صمت جوته
من الناس نتعلم الكلام ومن الآلهة الصمت.
بلوتارك
(من مقالته عن الهذر، الفصل الثامن، ضمن رسالة في الأخلاق.)
•••
«في المشاركة وحدها تكمن السعادة الحقة.»
١
كلمة قالها جوته في شيخوخته، وهل هناك من هو أحقُّ منه بقولها، وقد كانت حياته الخصبة
الطويلة التي قاربت على قرنٍ من الزمان شاهِدَ صدقٍ عليها؟ فكيف إذن نستطيع أن نُحدِّث
عن
صمته؟ بل كيف نذهب إلى أنه كان من أعظم الصامتين في هذه الدنيا؟
الرجل الذي استطاع أن يقول عن نفسه في شبابه إنه «حبيب الآلهة»، وأن يكتب إلى أمه
قائلًا
إن الآلهة لم تترك نعمةً لم تنعم بها عليه، كيف يجد اليأس من كل شيء والضيق بكل إنسان
طريقهما إلى نفسه؟ القلب الذي تفتَّح لكل التجارب، كيف استطاع أن يحجُب سره وراء ألف
ستار؟
والعين التي لم تشبع من مشاهدة هذا العالم — وكأنها عينُ إغريقيٍّ وُلِد في العصر الحديث
في
بلاد الشمال كما يقول شيللر في خطابه الشهير إلى جوته بمناسبة عيد ميلاده — كيف حدث لها
أن
تُغمِض الجفون لكيلا ترى شيئًا؟ وهذه الحياة التي اتجهَت بكلِّ ما فيها من حماس إلى الواقع
على اختلاف مظاهره وأشكاله، تريد أن تغترف من كل نبع، وتُفتِّش عن كل كنز، وتتحسَّس
بالعين
واليد كل ما على الأرض من معدنٍ أو حَجرٍ أو نبات، وأن تعرف مع ذلك حدودها فلا تتعدَّاها،
وتبقى على إجلالها لحقيقة الوجود وخشوعها أمام عظمته، كيف ننتظر من هذه الحياة أن تُقيم
من
حولها سورًا لا تتطفل إلى ما وراءه عينُ بشر، وتضِن بالتعبير عن ذاتها الحقيقية فلا تنطق
بكلمةٍ واحدة، وتُغلِّف مركز وجودها بالسر والصمت والخفاء؟
ليس معنى هذا أن العجوز الذي صقلَته التجارب، وزيَّن رأسَه تاجُ الحكمة هو وحده الذي
عرف
الصمت أو لجأ إليه كما يلجأ الإنسان إلى كلمته الأخيرة. إن الشباب الغارق في نشوة المجد
والشهرة — ولم يكَد يبلُغ السابعة والعشرين — المنهمك في حياة البلاط في أول عهده في
«فيمار»، بكلِّ ما فيها من مُتَع ومغامرات، ومن سخفٍ ورسميات، يمتدح حياة الصمت ويجد
فيها
صورةً من صور الوجود التي تعوَّد عليها وعاش فيها: «إنني أعيش دائمًا في العالم المجنون،
منطويًا على نفسي انطواءً شديدًا.»
٢ و«لن يستطيع مسافر أن يحكي لك شيئًا عن ظروفي الحقيقية، بل لن يستطيع ذلك أحدٌ
ممن يسكنون معي، لقد صمَّمتُ تصميمًا أكيدًا على ألا أُنصِت لشيءٍ مما يُقال عني.»
٣ إنه لا يكتفي، كما يقول في رسالةٍ له إلى حبيبته المشهورة شارلوته فون شتاين في
عام ١٧٧٨م، ﺑ «تحصين القلعة» التي يحرسُها منذ زمنٍ بعيد، بل يبدأ في تحصينِ «مدينة نفسه»:
«إن الآلهة تحفظ عليَّ الاتزان والصفاء على أكمل وجه، ولكن زهرة الثقة، والصراحة، والحب
المتفاني تذبُل يومًا بعد يوم. من قبلُ كانت نفسي كمدينةٍ تحيط بها أسوارٌ منخفضة، ومن
خلفها قلعةٌ على الجبل. الحصن قمتُ على حراسته، والمدينة تركتُها في السلام والحرب بغير
سلاح، لكنني بدأتُ الآن في تحصينها.»
٤ ويعود بعد عشرين عامًا فيلتقط هذه الصورة في رسالة له إلى صديقه شيللر:
«الأسوار التي أحطتُ بها وجودي ينبغي أن تُرفع الآن عدة أقدام.»
٥ قد تبدو هذه العبارة من رجل في الخمسين من عمره أمرًا لا يثير العجب، ولكن
التعبير المتصل عن الصمت على مدى عشرات السنين يجعلنا نرى جوته الشاعر الإنسان في ضوءٍ
جديد.
يقول في رسالةٍ له إلى صديقه لافاتر: «لقد باركني الله سرًّا وغمَرني بنعمه الوافرة؛
ذلك
لأن قدَري مستور عن الناس تمامًا، فليس في إمكانهم أن يَرَوا منه شيئًا أو يسمعوا عنه
شيئًا.»
