الرسول الثائر

سلام على الأكواخ! حرب على القصور!

تبدو الأمور في سنة ١٨٣٤م وكأن آيات الكتاب المقدس قد كذَبت، أو كأن الله قد خلق الفلاحين والعمال في اليوم الخامس، والأمراء والمنعمين في اليوم السادس، ثم قال لهؤلاء: «مدوا سلطانكم على كل حيوانٍ يزحف على الأرض وجعل الفلاحين والمواطنين من جملة الديدان. إن حياة المنعمين يومُ أحدٍ طويل؛ فهم يسكنون في بيوتٍ جميلة، ويرتدون ثيابًا مزركشة، وجوههم سمينة وألسنتهم تتكلم لغةً خاصة بهم، أما الشعب فيرقد أمامهم كالسباخ في الحقل، الفلاح يسير وراء محراثه، أما الغني المنعَّم فيسير خلفه هو والمحراث، ويُلهِب ظهره كما يُلهِب ظهور الثيران المعلَّقة في المحراث، إنه يأخذ القمح ويترك له الأعواد الجافَّة. حياة الفلاحين يوم عملٍ طويل؛ الأجانب يفترسون حقوله أمام عينَيه، جسده قُشف، عرقُه مِلحٌ على مائدة الأغنياء المترفين.»

بهذه الكلمات الخطيرة بدأ طالب الطب في مدينة جيسن «جورج بُشنر» منشوره الثوري الذي سماه «رسول هيسن». كانت دوقية هيسن العظمى في ذلك الحين هي أشد الإمارات الألمانية المتحالفة — وقد بلغ عددها أربعًا وثلاثين إمارة — ظلمًا ورجعية. كانت بلدًا صغيرًا، لا يتجاوز عدد سكانه سبعمائة ألف نسمة، مُشتَّتًا على الرغم من ضآلة حجمه بين وادي نهر «النيكر» في فور تمبرج وبين جبال فستفالين. وكان القسم الذي يقع منها على الضفة اليسرى من نهر الراين — وهو الذي أعاده مؤتمر الحلفاء في فِيِنَّا إلى الأمير لودفيج الأول على أثر هزيمة نابليون في معركة ليبزج الحاسمة في أكتوبر سنة ١٨١٣م من الروس والنمسويين والبروسيين — قد تخلَّص تحت حكم الفرنسيين من النظام الإقطاعي القديم، واستطاع المواطنون هناك في مدنٍ مثل ماينز أو فورمز أن يرفعوا رءوسهم ويتكلموا عن الحرية بصوتٍ أعلى قليلًا من صوتِ زملائهم في بقيةِ أجزاء الإمارة؛ ذلك أن مظالم الإقطاع كانت لا تزال سائدة في المنطقة القديمة التي كانت عاصمتها دارمشتات وفي منطقة هسن العليا، بمدينتها الجامعية الصغيرة جيسن، على الرغم من أن نظام رقيق الأرض قد رُفع عنها منذ عام ١٨١١م.

وحين استطاع الفلاحون العُزْل أخيرًا أن يثوروا في عام ١٨١٣م على جلَّاديهم فزحَفوا على القرى وهم يهتفون بهتاف الثورة الفرنسية «الحرية والمساواة» وأحرقوا مجموعةً من مِلفَّات السلطات الحاكمة في الريف، تمكَّنَت قواتُ الأمير إميل — وهو شقيق الأمير لودفيج الذي كان يَحكُم في ذلك الحين — من إيقافهم والتنكيل بهم عند قرية زودل. كان جنود هذه القوات من أبناء الفلاحين المتمردين هم الذين عذَّبوا وقتلوا آباءهم وإخوتهم، وكانوا هم أنفسهم الذين أقسموا على الولاء للطغاة وحراسة قصورهم. إن دقَّات طبولهم، كما سيقول المنشور السري بعد ذلك، تخنُق تنهُّداتكم، وعِصيَّهم تُحطِّم جماجمكم، إذا واتتكم الجرأة على التفكير في أنكم بشر أحرار. إنهم القتَلَة الشرعيون الذين يحمون اللصوص الشرعيين. تذكَّروا «زودل»! إن إخوتكم وأبناءكم قد قتَلوا هناك آباءهم وإخوتهم.

