جانيميد
في هذه القصيدة التي يُحتمَل أن تكون قد كُتِبَت في أوائل عام ١٧٧٤م، يُهيبُ جوته بصورة ذلك الغلام الجميل الذي تتحدث عنه الأسطورة اليونانية، والذي فُتن به زيوس كبير الآلهة فأرسل إليه نسرًا خطَفه من على الأرض وجاء به إلى الأوليمب ليكون ساقِيَه، أو لعله كما تقول روايةٌ أخرى قد تجسَّد هو نفسه في صورة ذلك النسر.
القصيدة تتحدث عن العاشق السعيد، وتُمثِّله نموذجًا للإنسان الذي اختارَتْه الآلهة ليقيم بينها، وهي تتحدث كذلك عن الربيع، الزمن القصير في عمر الأرض، حيث يتفتَّح الوجدان، وتتألَّق الورود، ويُسمَع صوت البلبل وهو يُنادي من وادي الضباب. الدفء يسري في كيان الطبيعة، والدفء يمَسُّ كيان الإنسان، وفي ألَق الصباح أو في احمرار الغسَق كما تقول النسخة القديمة التي عدل عنها الشاعر فيما بعدُ — يشتعل وهَج الحب ويغمُر الغلام بنورٍ كونيٍّ مخيف. هذا الوهج لا يمَسُّ الغلام وحده، ولا يضيء كائناتٍ مفردة، بل يُشعِل قلبه الذي اتحد بقلب الوجود؛ فالسماء الشاسعة تفتح صدرها وتكشف عن «حياتها الباطنة المقدسة»، واللامحدود يُنادي جانيميد المحبوب، كما يستجيب جانيميد لدعوة الحبيب.
المحبوبان يتحدان في نشوة الصعود إلى الأب الرحيم، وفي عناق الأب الرحيم للابن المشتاق. وتسكُت اللغة لتترك الوجدان يقول ما لا يُعبِّر عنه الكلام.
والسحب تنعطف إليه، كأن الشوق الذي يحرقه قد أشعل أطرافها. الوحدة التي يتحدث عنها الصوفية والفَناء الذي كابدوا من أجله يكاد يتحقق. غير أن الذات ما زالت تؤكد نفسها: إليَّ إليَّ! والإرادة ما زالت تسأل عن الطريق: إلى أين؟ آه! إلى أين؟ وهي حين يضمها الحب الأزلي لا تفنى ولا تستسلم بل تفنى وتؤكد نفسها في وقتٍ واحد، وترسم الدائرة المقدسة التي تجمع الحبيبَين بغير أن تُذيب أحدهما في الآخر. «معانقًا» معانقًا! مطوقًا مطوقًا، وما أنبلَ الأخذ والعطاء، وما أروعَ السلب مع الإيجاب!
صعود إلى غير المحدود، يتم مرحلة بعد مرحلة، عرف الشاعر كيف يقيسها ويُقدِّر مُدَّتَها، ويُوجِّهها إلى هدفها الأخير الذي ندركه في لحظة التحقيق والوصال: «الأب الرحيم المحبوب.» ذلك هو الشاطئ الذي حملَته إليه أمواج الشعور، وجانيميد كان في حاجة إلى الربيع ليمضي في رحلته المقدسة، والربيع أيضًا كان في حاجة إلى جانيميد ليعانقه ويسري به إلى المحبوب، والورود، والعشب، وريح الصباح، وصوت البلبل، والدفء الخالد المقدس، كانت هي الزاد الذي لا يستغني عنه المسافر المشتاق؛ لأن الصعود إلى السماء لا بد أن يمر أولًا بالأرض، والارتفاع إلى القمة لا بد أن يبدأ من وادي الضباب، كم يبدأ الاتحاد بقلب الوجود من قلب الإنسان، والأزَل والخلود من اللحظة الحاضرة.
معانقًا معانقًا؛ تلك هي الصيغة الموجَزة التي عثَر عليها جانيميد، في لحظةِ إشراقٍ لا مثيل له. لقد وجد هذا التعبير الذي يصور استسلامه وإرادته، وفَناءه وذاتيته، وكان التعبير المفاجئ المدهش القصير، الذي وُلِد من اللحظة المفاجئة المدهشة القصيرة؛ هذه اللحظة هي التي خلقَت الكلمة كما خلقَت مضمونها، كما أن الكلمة هي التي أوجدَتْها وكثَّفَت الإحساس بها.