٦
وفي رسالةٍ أخرى إلى فون كنيبل: «إنني أظل في صميمِ خطَطي ومقاصدي ومشروعاتي مخلصًا
مع
نفسي على نحوٍ تحيط به الأسرار، وهكذا أعود فأَعقِد خيوط حياتي الاجتماعية والسياسية
والأخلاقية والشعرية في عقدةٍ خفية.»
٧ هذا المقصد الذي ينبُع من صميم طبيعته، يجعله يجتهد في أن «يُخفي وجوده وأفعاله
وكتاباته عن الناس.»
٨ ويقتنع اقتناعًا لا شك فيه بأن الإنسان يسير في هذا العالم مجهولًا لا يعرف من
أين جاء ولا إلى أين يسير، فيحرص بقَدْر استطاعته على أن يُخفي اسمه عن الناس في أسفاره
القريبة والبعيدة:
٩ «لهذا فسوف أُوثِر دائمًا في حديثي مع الغرباء ومن لا أعرفهم معرفةً كاملة أن
اختار الموضوع الذي لا أهميةَ له أو التعبير الذي لا يدُل على شيء، وأن أضَع نفسي بذلك،
إن
جاز هذا القول، بين ذاتي وبين المظهر الذي يبدو مني.»
١٠ وبينما يستعد بلاط-فيمار ليحتفل بعيد ميلاده السبعين بتمثيل مسرحيته الشهيرة
«جوتس فون برلشنجن» نجده يهرب بنفسه بعيدًا عن هذا الاحتفال ويكتب إلى ولده الوحيد فيقول:
«لقد عُرِف عني من زمنٍ بعيد كما صرَّحتُ أكثر من مرة بأنني أَنفِر في الوقت الحاضر أشدَّ
النفور من كل اتصالٍ شخصي. نبه إلى هذا في أدب ولطف».
١١
وتُفاجئه أزمة الصمت فيُخرِس الكلمات التي تكاد تنطلق من بين شفتَيه: «أمضيتُ المساء
في
ملء صفحاتٍ عديدةٍ أصِف فيها حالتي، وفي صباح اليوم، حين جاء الرسول يُريد أن يأخذها،
لم
تُطاوِعني نفسي على إرسالها معه. إن أعباءنا الخفية وضعفَنا المستتر، وأحزانَنا الساكنة
لا
تبدو على الورق في مظهرٍ يسُر الخاطر.»
١٢ وهو يكتُب قبل ذلك بعامٍ إلى الناشر كوتا — وكان الأَمرُ يتعلَّق برأيه في
مسألةِ حريةِ الصحافة في النمسا: «كنتُ قد أعدَدتُ بالفعل مذكرةً تمهيدية، وأبديتُ موافقَتي
على المُقدِّمة وعلى القضية حين مدَّ شيطانٌ يده، لحُسن الحظ أو لسوئه، فأمسَكَ بكُمِّي
ونفَث فيَّ الشك في أن الوقت المناسب لم يحِن بعدُ للتدخُّل في الشئون العامة، وأوحى
إليَّ
أن الإنسان إنما يحيا حياةً طيبة، حين يحيا في الخفاء.»
١٣
هنا، كما يقول جوته، مفتاح الكثير من ألغاز حياته. حدث له قبل وفاته بعشرين عامًا
أن
قدَّمتَ له الأميرة سولمز-براونفلز نقشًا عجيبًا «يصلُح لأن يُوضع على قبره»، قالت فيه
فيما
قالته إن حاجته إلى النفاذ إلى صميم جوهر الناس والأشياء تفوق بكثيرٍ حاجتَه إلى التعبير
عن
أفكاره تعبيرًا شعريًّا. ورد جوته وقد أدهشَه هذا القولُ وتبيَّن له مبلغُ صوابه: «وتستطيع
صاحبة السمو أن تضيف: كما تفوقُ حاجته إلى التعبير عن نفسه بالحديث والرواية والتعليم
والسلوك. بذلك تحصُلين على مفتاح الكثير مما لا بد قد أشكَل على الناس فهمُه من شخصيتي
وحياتي.»
١٤ وهو قد كتب قبل ذلك باثنَي عشر عامًا إلى شيللر يقول: إنه قد حُرم من موهبة
التأثير على الناس عن طريق التعليم.
١٥
•••
كان جوته يرى كأنه «قوقعةٌ سحريةٌ طافيةٌ على الأمواج العجيبة.»
١٦ وينظُر إلى نفسه كما لو كان مُترهبًا وحيدًا، «يُنصِت من صومعَته إلى صوت البحر الهائج.»
١٧ لقد تعلَّم هذه الحقيقة التي لا يبرح يرددها «إننا وأشباهَنا لا نزدهر إلا في السكون.»
١٨
وتزداد به الوَحْدة قبل موته بعامَين فيقول لصديقه تسلتر إنه إنسانٌ وحيد، يُشبِه
الساحر
مرلين الذي تتحدَّث عنه الأسطورة ويُخرج من رِمْسِه المضيء بين الحين والحين صدًى هادئًا
متقطعًا يُسمَع من قريب ومن بعيد
١٩ «خير ما في الوجود هو السكون العميق.» تلك هي الحكمة التي يبدو كأن جوته يضع
فيها سِرَّ وجوده كله، حتى إنه لم يجد من يبُثُّه إياها خيرًا من مُذكِّراته الشخصية:
«خيرُ
ما في الوجود هو السكون العميق الذي أحيا فيه بعيدًا عن العالم وأنمو وأكسب ما لا يستطيع
أن
ينتزعه مني بالسيف والنار.»
