا» و«أنت»، والشاعر نفسه يخاطبها بقوله «أنتِ»، كما خاطب العالم الكبير من قبل وقال له «أنتَ». ما من صراعٍ أو تضادٍّ تُحاول القصيدة أن تُعبِّر عنه، بل استسلامٌ وديع وانتظارٌ هادئ، واطمئنان إلى أن النفس التي لم تتخلص بعدُ من عذابها ستستريح يومًا من الأيام على صدر الأم الكبيرة.
القصيدتان المذكورتان مرتبطتان ارتباطًا وثيقًا بحياة جوته. لقد كتبهَما في أوائل عهده بالإقامة في بلاط «فيمار»، بين عامَيْ ١٧٨٠م، ١٧٨٦م، في منتصف الطريق بين شبابه في فرانكفورت وبين رحلته الشهيرة إلى إيطاليا. كلا القصيدتَين يصل إلى الصياغة العبقرية ويُمثِّل ذروة شاعرية يعجز كل تفسيرٍ نثري عن التعبير عنها، وكلا القصيدتين يُعبِّر بالمقطع الواحد المُركَّز والنغْمة الباطنية الحرة عن الطابع المميز لأعظم قصائد جوته؛ فهما شخصيتان إلى أبعدِ حد، كما أنهما عامتان إلى أبعدِ حَدٍّ أيضًا. إنهما تُصوِّران موقفًا شخصيًّا مَرَّ به الشاعر في قمةِ نُضجِه الكلاسيكي. كان وجدانه في ذلك الحين مسرحًا لألوان من الصراع تتطاحَن فيه، بينما كان عقله المتيقِّظ أبدًا قد حدَّد له الطريق وبيَّن له الهدف، ولكنَّ القصيدتَين تنطبقان كذلك على كل إنسان يجد نفسه في موقفٍ مشابه، حتى ليكاد يُحِسُّ أنهما قد كتبا له وحده، مثلما يُحِس الإنسان أمام كل عملٍ شِعريٍّ حق.
كان جوته في السابعة والعشرين من عُمره حين ابتهَل إلى السلام أن يلمس صدره: «يا أيها السلام الحلو. تعال، آه تعال إلى صدري!» وكان في الثانية والثلاثين من عمره حين راح يناجي نفسه التي ما زالت تبحث عن السلام: «انتظر فحَسْب. أنت أيضًا سوف تستريح.»
نقول إنهما تعبيرٌ طبيعي، ولكنَّنا لا نستطيع أن نُنكِر سِحر اللغز المُحيِّر فيهما، والذي يجعلنا نسأل أنفسنا كيف استطاع الشاعر بهذا المضمون البسيط، في هذا الشكل المُوجَز، أن يبعَث من قصيدتَيه كل هذا الإشعاع الشعري الباهر، ويُؤثِّر فينا كل هذا التأثير؟ إن دقَّة البناء اللغوي، وسِحْر النغم الشعري، ووَحْدة الحركة الإيقاعية في اللغة وفي الطبيعة؛ كل هذا قد يُساعِدنا على الإحساس بالقصيدتَين ولكنه لن يُقرِّبنا من الحقيقة الشاملة التي تكمُن في القصيدة الأُولى بوجهٍ خاص. هذه الحقيقة لا بد لنا أن نبحث عنها في الجو النفسي والعقلي، في عالم الخيال والشعور الذي تضعُنا فيه، ويتجاوز بنا كلَّ ما تنقلُه إلينا الكلمات.
قلنا إن القصيدتين تُعبِّران عن موقفٍ إنساني عام، ولكن هذا لا يعني أنه موقفٌ عادي بل الأَوْلى أن يُقال إنهما ترتفعان بنا فوق كلِّ ما هو عاديٌّ ومألوف ارتفاعًا لا يصل إليه الإنسان إلا بمقدارِ ما يكون إنسانًا بحق. إنهما صلواتٌ يعلو بها الإنسان فوق الحياة، في طريقه إلى «الكل» أو «الواحد» أو «الله» أو ما شئتَ له من أسماء، ولكن صلوات جوته صلواتٌ عالمية أو أرضية إن صح هذا التعبير، صلواتُ مؤمنٍ بالعالم والأرض التي يرى فيها مجلَى الفعل الأبدي الخلاق. هي صلواتٌ دينية، وإن لم ترتبط بدينٍ معين، يُعبِّر فيها الشاعر عن تقوى المؤمن الذي جعل من الأرض مَعبَده، ومن وحدة الوجود الشاملة عقيدته. قد يكون ما يقوله في هذه القصيدة شيئًا أبسط من البساطة، شيئًا يُخيِّل إلينا أن في استطاعةِ كل إنسان أن يقوله، ولكن المعجزة هنا هي نفس المعجزة في كلِّ شِعرٍ حقيقي، وهي أنه يُعبِّر عما نشعُر به فحَسْب، ويَنطِق عما أَحسَّ به قلب الإنسان دائمًا دون أن يقوى على الإفصاح عنه. انتظر فحَسْب. أنت أيضًا سوف تستريح! من منا لا يقولها لنفسه حين يعزُّ العَزاء، ومَن منا لا ينتظر من الشاعر أن يقولها له؟ ومَن عسى أن يقولها له سواه؟