ذلك أن الشاعر يُجرِّب اللغة هنا، كما يُجرِّب العاشقُ الطبيعةَ انفعالًا وفعلًا، وتلقيًا وعطاءً. وإذا كنا نُسلِّم بأن لكل شاعرٍ لغته الخاصة التي تُولَد في لحظة التجربة وتكون بنت الإحساس فلا بد أن نُسلِّم أيضًا بأن اللغة هي التي تخلُق عالم الموضوعات، وهي التي تُكوِّنه وتبُثُّ فيه الحياة، وأن اللغة والحياة، والكلمة والطبيعة، لا يمكن أن تنفصل عن بعضها البعض. وما دامت الصفة الأساسية للشعر الغنائي أنه شِعرٌ وجداني ينبع من الباطن، فلم يكن من المستطاع أن يقع الشاعر على تعبيرٍ يكشف عن هذا الوجدان الباطن، ويُصوِّر إحساس الحب الذي يُوحِّد بين قلب الإنسان وبين قلب الطبيعة الشاملة مثل هذا التعبير الموجز المفاجئ: معانقًا معانقًا حيث يمتزج الداخل والخارج، والإنسان والكون، والقلب والوجود، ويحتفظ كلٌّ منهما مع ذلك باستقلاله وتفرده! هنا يلتقي الإنسان والكون في نقطة المركز، كما تتلاقى اللغة مع الخليقة في تعبيرٍ واحد.
وكما أن اللغة قصيرة ومفاجئة فكذلك اللحظة التي أنجبَتْها كانت قصيرة ومفاجئة؛ ومن ثَمَّ تجلَّى الإحساس الفريد بأن الإنسان، ممثلًا في العاشق النشوان نموذجه الأسمى، قد جاء يعانق الكون الذي فتح ذراعَيه ليضمه على صدره، مثلما فتح زيوس ذراعَيه ليعانق جانيميد الذي جاء أيضًا يعانقه بكل ما يملك من طاقة الحب. مثل هذه اللغة التي يجدها عندئذٍ، حين يصل إلى الهدف في النهاية «أيها الإله المحب الحنون.» لا يمكن أن تكون قد وُجِدَت من قبلُ كما تُوجَد الطبيعة بل لا بد أن تكون قد نشأت في لحظة الخلق، أو في لحظة الكلام، ولم تلجأ إلى اللغة لتأخذ منها كما لو كانت مخزنًا للكلمات مُعدًّا لكل من يمد إليه يدَيه! ولذلك لم تكن هذه القصيدة ولا كان شعر جوته، وبوجهٍ خاصٍّ شِعره الغنائي المبكر الذي ألَّفه وهو يعيش في فرانكفورت واشتراسبورج شِعر العقل بل شِعر القلب، أو كان الشعر الذي يأتي من القلب ويتجه إلى القلب؛ ذلك لأن ما يُؤثِّر على القلوب ينبغي أن يأتي من القلوب، كما يقول بيتٌ مشهور في «فاوست».
•••
في هذه الأبيات الحرة المجردة من القافية تُسجِّل الذات مناجاتها للربيع، كما يُعبِّر إحساسها بجماله الفائق وقوته المتفجرة عن تجربتها بالإله، وهذا الإله ينادي من جانبه على الذات، وينعطف نحوها من عليائه، ويلفُّها في سحابة من سحبه، ويرفعها في حنانٍ إلى سمائه.
فالذات البشرية تُعبِّر إذن عن اتحادها بالذات الإلهية، وانطلاقها من أَسْر التفرد إلى شمول الوحدة، كما تُعبِّر عن حركةٍ تسير في اتجاهَين؛ يصعد أحدهما من الأنا إلى الإله أو الطبيعة (لنلاحظ هذه الصيغة المعبرة عن فلسفة اسبينوزا التي تأثَّر بها جوته كل التأثُّر)! كما يهبط الآخر من الإله أو الطبيعة إلى الأنا البشرية. لن يخفى علينا أن الاندفاع من جانب الأنا يغلب في قوته الانعطاف من جانب الروح الإلهي. غير أن الحركتَين معًا — وذلك ما يُميِّز القصيدة في بنائها الفريد — تصلان إلى الذروة في البيت الثالث من المقطوعة الأخيرة، أعني في هذه الصيغة الموجزة المعجزة: معانقًا معانقًا.
وليس الفارق بين الكلمتَين مجرد فارقٍ في زيادة حرفٍ أو نقصانه ولكنَّه فارق في المعنى والمفهوم، يجعله يتحوَّل من حالة الايجاب في معانقة الإله إلى حالة السلب والاستسلام لهذا العناق من جانب الذات. ومع ذلك فالحالتان متَّصلتان ببعضهما أوثقَ اتصال، حتى لنستطيع أن نقول إنهما جانبان لحالةٍ واحدة، هي حالة الاتحاد بين «الأنا» البشرية و«الأنت» الإلهية في عناقهما الأخير.