٢٠
•••
من يُحب الصمت والخفاء هذا الحب يُصبِح الصمت عادةً لديه: «إنني أعيش في وحدة واغتراب
عن
العالم كله، يجعلني أخرس كالسمكة.»
٢١ إنه يكتب من روما وهو في رحلته الإيطالية الشهيرة إلى شارلوته فون شتاين فيقول:
«إن من يتعود على الصمت يصمت.»
٢٢ هذا الصمت الذي أصبح عادةً يستطيبها ويمتدحها يُذكِّرنا بحادثة يرويها للأمير
كارل أوجست عن «المعركة في فرنسا»؛ فقد حدث له أنه لم يستطع، أثناء الانسحاب من فرنسا،
أن
يتمالك نفسه حول إحدى الموائد المستديرة من الحديث عن الماضي، وأن يشكُو من كارثة الحرب
المحقَّقة وما أعقبها من بؤس وتعاسة، فقد نهض جاره، وكان جنرالًا في الجيش، فوجه إليه
الكلام في «صورة لا غبار عليها، وإن كانت مؤكَّدة.» ودعاه إن صح هذا القول إلى «النظام»؛
عندئذٍ نجد جوته يقول: «فأثنيت في السر على نفسي لأنني لم أقطع الصمت المعتاد على الفور.»
هذا الصمت المحمود الذي يُعبِّر عنه وهو في الأربعين من عمره — كان ذلك في عام ١٧٨٤م
٢٣ — يعود فيذكُره بعد أن بلغ الخامسة والسبعين: «لقد أقلعتُ عن الكلام عما يسميه
الناس بالحِكَم والأمثال، حتى إنها لم تعُد تخطُر لي على بال في محادثاتي التي تدور بين
أربعة أعيُن، ولم تعُد تعاودني في المجتمعات الودية الكبيرة أبدًا.»
٢٤ وحين بدأت الحبيبة شارلوته فون شتاين تُدير ظهرها للعاشق الهارب من مجتمع
البلاط في فيمار، ومن أرض الشمال الجادَّة المعتمة إلى أرض النور والجمال والروح الكلاسيكية
العريقة، نجده يكتب إليها من روما قائلًا: «لم تصلني حتى الآن رسالةٌ واحدة منك، حتى
ليغالبني الظن بأنك تتعمَّدين الصمت، أريد أن أحتمل هذا أيضًا وأن أفكِّر بيني وبين نفسي:
لقد ضربتُ أنا المثل على ذلك، لقد علَّمتُها كيف تصمت.»
٢٥
•••
هنا يُطِل علينا وجهٌ آخر من وجوه الصمت عند جوته، ملامحه عابسة، مُتعَبة، شقية؛
هذا
الصمت الكئيب المقدور الذي يرزَح بثقله على النفس كأنه لعنةٌ من لعنات الآلهة قد صَحِب
وجوده كله من شبابه إلى شيخوخته، كأنه ظلُّه الذي لا يفارقه. إنه يُلِمُّ به من حين إلى
حين
فيقطع ما بينه وبين الناس، ويردُّه إلى ذاته الوحيدة المغلقة على يأسها، ويُدهش الأصدقاء
الذين يفتقدون فيه الحكيم النهِم إلى كل تجربة، المتفتح لكل جديد، الذي جعل شعاره في
الحياة
أن «يفعل»، حتى أصبح «الفعل» عنوان حياته وعبقريته. وقد يمتد به هذا الصمت الإلهي الأليم
فيفيض القلق بأقرب أصدقائه إلى قلبه، تسلتر، ويقول له مشفقًا عليه: «إنني أتصوَّرك الآن
وقد
عاودك داؤك القديم، وحيدًا، غارقًا في أحزانك، تُهلِك نفسك بنفسك.»
٢٦
هذا الصمت الذي يتحدَّث عنه الصديق في قلق وإشفاق، ينِمُّ عن وجدانٍ مُعتمٍ مُنهارٍ
تكاد
تَتقطَّع الأسباب بينه وبين الله والعالم.
•••
إنه يكشف عن الوَحْدة والمرارة في قلب الحكيم الذي عَزفَت نفسه عن كل شيء. ها هو
ذا يكتب
قبل موته بشهورٍ قليلة إلى صديقه تسلتر
٢٧ «كثيرًا ما تحدوني الرغبة في تدوين النتائج الغريبة لفكرٍ ساكنٍ وحيد، ثم أعود
فأنصرف عن رغبتي، فلينظر في آخر الأمر كلُّ إنسان بنفسه، حين يدخل في علاقة مع غيره،
أن
يلتمس المعقول فلا يستغني عنه.» إنه لا يضيق بالكلام فحسب، بل إن يده لتَنفِر من أن تمسك
بالقلم، وهو الذي عَبَّر قبل ذلك بعشر سنوات عن المفارقة الكامنة في وجود الكاتب الصامت
في
هذه العبارة الجميلة: «هذا إذن هو أشدُّ ما يثير النفس في حياة الكاتب التي تكتنفها فيما
عدا ذلك الشكوك، وهو أن يُقابل أصدقاءه بالصمت بينما يستعد في نفس الوقت ليشترك معهم
في
حديثٍ مستفيضٍ يمتد إلى جهات العالم كلها.»