كان بُشنر في ذلك الحين يبلُغ من العمر اثنَين وعشرين عامًا، وكان كل شيء في حياته يدعوه إلى أن يترك دور المتفرج المحايد ليشارك بالفعل والثورة في تغيير ما حوله. لقد انتقل من شتراسبورج المرحة الحُرة ليواصل دراسته في جيسن الضيقة المظلمة. إنه الآن بعيد عن خطيبته الحبيبة، ضَيِّق الصدر بجو الخريف الكئيب، ساخط على مجتمع الطلبة الذين لا هَمَّ لهم إلا شرب البيرة، مُتبرِّم بدراسته التي ستضمن له الخبز ولكنها ستسلبُه حرية الخلق والإبداع. وأثَّرَت حالته النفسية على صحته، فأُصيب بالتهابٍ في المخ اضطَره إلى العودة إلى موطنه في دارمشتات ليكون تحت رعاية أبوَيه.

قضى هناك أسابيع يستشفي من علَّته الجسدية، أما همومه أو لنقل هموم الشعب التي تُعذِّب قلبه المشتاق للعدل والحرية فلم تتخلَّ عنه لحظة. إنه يكتب وهو ما يزال على فراش المرض إلى صديقه أوجست شتوبر فيقول: «إن الظروف السياسية تكاد تُصيبني بالجنون؛ فالشعب المسكين يجُر صابرًا العربة التي يُمثِّل عليها الأمراء وأدعياء الحرية مهزلة القرود. إنني أُصلي في كل ليلةٍ للحبال التي سيُشنق عليها أعداء الشعب.» بهذه الحرارة وهذا التصميم على المشاركة في الثورة، عاد بُشنر إلى جيسن في أوائل عام ١٨٣٤م، إلى سياسة الزوايا والأركان، وثورة العيال والأطفال، كما كان يقول باحتقار عن دَوْر المثقَّفين وأدعياء الحرية الليبرالية هناك.

عاد ليُلقي بنفسه في مغامرةٍ خطيرة، يدفَعه إليها مزاجه الحادُّ، وعواطفه الملتهبة التي أشعلها السخطُ على الظلم والشوقُ إلى العدل.

ظن في الأسابيع الأولى من إقامته في هذه المدينة أن الاشتغال الجاد بدراسة الطب في الصباح والتاريخ والفلسفة في المساء قد يُعيد إليه التوازن المفقود، أو يشغَلُه عن مشاكل السياسة العاجلة، وانصرفَ بالفعل إلى دراسته حتى اتهمَه زملاؤه بالغرور والكبرياء.

ولكن المؤامرات المتكررة في ظل النظام البوليسي المتعنِّت سرعان ما أفقدَتْه صوابه، والهوان الذي رأى الشعب غارقًا فيه علَّمه الحقد على المترفين والأرستقراطيين؛ فها هو ذا دوق الإمارة الكبيرة الذي يحكمها منذ عام ١٨٣٠م يكبِت الحرية ويُنفِق أموال الشعب على حياة الترف في الأوبرا والبلاط. لم يكد يتولى الحكم في تلك السنة حتى طلَب من رعاياه في البرلمان أن ينقلوا مليونَي «جولدن»١ من الأموال التي أنفقَها وهو ولي للعهد إلى خزانة الدولة، وأصرت زوجته الدوقة العظيمة على القيام برحلة تطوف فيها بالبلاد ليحظى الشعب برؤيتها والاحتفال بها. وحين رفض البرلمان طلبه حل البرلمان، وعاد المجلس الجديد فرفض التصديق على منحه مليون جولدن لبناء قصرٍ جديد وزيادة المصاريف المخصصة له ولبلاطه، فحل هذا المجلس أيضًا في عام ١٨٣٣م وإن لم يكن قد مضى على انتخابه أكثر من عام. وزاد السخط في البلاد حتى عَبَّر عنه بُشنر في منشوره الثوري قائلًا: «إن كبار الأوغاد يقفون الآن إلى جانب الأمراء، على الأقل في الدوقية الكبرى، فإذا حدث أن دخل رجلٌ أمين في الحكم طردوه، ولو استطاع رجلٌ أمين في هذه الأيام أن يكون وزيرًا فلن يكون تحت الظروف السائدة الآن إلا دميةً تشُدُّ حبالَها دميةُ الأمير، أما خيال المآتة الذي يُسمَّى بالأمير فيشُد حبالَه خادمٌ أو سائس أو زوجته وعشيقها أو أخوه غير الشقيق أو هؤلاء جميعًا.»