لعل هاتَين الكلمتَين اللتَين وقفنا عندهما فأطَلْنا الوقوف أن تكونا خيرَ تعبيرٍ عن موقف جوته من العالم، وعن حكمته وتجربته التي لم تكد تتغيَّر بالكون والله والطبيعة.
•••
إن بروميثيوس، هذا اللص العظيم الذي تقول الأساطير اليونانية إنه سرق النار التي احتفَظ بها الآلهة ليعطيها للبشر، فأمر زيوس أن يُقيَّد بالسلاسل على جبل القوقاز وتنهَش جوارح الطير كبده فلا يحيى ولا يموت، هذا الثائر العظيم الذي تقول عنه الأساطير كذلك إنه كان يخلق بشرًا من الطين وينفخ فيها الروح، يتحدَّث هنا بنفسه، ولكن حديثًا يبدأ متحديًا وينتهي متحديًا. ألا تبدأ القصيدة بأمر يوجهه إلى زيوس؟ ألا تنتهي بلفظة «أنا»؟ ألا يواجه كبير الآلهة ويقف منه موقف العناد والكبرياء؟ ألا تكشف وَحْدته عن قُوَّته؟ صحيحٌ أنه ما زال يخضع لبعض الآلهة التي يخضع لها سكان الأوليمب، وأعني بها القدَر الأزلي (مويرا) والزمن الجبار (خرونوس)، ولكن هذا لا يمنعه من أن يقف وحيدًا غاضبًا محتقرًا! وكأنه رمز أسطوريٌّ للعبقري الذي يعتز بقُدرته على الخلق ويعتقد أن هذه القدرة تُؤهِّله — وهو في الأسطورة نصف إله ومن سلالة العمالقة — لأن يقيس نفسه بالآلهة، لا بل أن يتحدى كبيرهم وجهًا لوجه! وليس هناك ما يفوق ذلك في الإحساس بالقوة والعناد وتضخُّم الذات. لقد كان العبقري الشابُّ يُحِسُّ بذاته وحدها، ولم يكن قد استطاع بعد أن يخرج عن هذه الذات ليرقى معها إلى الاتحاد بالكل؛ ولذلك فقد كان من الضروري أن تأتي قصيدة جانيميد، وهي انطلاقٌ خالص، على أثَر بروميثيوس، لتُوحِّد بين طرَفَي الشعور الديني الكامل. وليس من المستغرب بعد ذلك أن يشعُر جوته في مستقبل حياته بشيء من الضيق كلما ذُكِرَت أمامه قصيدة بروميثيوس أو وقَع عليها بصره، وأن يجمع دائمًا بينها وبين «جانيميد» في كل طبعات أشعاره. وليس بمستبعدٍ أيضًا ما يُقال من أنه لم ينشرها بنفسه، بل نشرها أحد أصدقائه (وهو الفيلسوف ياكوبي) في عام ١٧٨٠م؛ أي بعد تاريخ تأليفها بست سنوات! مهما يكن من شيء فإن المقارنة بين القصيدتَين تفيدنا كثيرًا في فهم هذا الطريق الصاعد الذي يسير عليه جانيميد؛ ذلك أن هذا الطريق سيصبح هو طريق الشاعر نفسه، وستظل القوة الإلهية التي تضُم الذات وتحملها هي هدفه الأكبر والأخير.
لنُقارن الآن بين «جانيميد» وبين قصيدةٍ أخرى تتحدَّث فيها الذات عن فرحتها البريئة بالربيع، وتُعلِن عن سعادتها الفياضة بالحب. إنها قصيدة «أغنية مايو» التي كتَبها جوته في ربيع سنة ١٧٧١م؛ أي قبل كتابة جانيميد بثلاثِ سنوات، لا شك أنها لم تمُرَّ على الشاعر بغير أن تغير من نظرته وإحساسه.
أغنية مايو
•••
•••
•••
•••
•••
كتب جوته هذه القصيدة في شهر مايو سنة ١٧٧١م، في الفترة التي بدأ فيها يكتشف طريقه ويُحِسُّ أنه وجد كوخه كما كان يقول، وهو طريق القلب وكوخ الوجدان الهادئ العميق. إنه يعترف فيها بذلك الحب السعيد لتلك الفتاة (فريدريكة بريون) التي أسلم لها القلب واستحقَّت من الاحترام بقدر ما استحقت من الحب كما يقول في الكتاب العاشر من ذكريات حياته (شعر وحقيقة). أُحِسُّ بهذا الحب الذي سيظل يرعى حياته كلَّها مهما وجَد من تقلُّبات ومهما عانى من الضنى والعذاب.