٢٨
العارف لا يتكلم. هذه الكلمة المأثورة عن الحكيم الصيني «لاوتسي» تُعبِّر عن حياةٍ
يُريد
صاحبها أن يقضيها ﺑ «غير ضجيج»
٢٩ بين التفكير والتأمل: «إنني واحدٌ من أولئك الذين يَودُّون أن يعيشوا في هدوء
وألا يستثيروا الشعب.»
٣٠ و«حين ألمس لديَّ الرغبة في الحديث عن كشفٍ نهائي يبدو كأن صورته تتشكَّل في
نفسي، فإنني أُحِسُّ عندئذٍ كما لو كنت أجد متعةً متزايدة في التأمل لنفسي، كما أُحِسُّ
أن
متعة التأمل من أجل الآخرين تتضاءل عندي شيئًا فشيئًا. إن الناس يعبثون بألغاز الحياة
ويضيقون بها، وقليلٌ منهم من يهتم بإيجاد حل لها. ولما كانوا جميعًا محقِّين في ذلك،
فإن
على الإنسان ألا يحاول تضليلهم.»
٣١ ثم يعود فيُكرِّر هذا المعنى في حديثٍ له مع تسلتر قبل موته بشهر ونصف حين
يقول:
«كلما وجَدَت الجماهير في الألفاظ والعبارات الطنانة متعةً تُشبِعها، كان على الإنسان
ألا
يعمل على تضليلها.»
٣٢
•••
قد يلمس القارئ في هاتين العبارتَين أثرًا للكبرياء والانطواء اللذين يلازمان الحكمة
والحكماء في كل زمان، وقد يشتم فيها رائحة الاحتقار للجماهير حين تسير معصوبة العقل
والعينَين وراء حنجرةٍ عالية. وليس في استطاعة أحد أن ينكر هذا، فكم أعلن جوته سخطه على
الجماهير حين تفلِت من كل زمام، وتُحاول بالعنف والدم والصراخ أن تُحطِّم كل نظام (وموقفه
الحذر المستريب من أحداث الثورة الفرنسية مثلٌ مشهورٌ على هذا)، ولكنه كان يعتقد دائمًا
أن
مثل هذه الفوضى ليست إلا عرضًا من شأنه أن يزول، لكي تتكامل «دائرة» النظام والتجانُس
الكوني من جديد. وليس في استطاعة أحد أن ينكر في مقابل هذا أن جوته — كما صرَّح عدة مراتٍ
في أحاديثه مع أكرمان — قد وهَب حياته كلها لتربية الشعب، وتهذيبه، وإبعاده عن الجمود
وضيق
الأفق. ومن الظلم بالطبع أن نُفسِّر صمته الجليل بأنه تعالٍ على الجماهير، كما أن من
الظلم
أيضًا أن نتطفل بالتفسير أو بغير التفسير على هذا الصمت المقدَّس الذي لا يستغني عنه
فنان.
وكم رحَّب جوته بأن يرتفع صوتٌ في وجه التصفيق والهُتاف الذي كثيرًا ما يبذله الجنس البشري
لأفعالٍ وأحداثٍ تؤدي به إلى الدمار!
٣٣
•••
لم يُغفِل جوته من حسابه أن الجمهور سيُسيء فهمه، وهذا بالفعل ما حدث له في أواخر
حياته؛
ومن ثَمَّ كانت هذه النغمة الساخرة الممتزجة بالمرارة في حديثه عنه، أو بالأحرى في امتناعه
عن هذا الحديث: «لو لم يكن لديَّ شيء أقوله إلا ما يُعجِب الناس لآثَرتُ الصمت المطبق!»
٣٤ «لا ينبغي على الإنسان أن يترخَّص مع الشعب.»
٣٥ ليس هناك إذن سبيلٌ للأخذ والردِّ بين الكاتب والجمهور، فالكاتب يعرف، ولا بد
له أن يعرف خيرًا منه ما ينفعه مما يضره: «ينبغي علينا في الحقيقة أن نعرف بوجهٍ عامٍّ
ما
يصلُح للشعب خيرًا مما يعرف هو نفسه. إن من حق السكان في مدينةٍ من المدن أن يطالبوا
بأن
تسيل الينابيع وبأن يكون لديهم من الماء ما يكفيهم، أما من أين يلتمسون هذا الماء فأمرٌ
يتعلق بصانع المواسير وحده. إن الجمهور السادر في غياهبه لا ينفك عن المطالبة بالماء
بعد
الماء، ولا يبرح يستبشع في الغالب أسخى الينابيع. علينا أن نتركَ ذلكَ على حاله، وأن
نَتذرَّع بالسكوت ونهتدي في أفعالنا بما نقتنع به.»