كان الحلف الألماني الذي تألف بزعامة «ميترنخ» بعد هزيمة نابليون بين بروسيا والنمسا قد تمخَّض عن دساتيرَ إقليميةٍ للإمارات والدويلات المختلفة، غير أن هذه الدساتير المزعومة بقِيَت قشًّا أجوف أو صيحةً في فراغ.

فالأمراء ظلوا مقتنعين بحقهم الإلهي، والحكم الذي مارسوه ظل حكمًا مطلقًا، والجور على أبسط الحريات — المكفولة على الورق — أمرًا يجري كل يوم. استطاع الحلف الألماني حقًّا أن يحافظ على السلام، أو لنَقُل إنه استطاع أن يتجنَّب الحرب، وذلك حتى نهايته في عام ١٨٦٦م، غير أنه كان سلامًا غالي الثمن، دفَعَه المواطنون من حريتهم وخبزهم؛ فقد استمرَّت الامتيازات الإقطاعية التي كان يتمتع بها الأمراء، وساد نظام الحكم البوليسي في معظم الدويلات، وقامت بعض حركات التمرد من العمال والفلاحين على هذا النظام، فثار الفلاحون في «هيسن العليا» في سبتمبر سنة ١٨٣٠م تلك الثورة التي انتهت بحمَّام الدم في قرية زودل التي سبق الإشارة إليها، كما استطاع الأحرار الذين شجَّعَتْهم حركات الاستقلال في البلاد الأوروبية المجاورة أن يعصفوا به في عام ١٨٤٨م، ولكنها كانت جميعًا حركاتٍ مؤقتة لا تلبث أن تُخمد بقوة السلاح. وظلت الدعوة إلى الحرية قاصرة على الطلبة والشعراء والمفكرين، تتردَّد تحت تأثير الثورات الآتية من الغرب في نداءات «فشته» الوطنية إلى الأمة الألمانية، أو في رسائل «شيللر» عن تربية الإنسان وتحريره بالفن والجمال، أو في وقوف «جوته» في صف الحرية السياسية المتزِنة العاقلة، أما الواقع اليومي لجماهير الشعب فلم يطرأ عليه تغييرٌ يُذكر، ويكفي أن نعرف أن حقوق الانتخاب الطبيعية لم تُكفَل للمواطنين البروسيين إلا في عام ١٩١٧م، بينما زحفَت جموع الشعب الفرنسي على قلاع الاستبداد في عام ١٧٨٩م وهي تنادي بالحرية والمساواة!