ذلك أن نجمًا بزغ له في سماء «زيزنهيم» الريفية، نجم الحب لابنة القسيس الجميلة، ونجمة الشعر الذي يأتي من القلب فتلمَس نغمته العميقة كل القلوب كما ينفُذ رنينه الصادق في كل الأسماع.
ها هي ذي الأزهار تتفتَّح وتندفع من كل فرع، وآلاف الأصوات من كل غصن، ولحن المحبِّين يشارك فيه كل كائنٍ ذي إحساس. إنهم يعرفُون من يُشبِهونهم، ويسكنون إلى من يألفونهم، وهم يريدون كذلك أن يعرفهم هؤلاء الذين يُشبِهونهم ويشعرون بشعورهم. هكذا تُصبح «أغنية مايو» اعترافًا بالحاجة إلى الآخرين، ونداءً شعريًّا يقول لهم:
وتختفي الفوارق التي تُقيمها الملاحظة الموضوعية فيُصبح الشيء المُدرَك إحساسًا نفسيًّا، كما يصبح الإحساس النفسي شيئًا مدركًا؛ فالبهجة شمس، والأرض سعادة، وكلاهما يمكن أن يحل محل الآخر؛ فليس هنا شيء يخضع للتنسيق والتنظيم. إن العاشق يترنَّح في نشوة الحب من أبعد الأشياء إلى أقربها، ومن أعلاها إلى أدناها، واثقًا من أن الحب لن يتخلى عنه، مطمئنًّا إلى أن العالم كله لن يظهر فيه ما يزعجه؛ لأن حبه الخصب يفيض على كل صغيرٍ وكبير فيه، ويظل يطوف على هذه الحال من الأرض إلى السماء، ومن الحقل النديِّ إلى ذُرى القمم، ومن الزهور إلى سُحُب الصباح حتى يعرف باليقين ما خامره بالإحساس، أعني أن قلبه قد صار قطعةً من قلب الوجود الشامل الجميل.
كان لا بد للشاعر من أجل ذلك أن تختلف نظرته إلى الطبيعة؛ فهو لا يضع مشاهدَ منها واحدًا إلى جانب الآخر، بل تُصبح الطبيعة كلها وجدانًا باطنًا كما يصبح الوجدان الباطن «طبيعة»؛ فالسحب، والأغصان، والأزهار تصبح جزءًا حقيقيًّا من شعور الإنسان، أو تصبح مشاعر من مشاعره.
وكذلك الباطن يظهر والداخل يصب نفسه في الخارج؛ فالعاشق النشوان قد خرج عن ذاته، بحيث أصبحت ذاتُه قطعة من العالم كما أصبح العالم صورةً أخرى من ذاته. لنقل في أمر هذا الإحساس ما نشاء؛ فليست المسألة مهارة في تقليب العبارات على وجوهها.
إنما المهم أن الشاعر لا يملك إلا أن يقول إن قلبي هو قلب الوجود أو إن قلب الوجود هو قلبي. ولعل هذه التجربة هي الأصل والمنبع في كل شعره وفكره، بل هي الأصل والأساس الذي يقوم عليه ما يُسمِّيه النقاد والمؤرخون ﺑ «عصر جوته»، واللحن الأساسي الذي يعزف على الدوام مُتنوعاتٍ منه.
ومع ذلك فإن وصفنا لهذا الشعر بأنه «باطني» لا يصدُق على هذه القصيدة وحدها بل يصدُق على شعر جوته كله. إن الأزهار تبزغ من كل فرع، وآلاف الأصوات تتردد من كل غصن، والفرح والبهجة من كل صدر. الحب يطل من عين الفتاة، والحياة الباطنة في أعماق النبات والحيوان والإنسان تسيل وتتدفق، والقلب العاشق يُحسُّ بدبيب الحياة في كل حي، سواء أكان يزدهر فوق الأرض أم ينبض في جوفها.
لنذكُر هنا تلك الليلة التي وصفَها جوته في مذكرات حياته (شعر وحقيقة، الكتاب السابع عشر) في فترة من فترات حبه السعيد مع «ليلى»: «كانت حالةً من تلك الحالات التي تقول عنها الآية المقدسة: «أنا نائم، ولكن قلبي سهران.» الساعات المشرقة كانت شبيهة بالساعات المعتمة، ضوء النهار لم يستطع أن يطغى على نور الحب، والليل جعلَته العاطفة الناصعة نهارًا باهر الضياء.»