كانت هذه هي تجربة جوته الكونية، جمع فيها حكمته المُؤثِّرة النبيلة، وعَبَّر فيها وهو في شبابه عن موقفه الذي لم يتغير في شيخوخته، فإذا تصوَّرنا شاعرًا حديثًا يستعير هذه الأبيات نفسها ليُعبِّر عن موقفه من الحياة والكون والإنسان فكيف يا تُرى تبدو هذه القصيدة؟
١
٢
٣
٤
٥
٦
٧
٨
٩
١٠
١١
١٢
١٣
١٤
١٥
١٦
١٧
١٨
١٩
٢٠
٢١
٢٢
٢٣
٢٤
٢٥
٢٦
٢٧
٢٨
٢٩
٣٠
٣١
٣٢
٣٣
٣٤
٣٥
٣٦
٣٧
٣٨
٣٩
٤٠
٤١
ماذا فعل برخت بقصيدة جوته؟
إنه لم يُغيِّر من ترتيب أبياتها فحسب، بل غيَّر ذلك من مضمونها، ووضعها داخل إطار قصةٍ درامية تتطور تطورًا ديالكتيكيًّا يسخر من واقعٍ اجتماعي، ويحُضُّ على الدهشة منه، والثورة عليه؛ فهناك العجوز التي تبدو من بعيد وهي تتقدم في الغابة، عجوزٌ خائفة، لم يَبقَ لديها من الخبز ما تأكله؛ فقد اغتصَبه منها الجنود، وتسقط في بالوعة البؤس والنسيان فلا تعود تُحِس بأثَرٍ للجوع، وعندها تسكُت الطبيعة التي لا تكترث بأحد، وتصمتُ الطيور في الغابة، ويسود على أعالي الشجر هدوء، ويُخيِّم فوق كل القِمم سكونٌ لا تُحِس معه نسمةً واحدة، ويأتي الطبيب فيُقرِّر أنها ماتت، ويصمت صمت العاجز عن تغيير شيء، وتصمتُ معه الطيور في الغابة، ويعود الهدوء إلى أعالي الشجر، والسكون إلى قمم الجبال. ويأتي ذات يومٍ رجل كان يعد نفسه صديقًا للعجوز (ربما لأنه واحد من طبقتها) يُحِس بأن في المسألة شيئًا على غير ما يُرام، وأن من حق الإنسان أن يجد ما يأكله، ولكنه يأتي وحده، والوحيد لا يملك أن يُغيِّر من نظام الكون شيئًا، وتصمتُ الطيور في الغابة، ويمُد السكون ظلَّه على القمم، وتَحبِس الرياح أنفاسها على ذُرى الأشجار. ويتحد ثلاثة رجال في إحساسهم بالظلم، ويقولون: ليست القضية قضية إنسانٍ واحد بمفرده؛ لأن ما حدث للعجوز يمكن أن يحدث لنا أيضًا. ولكنهم لم يكونوا يملكون غير الكلام، وثَرثَروا لحظة ورفعوا أصواتهم بالاحتجاج، ثم جاء رجال البوليس فأسكتوهم إلى الأبد عن الكلام، وربما انتبهَت الطيور الصغيرة لحظة ولكنها عادت إلى السكون، وبقي الهدوء يُرفرِف على أعالي الشجر وفوق قمم الجبال. وانتقل السخط إلى عددٍ أكبر من الرجال، أرادوا أن يتكلموا مع الجنود فرَدَّ عليهم هؤلاء بالرصاص، وسكَت الرجال أيضًا عن الكلام، وسقَطوا على الأرض ﺑ «تجعيدة» فوق الجباه، وبَقِيَت الطيور صامتة في الغابة، والهدوء منتشرًا على قمم الجبال؛ فلم يكن في مقدور الرجال أن يهزُّوا بثورتهم الطيور والأشجار والجبال؛ إذ لا يثير الطبيعة إلا ثورةٌ لا تقِل عنها قوة، ولا يُزلزِلها من جمودها القديم غير زلزالٍ بشري عظيم. وما دام الناس عاجزين عن تغيير نظام بنظام، وما داموا لا يملكون لتبديد الظلم والظلام غير الهتاف والكلام، فليتقدم إذن وحشٌ عظيم من بعيد، وحشٌ لا يعرف شيئًا عن عادات الناس وتقاليدهم ولا هو في حاجةٍ إلى معرفتها، وليلتَهِم الطيور الصغيرة كما يحلو له، عندها لن تسكُت الطيور الصغيرة في الغابة، ولن يستمر الهدوء على أعالي الشجر، بل ستسمع الضجيج فوق كل القمم، وستُحس بالأنفاس تَضطرِب في كل مكان.
ذلك هو الفرق بين الشاعر العميق ذي النظرة الكونية الشاملة، الذي يرى الكمال كله في فَناء الواحد في الكل، وبين الشاعر الثائر الذي يدعو إلى تغيير الكل عن طريق فهم الواقع والكشف عن متناقضاته والتمرُّد المشترك عليه. في القصيدة الأُولى حركةٌ باطنية تُصوِّر استسلام الفرد لأحضان الكل الكبير، وفي القصيدة الثانية حركةٌ تُعبِّر عن تضامُن الفرد مع المجموع، وتُصوِّر ثورة المظلومين التي تشبُّ وتَكبَر شيئًا فشيئًا كعمود النار حتى تصبح طبيعةً ثانية تُخرج الطبيعة نفسها عن جمودها الأبدي وتُجبِرها على تغيير نظامها الخالد إلى حد المشاركة في آلام الإنسان. إن الشاعر هنا ينتزعُ القارئ من موقف التلقِّي السلبي، ويُفزِعه من مَلجئِه الأمين، ويبعث فيه الخجل من نفسه أمام ثورة العصافير!