كانت الأحوال أسوأ ما تكون في الجزء الشمالي من الإمارة الكبرى، وهو منطقة هيسن العليا، موطن بُشنر؛ فحق الانتخاب يكاد يكون مقصورًا على مجموعة من كبار المُلَّاك والموظَّفين، بحيث لا يملك الترشيح للبرلمان سوى عددٍ لا يزيد على الألف من بين الرعايا البالغ عددهم سبعمائة ألف نسمة، وسلطان سادة الاقطاع ما يزال سائدًا في الواقع وإن قيَّدَته القوانين المكتوبة، والفلاحون يرزحون تحت أعباء الضرائب لخزينة الدولة في «دارمشتات» ويقومون بأعمال السخرة كرقيق الأرض. أما المثقَّفون — وأغلبهم موظَّفون مُطمئنُّون يقبضون رواتبهم الشهرية نظير عبوديتهم للدولة — فلم يشاركوا في ثورات الفلاحين مشاركةً فعلية، ولم يُحسُّوا بالضنك الذي عاش فيه هؤلاء في سنوات الجوع التي تلت الحرب (١٨١٥–١٨٣٠م) فانخفَضَت أسعار القمح وزادت أعباء الضرائب، واضطُرت موجاتٌ من السكان إلى الهجرة، وحتى هذه الهجرة كانت لا تتم إلا بإذن من الحكام وبعد دفع ضرائبَ باهظةٍ لجمارك الحدود.

وهكذا وقف البلاط ومعه الموظَّفون والحُراس الذين يحرسونه في جانب والعمال اليدويون والفلاحون الذين يُطعِمون البلاط والموظَّفين والحُراس في الجانب الآخر!

وتألَّفَت في ذلك الحين جمعياتٌ من الشباب المنادي بالحرية والحرب على الرجعية، واستطاع أحد أعضائها المتحمسين (كارل لودفيج ساند) أن يقتل عميل الرجعية الأول في عصره وهو أوجست فون كوتسبوه (١٧٦١–١٨١٩م) وراحوا يسيرون في شوارع مدينة جيسن وعلى ملابسهم شعار آمالهم السياسية باللون الأسود والأحمر والذهبي. غير أن بُشنر رفض أن ينضم إليهم؛ فقد رأى أنه يتفق معهم في الهدف الأكبر وهو تحقيق الحرية، ولكنه يشُك في وسائلهم وينظُر إلى عباراتهم السياسية نظرة الارتياب. ولقد كان الخلاف في الواقع شديدًا، فهم يطالبون بالحرية السياسية وهو يطالب بالحرية الاجتماعية والاقتصادية، وهم يريدون إقامة حكمٍ قيصري وهو يريد تأسيس جمهورية ديمقراطية. كان من رأيه أن توفير البطاطس للفلاح وأطفاله أهم في تلك المرحلة من شعارات الحرية الليبرالية التي يرفعها المثقَّفون. ومع هذه الخلافات كلها فقد جمَعَه وإياهم السخطُ المشترك على الاضطهاد الذي كانوا يعانونه في ظل نظامٍ بوليسي راح يبُثُّ الجواسيس في كل مكان في المدينة والجامعة، وينثُر سموم الشك بين أفراد المجتمع فلا يستطيع أحدٌ أن يثق في أحد. واشتركوا جميعًا في السخط على الضغط على الحريات، الذي أدَّى إلى انهيار كل الأعمدة التي يقوم عليها كيان الشعوب، من ثقة وعدالة واحترام للأخلاق والقانون. ولم تَبقَ إلا حريةٌ واحدة يتمتع بها الحاكم وهي اعتبار كل معارضةٍ صريحة أو خفية لإرادته جريمةً تستحق أشد العقاب. ولم تَبقَ كذلك سوى حريةٍ واحدة للمواطنين، هي الطاعة والخضوع واعتبار الحرية والمساواة عباراتٍ جميلة يُزيِّن بها تلاميذ المدارس موضوعات الإنشاء!