كنا قد قمنا بنزهة في المنطقة الفضاء تحت سماءٍ صافية النجوم، وبعد أن صحِبتُها هي ورفاقها كلًّا إلى باب بيته، ثم ودَّعتُها أخيرًا أحسستُ بقلة الرغبة في النوم حتى إنني لم أتردد في القيام بنزهةٍ أخرى، وسِرتُ على الطريق الريفي المؤدي إلى فرانكفورت تُراودني الرغبة في الاستسلام لأفكاري وآمالي، وجلستُ على أريكة، يُحيط بي هدوء الليل الشامل وترتفع فوقي سماءٌ ساطعة النجوم، ويُخالجني الإحساس بأنني أنتمي إليها كما أنتمي لنفسي.
بدا لي كأنني أُلاحظ صوتًا من الصعب تفسيره قريبًا مني كل القرب، لم يكن صوتَ حفيفِ شجر ولا خريرِ ماء، وأمعنتُ في الانتباه فاكتشفتُ أنه صوتٌ يأتي من باطن الأرض، ويصدُر عن دبيبِ حيواناتٍ صغيرة، ربما كانت قنافد أو خنافس، أو ما يمكن أن يقوم بهذا النشاط في مثل تلك الساعة.
سِرتُ بعد ذلك في اتجاه المدينة وبلغتُ جبل رودر حيث تعرفتُ على الدرجات الصاعدة إلى بساتين الكروم من مظهرها الجيري الأبيض. صَعِدتُ إلى هناك، وجلستُ على الأرض ورحتُ في النوم. ويضيف جوته قائلًا: إن النفوس المحبة ستَتلقَّى هذا الحادث بالسرور والارتياح.
ويعود الشاعر إلى مثل هذه الحادثة بعد سنواتٍ طويلة في روايته «الأنساب المختارة» حين يصف واحدًا من أشد المحبين عذابًا في أدبه ويقول على لسان بطلها إدوارد: «قال لنفسه إن الجدران والأقفال تفصل الآن بيننا، ولكن قلوبنا لا يفرق بينها شيء. لو أنها وقفت أمامي لألقت نفسها بين ذراعَيَّ ولألقيت نفسي بين ذراعَيها، وأي يقينٍ أحتاج إليه بعد هذا اليقين! كان كل شيء ساكنًا من حوله، لم تتحرك نسمةٌ واحدة، وبلغ السكون حدًّا جعله يسمع دبيب الكائنات الحية الصغيرة تحت الأرض، تلك الكائنات التي يستوي عندها الليل والنهار.»
أعماق الحياة الخفية تعلن عن نفسها للقلب الذي لا ينام، حين يغفُل عنها النائمون وتصمُّ آذان الغارقين في مشاغل الحياة وضجيج النهار، وتُصبح الكائنات الصغيرة الدائبة النشاط رمزًا للحياة الباطنة، النائية عن رتابة التعوُّد المألوف. وإذا كان الإنسان يخضع للزمن المتغير فيتعب ويشيخ، فإن قُدرته على الإنصات لقوَّة الخلق الأزلية، والاستماع لما يتحرك تحت الأرض أو يهمس في أعماق القلب، هي ضمان استمرار الحياة التي لا تفنَى ولا تنفَد. وهل هناك شيء يوحي للإنسان بمعنى الخلود مثل احساسه بأن القوة التي تكمُن في قلبه أو في قلب الكائنات قوةٌ واحدة؟ لقد ذاق العاشق الوحيد هذه السعادة النادرة في ليلةٍ لا تتكرر في عمر الزمان. إنه سيعود حتمًا إلى مشاغل الحياة وضجيج النهار، ولكن طعم هذه اللحظة لن يفارقه ما عاش، وسوف يُمكِنه بعد ذلك أن يمسك بالقلم ليكتب «أغنية مايو» كما يكتب غيرها من الأشعار، دون أن يفارق ذلك الجو الباطني الذي احتواه، وستُعلن هذه الحياة الباطنة عن نفسها في كل مرة فجأةً وعلى غير انتظار، على نحو، تتفتح اللوزة أو قل على نحوٍ ما تتفجر، وسينعكس هذا على اللغة كما يبدو في «أغنية مايو» فتصبح لغةً مفاجئة، تكتفي بأقل قدْرٍ ممكن من الروابط النحوية والعروضية، لا بل تكاد تستغنى عن فعل يكون، لتنتهي كما بدأَت في نشوة المفاجأة السعيدة؛ ذلك لأن الفرحة المفاجئة لا تعرف التمهُّل ولا التطور البطيء، ولأن كل لحظةٍ فيها قمةُ شعور وحماس، وكل إيقاع صورة عالمٍ كامل وحاضرٍ ومباشر.