٣٦
•••
كان هذا الصمت في بعض الأحيان مجرد قناعٍ يحاول به جوته أن يحمي نفسه تارة من غرور
رجال
الدين وتحذلُقهم، وتارةً أخرى من لغو الجمهور فيما يعرف وما لا يعرف.
ولكنه كان كذلك في أحيان أخرى ذلك الصمت المُوحِش الذي يُقيم بينه وبين أحبَّائه وأقرب
أصدقائه إليه جدارًا كثيفًا، ويجعله يضِنُّ عليهم حتى بالإشارة إلى ما يتوصَّل إليه من
حقائق القلب والوجود.
•••
وليس من قبيل المصادفة أن يُوصي قبل موته بأن يُختَم بالشمع على المشاهد الأخيرة
من الجزء
الثاني من قصيدته الكونية الكبرى «فاوست»، وبألا ترى المخطوطةَ عينٌ حتى يُوارى التراب.
وكان أن حُرم معاصروه من أن يرفعوا عيونهم بالدهشة أو السؤال لينتظروا الجواب من بين
شَفتَي
الشاعر الحكيم على ألغاز هذه الأبيات المُتصوِّفة العميقة التي لم تزل تحير الناس في
تفسيرها جيلًا بعد جيل. ومن العجيب أن نجد الرجل الذي لم يبلُغ أحدٌ من التمكُّن من اللغة
مثل ما بلغ يتحدث عن قصور اللغة وعجزها عن التعبيرِ عما يريد. وما أكثَر ما وقفَت اللغة
حائلًا بينه وبين الكلام عما كان في استطاعته وما كان ينبغي عليه أن يقوله:
٣٧ «إن أفضل الآراء التي نقتنع بها لا يمكن التعبيرُ عنها بالكلمة. إن اللغة لم
تُعَدَّ لكل شيء.» كما يقول قبل موته بأسبوع واحد للجراف فون شترنبرج.
إن تجربة التعبير عن «انعكاسات العالم الخارجي المحيط به على عالمه الداخلي.»
٣٨ على هذا الحَرَم الذي لا يصحُّ أن تطأه قدم، تجعلُه يلزم الصمت. إنه يعلم الآن
تمام العلم أن عليه أن يُحيط نفسه ﺑ «دائرةٍ سحرية» وأنه لا يستطيع أن يعمل إلا في ظل
الوحدة المطلقة، وأن الكلام ليس هو وحده الذي «يُجفِّف ينابيعه الشعرية.»
٣٩ بل إن مجرد وجود من يُعزُّهم ويُقدِّرهم في بيته يُحدِث هذا الأثر. وخيرُ ما
علَّمَتْه التجربة، كلَّما صادفَته الصعوبات فعجز عن السيطرة على مادةِ عملٍ من أعماله
الفنية، أن ينتظر في سكون، وأن يُحاول بقَدْر طاقته ألا يكترث بالجمهور.
٤٠
•••
من المؤرخين والنقَّاد من لم يستطع إلى اليوم أن يغفر لجوته حرصه على البعد عن الجمهور،
وانعزاله عما يجري حوله من أحداث العالم. إنه يحكي عن نفسه أنه كان يتعمَّد، كلما تَهدَّد
العالمَ السياسي خطرٌ داهم، أن ينأى بنفسه عنه ويستغرق في درسٍ جادٍّ عميق. وبينما كانت
معركة ليبزج الحاسمة في عام ١٨١٣م على الأبواب كان هو مُنكبًّا على دراسة تاريخ دولة
الصين
دراسةً جادَّة!
٤١ بل إن قراءة الصحف اليومية أصبحَت تشُقُّ عليه: «أنت ترى — والكلام لصديقه
تسلتر — أنني لستُ في حاجةٍ إلى أن أشغَل نفسي بالصحُف اليومية، فإن الرموز المتناهية
في
الكمال تتحدَّث أمام عيني.»
٤٢
إنه يتحدَّث هنا عن مشهد الأشجار التي يقطَعها الفلاحون في الغابة ويتركونها تطفو
على
النهر! إنه لا يريد أن يعرف شيئًا ولا أن يسمع شيئًا عن ضجيج المجانين الذي ينبعث من
الصحف
اليومية والذي يُحِسُّ عند سماعه إحساس من «يتعلَّم أن ينام في الطاحونة.»
٤٣ بل أنه ليُؤثِر أقربَ أصدقائه إلى نفسه (تسلتر) ليُسِر إليه النبأ المدهش: «لقد
أقلعتُ، بعد قرارٍ حازم سريع، عن قراءة الصحف إقلاعًا تامًّا!»
٤٤
قد نتسرع فنقول: هروب من الزمن! ولكن علينا أولًا أن نتفق على مفهوم الزمن عند شاعرٍ
عظيم
يعرف عن نفسه أنه يخلُق لكل زمنٍ كما يعرف أن الشاعر الحق لا يُقيِّده زمان. ومهما اختلفنا
في تحديد هذه الكلمة، فإن علينا ألا ننسى أن جوته لم يكن يهمُّه أن يكتب لزمنه ولا أن
يُرضي
معاصريه على حساب الحقيقة الخالدة. ولا يتعارض هذا مع ما كتبه إلى فريدريش شليجل
٤٥ حيث يقول: «إنني أُحب من كل قلبي أن أعيش في الزمن، ولكنني لا أعرف كيف أُعبِّر
عنه التعبير الصحيح إذا ما عشتُ معه؛ لذلك يندُر أن تجدَني في تلك الكتابات التي أتناول
فيها العصر الحاضر، بل قد لا تجدُني على الإطلاق.»
٤٦ ولا مع ما يقوله لشيللر: «إن الفرح والبهجة والمشاركة في كل شيء هي وحدها الشيء
الحقيقي وهي التي تُنتِج الحقيقة، كل ما عدا ذلك فهو فاسدٌ أو مفسدٌ فحَسْب.»
٤٧
•••
ليس هناك إذن اغفالٌ للزمن (وكيف يُغفِل الإنسان الزمن الذي يعيش فيه وهو سواءٌ قبِلَه
أو
رفَضَه وسواءٌ شاء أو لم يشأ إنما يُعبِّر عنه بالضرورة سلبًا وإيجابًا؟) بل تجاهلٌ لمشاغلَ
صغيرة وهمومٍ تافهة تُفسِد وتُشتِّت، ومحاولةٌ لنسيانِ أحداثٍ تجري في الزمن لتذكُّر
الزمن
نفسه. إن جوته يعترف بهذه «الهِبَة الإلهية السامية»، بنهر «ليته» (نهر النسيان في أساطير
اليونان) الذي يسري في كياننا كله ويمتزج بكل نفسٍ من أنفاسنا، كما يمجد هذا النسيان
الذي
عرف بنفسه دائمًا «كيف يُقدِّره، وينتفع به، ويُعلي من شأنه.»
٤٨ ومهما يكن من رأينا في الدوافع الخفية التي دفعَتْه على أن يلزمَ الصمتَ في بعض
فتراتِ حياته، فإن من واجبنا بعد كل شيء أن نسأل أنفسنا: ألم يكن هذا الصمت نفسه وسيلةً
للإنصات إلى صوت الوجود؟ ألم يكن ذلك الصمت الذي يسبق الفعل، يُمهِّد للكلام بلسان الحكيم؟
ألم تكن حساسيته لما يُشتِّت فكره من ضجيج هي حساسية من يُريد ألا يعوقَه شيءٌ عن الاستماع
إلى صوت الحقيقة؟ وكيف للإنسان أن يُنصِت ويُفكِّر — والفكر بطبيعته فعلٌ صامت — إذا
لم
يتذرع بالصمت؟ ألم يقل هو نفسه إن «طريقه المجرَّب القديم» الذي لا يستطيع شيء أن يحيد
به
عنه هو أن يتكشَّف المشكلات في رفقٍ وهدوء «كما يفُضُّ الإنسان القشور عن البصل»، وأن
يحتفظ
بالاحترام لكل البراعم الحية حقًّا؟ إن هذه الكلمات التي نُورِدُها عن خطابٍ له إلى تسلتر
تتفق تمام الاتفاق مع ما كتبه قبل ذلك بنصف قرن إلى شارلوته فون شتاين: «ولمَّا كنتُ
الآن
صافيًا هادئًا كالهواء، فإن أنفاس الطيبين الهادئين هي أحبُّ الأشياء إلى قلبي.»
٤٩
•••
هذا الصمت الذي يُهيِّئ له أن يُنصِت ويستمع شيءٌ أعمقُ بكثير من مجرد السكوت أو
الامتناع
عن الكلام. إن السكون الذي يُظلِّل الروح بجناحَيه، سكونٌ أشبه ما يكون بما يُحسُّ به
الصوفي حين يُميت جسدَه ويطرح بدنَه لكي تتهيأ روحه لتلقِّي نور الحقيقة، وهو الذي يعنيه
جوته بحكمته التي يقول فيها: «… أن أنكر نفسي بقَدْر ما أستطيع، وأتلقَّى الموضوع في
ذاتي
كأنقى ما يكون.» إنه الصمت المُتفتِّح لا الصمتُ المغلَق، صمتُ المُتوحِّد المنكر لذاته،
لا
صمتُ الأناني المنعزل عن الوجود والناس، الصمتُ الذي يُعلِّم صاحبه كيف يقرأ الأشياء
ويراها
على ما هي عليه — كما يقول في رسالةٍ إلى هردر في أثناء رحلته الإيطالية
٥٠ — ويملأ كِيانَه فيحيله سمعًا خالصًا لصوت الطبيعة، كما يُحيل عينَيه نورًا
خالصًا يُلقى على جميع الأشياء. في هذا الصمت المُستمع ما فيه من فَناءٍ في الكل وإجلالٍ
للحقيقة، وخشوعٍ أمام سر الوجود. إنه حَلْقة في سلسلةٍ طويلة تصل صمت فيثاغورس الذي مكَّنه
من الاستماع إلى أنغام الكواكب، بصمت المُفكِّرين والعلماء المعاصرين العاكفين على البحث
في
مكاتبهم ومعاملهم.
•••
إن الصمت خليقٌ بمن يعرف حدوده، ويُميِّز ما يستطيع مما لا يستطيع، فلا يحاول — وهو
الكائن المحدود — أن يطمح إلى ما لا يُحدَ، وأخلَقُ منه بالصمت الفنَّان العاكف على فنه؛
عندئذ يكون الواجب الأكبر على «صانعي» الكلام أن يسكتوا عن الكلام. إن صمت الحفَّار الذي
يُفتِّش عن الكَنْز في جوف الأرض يبدو كأنه عبثٌ إلى جانب هذا الصمت الجاد العميق الذي
يلتزمون به: «إنه لجنون ينطوي على معنًى بالغ العمق ذلك الذي يُحتِّم على الإنسان، لكي
يعثُر حقًّا على كنز في باطن الأرض ويضَع يده عليه، أن يلتزم الصمت فلا ينطق بكلمةٍ واحدة،
مهما بدا له من كل ناحيةٍ مما يبُثُّ في قلبه الرعب أو يجلب إليه الفرح.»
٥١ إنه لا يكاد يبدأ بالحديث إلى شيللر
٥٢ عن مشروع عملٍ من أعماله الجديدة حتى يكتشف خطأه فيغلق فمه: «لمَّا كنت أعلم
أنني لا أتم شيئًا كشفتُ عن خطَّته لأحد من الناس أو صارحتُه به، فإنني أُوثِرُ أن أقف
عند
هذا الحد فلا أزيد عليه.» ذلك لأن من عاداتي — كما يستطرد بعد ذلك بخمسة عشر عامًا —
أنَّ
ما أتكلم عنه لا أضعه موضع التنفيذ،
٥٣ وأن على الإنسان — كما قال ذات مرة لصديقه «بواساريه» في معرض كلامه عن الجزء
الثاني من «فاوست» — «ألا يتحدَّث عما ينوي أن يفعل، ولا ما يفعل، ولا ما فرَغ منه بالفعل.»
٥٤ هذه التجربة التي يعرفها كلُّ من عانى شقاء الكتابة وذاق ثمرتها المرة فجعلَته
يحرص على العمل الفني الكامن في نفسه حرص الأم على جنينها؛ هذه التجربة قد صحِبَت جوته
من
شبابه إلى شيخوخته، من «فرتر» إلى «فاوست» الثانية. إنه يقول لصديقه «يا كوبي» بعد أن
سكَنَت عاصفة الخَلْق التي تمخَّضَت عنها رواية «فرتر»: «انظر يا عزيزي، إن مبدأ كل كتابة
ونهايتها يظل سرًّا خالدًا. الحمد لله أنني لا أنوي أن أُفصِح عن شيء منه للمُبحلِقين
ولا للثرثارين.»
٥٥
•••
من الناس من لا يملك القدرة على الصمت. إنه يتكلم في كل شيء، ويتطفل على كل شيء. إذا
نظرتَ في ملامح وجهه وجدتها تنطق بالهم، وإذا دقَّقتَ النظر في عينَيه وجدتهما تمتلآن
بالخوف؛ الخوف من مواجهة الذات، والرعب من الانفراد بها. وقد عُرف مرض الكلام من قديم
الزمان، ووُجد مِن القدماء والمُحدَثين مَن وصَف الثرثرة بأنها أخت اليأس؛ اليأس من بلوغ
اليقين، والعجز عن التركيز على موضوع بعينه والتفرُّغ له بالتأمُّل والتفكير. إننا نعيش
في
زمنٍ لا يعرف الصمت ولا يريد أن يعرفه — ألستَ تسمع الضجيج الذي يُخرب حياتنا الحاضرة
في كل
لحظة من الليل والنهار ويطرد الصمت الجاد منها إلى الأبد؟ وهل هناك دليل على الجدب والفراغ
أوضح من كارثة الترانسيستور في كل مكان؛ في الشارع والحديقة، وفي الترام والأوتوبيس؟!
لقد
ساد الضجيج حياتنا حتى لتُضطَر دعوة الداعين إلى الصمت أن تكون هي نفسها عالية الضجيج!
زمن
شعاره الضجيج بأي ثمن، في الصوت واللون والحركة والمُؤثِّر الحسي، يريد به يائسًا أن
يهرُبَ
من فراغه ويصمَّ أذنَيه عن النداء المختنق الذي يدعوه إلى أن يعرف ذاته (ولن يعرفها بغير
الصمت والسكون).
•••
ليس الصمت هو التوقف عن الكلام؛ فالصمت الحقيقي يقتضي منا أن نُخرِس كل تافه ودنئ
في
نفوسنا، ولكننا لن نستطيع ذلك حتى يبسط السكون ظله علينا، مثل هذا السكون لن نستطيع أن
نحدثه بإرادتنا — فمن الخطأ أن نظُن أن الكف عن الضجيج يكفي لكي يُولَد عنه الصمت، وإلا
كان
صمتًا أجوف ميتًا، يعلو هو نفسه على كل ضجيج — بل ينبغي أن ينبُع من نفوسنا، حتى لنستطيع
أن
نسمعه ونتنفَّسه. إن أعظم الأشياء ليس هو أعلاها صوتًا، وأعمق الآلام ليس أشدها صراخًا.
وإذا كانت الطبيعة — كما يُقال — تفزَع من الفراغ، فإنها ولا شك تفزَع من الضجيج، هذه
الصورة الحديثة من الفراغ والضياع. الطبيعة العظيمة دائمًا صامتة وساكنة — حتى هدير البحر
وثورات البراكين وهزيم الرعود لا يجرح السكون — لأنها تُباشِر عملية الخَلْق المستمرة
في
سكون، وتصنع المعجزات في صمت. ولا يجرح سكونَ الطبيعة العظيمة إلا الصوتُ البشري، ومن
هنا
كانت أهميته وخطورته في آنٍ واحد. وقديمًا استطاع الشاعر العربي أن يستأنس بالذئب إذا
عوى،
حتى إذا صوَّت إنسانٌ كاد يطير! تُرى لو بُعث هذا الشاعر اليوم فأين يجد شبرًا من عالمنا
البائس المحبوب لا «يطير» فيه الإنسان، بعد أن وصلَت ضجَّة الآلة والطائرة والحنجرة إلى
كل
غابةٍ عذراء، وتوغَّلَت في كل صحراء ساكنة «جرداء»؟
•••
ما أكثَر ما يَدين به الإنسان للصمت والسكون، أثمن شيء لأنه أندر شيء!
ليس هذا الصمت مفتاحًا سحريًّا يحل جميع المشاكل — فمن السخف والسذاجة أن نَتصوَّر
هذا —
ولا هو كهفٌ يلجأ إليه المتعبون ليُغلِقوا على أنفسهم أبوابه، ولكن الصمت والقدرة عليه
ضرورة يحتاجها الإنسان الحديث لكي يعرف من جديدٍ قيمة التركيز — أبي الفضائل جميعًا —
ويتذكر أن العمل الجاد هو دائمًا العمل الصامت. (ما أكثَر ما تمنَّيتُ — والأمنية لا
شك
سخيفةٌ بقَدْر ما هي مستحيلة! — أن تتوقَّف إذاعاتُ العالم عن الإرسال يومًا واحدًا في
كل
عام، حدادًا على الصمت الذي قتلَتْه إلى الأبد، بطوفانِ ضجيجها الذي يُغرِق البشرية ليلَ
نهار!)
•••
ما من عملٍ عظيمٍ إلا وهو وليد الصمت، ولا شجرةٍ مثمرة إلا وقد نمت بَذْرتها في ظلال
الصمت. وإذا كان اليونان القدماء — وكم كان يحلو لهم أن يقضوا حياتهم اليومية في «الدردشة»
مع بعضهم! — قد عَرَّفوا الإنسان بأنه حيوانٌ ناطق، ففي استطاعتنا أيضًا أن نُعرِّفه
بأنه
حيوانٌ صامت، بل أن نزيد على ذلك فنقول إنه الحيوان الوحيد الذي يمكنه أن يصمت؛ ذلك أنه
لا
يستطيع أن يصمت إلا من يستطيع أن يتكلم؛ فالحيوان والأبكم لا يقدران على الصمت؛ لأنهما
لا
يقدران على الكلام (أي على اللغة المنطقية المعقولة). وليس الصمتُ كما قلنا مجرد امتناع
عن
الكلام — وإلا كانت الحكمة مِلكًا مُشاعًا لكل من يغلق فمه! — ولكنه إمكانية من إمكانيات
اللغة، بوصفها أحد الأُسُس التي يقوم عليها وجود الإنسان في العالم، وهو قبل كل شيءٍ
نظام،
وتربية، واستعداد؛ نظامٌ يخضع له الإنسان بإرادته وهذه هي قمة الحرية، وتربيةٌ للنفس
والعقل
على التركيز على «الواحد» وطرح «الكثير»، واستعدادٌ للمعرفة ولسماع صوت الحقيقة، وهو
بعد
هذا كله رمزُ شجاعة وأمل؛ لأنه يُقرِّبنا من مركز وجودنا ووجود العالم بقَدْر ما تُبعِدنا
الثرثرة اليائسة عنه.
•••
يقول جوته: «إن المثقَّفين ومن يعملون على تثقيف غيرهم يحيَون حياتهم بغير ضجيج.»
وليس
أَوْلى من المثقفين في بلادنا بتفهُّم هذه الكلمة، فيوم نعرف أن الثقافة ليست بالذراع
ولا
بالحناجر العالية ولا هي سوق يتصايح فيه الباعة على بضاعتهم ويتهالكون على الشهرة والكسب
بأي ثمن، فسوف نستطيع عندئذٍ أن نقول إننا نعرف حقًّا ما تحمله هذه الكلمة من الجد
والمسئولية والالتزام … وغيرها من المعاني التي يعجب الإنسان كيف لم نمَلَّ من ترديدها
طوال
السنوات الأخيرة. وقد يكون من الخير أن يتطلَّع الإنسان من حين إلى حين إلى جبهةٍ عالية
مضيئة تنير له الطريق الذي يتعثَّر فيه، فإذا عرف القارئ من هذه النصوص التي أوردتُها
عن
جوته قيمة العمل الصامت الجاد، فحَسْب صاحبها منه هذا الجزاء، أو قل هذا العزاء.