أحَسَّ بُشنر أن زملاءه في الدراسة ينفرون منه، وأن جمعيات الفتيان لا تُعبِّر عن مثَله الأعلى، فعاش وحيدًا متهمًا بالغرور والكبرياء، ولكنه تعرَّف على طالبٍ مسكين فأحبه ولازمه. كانوا يسمونه بيكر الأحمر، ولم يكن لهذه الكلمة الأخيرة أي مغزًى سياسي، ولعلها أُطلقَت عليه لأنه كان يُفضِّل ارتداء سُترةٍ روسيةٍ سوداء اشتُهر بها حتى أصبح ظاهرة في حياة المدينة. كان أبوه قسيسًا بروتستنتيًّا مات وهو صغير، واضطُر أن يُقاسِي الجوع في أثناء دراسته، ويرضى بالمهانة التي ترتبط في الجامعات الغربية بما يُسمُّونه «الوجبة المجانية». ولكنه رأى ذات يومٍ أن دراسة اللاهوت لا تستحق كل هذا الذل الذي يتحمَّله من أجلها، فهجر التعليم وعاش مضطهدًا من رجال البوليس «بلا مهنةٍ محددة» كما تقول الكلمة الرسمية. وأدرك بُشنر أن وراء هذا المظهر المسكين قلبًا كبيرًا، وأن خلف الجسد النحيل فكرًا حُرًّا لا يعرف المهادنة، كما أدرك «بيكر الأحمر» كذلك أن وراء هذا الطالب المتهم بالغرور نفسًا نبيلة تُقدِّس العظمة والجمال. إنه يقول عنه «بُشنر هذا كان صديقي الذي ظل يثق بي في أخض أموره ثقةً كان يضِنُّ بها على أُسرته أو على غيره من زملائه؛ مثل هذه الثقة جعلَتْني أهبه قلبي، وشخصيته المحبَّبة، ومواهبه الفائقة، التي لا أستطيع أن أعطي عنها هنا صورةً كافية، جعلَتْني أُحبه إلى حد التعصُّب. كانت وطنيته تقوم في الحقيقة على الشفقة الخالصة والإحساس النبيل بكل ما هو جميلٌ وعظيم، وحين كان يتكلم ويرفع صوته، كانت عيناه تلمعان كما تلمع الحقيقة.»

وعن طريق أوجست بيكر تعرف بُشنر على فريدريش لودفيج فيدج (١٧٩١–١٨٣٧م) وكان ناظر مدرسة في «بوتسباخ» وهي إحدى المدن الصغيرة التي لا تبعُد كثيرًا عن جيسن. كان هذا الرجل من الثوار المتحمسين للأفكار التي قاتل الشباب من أجلها في حروب التحرير، وكان يؤمن إيمانًا قويًّا بتوحيد البلاد الألمانية تحت الحكم القيصري، ويتصل بجماعات الفتيان التي سبقَت الإشارة إليها، ويُعِد المنشورات السرية التي أثارت ثائرة رجال البوليس ومن بينها المنشور الذي سماه «أنوار وكشَّافات لهيسن». وكانت المقابلات القصيرة بينهما كافيةً لكي يدرك المعلم المجرب أنه أمام شخصيةٍ ثوريةٍ واعدة، كما جعلت بُشنر يُقدِّره وإن لم يتصوَّر مدى الاختلافات التي ستنشب بينهما؛ ذلك أن فيدج كان من رجال اللاهوت المتحمسين لإقامة دولةٍ مسيحيةٍ خالصة، بينما كان بُشنر مشغولًا بمشكلات الحاضر ومظالمه عن كل فردوسٍ دينيٍّ موعود.

ومع ذلك فلم يُحجم عن التعاون معه، خاصة وأنه كان يملك مطبعةً سرية أخفاها في بدروم أحد البيوت البعيدة في مدينة أوفنباخ على نهر الماين، وقام بالعمل فيها رجالٌ مخلصون لقضيته.

كانت قيمة العمل السياسي عند بُشنر في تحقيق كرامة الإنسان وتحريره من الضيق المادي. وكان من رأيه، على خلاف المثقفين وجماعات الفتيان، أن الثورة من أعلى لا جدوى منها، وأن رفع الظلم الاجتماعي عن كاهل الشعب أَوْلى من المطالبة بحرية الرأي والصحافة ورفع الرقابة. لقد فكَّر بقلبه فوجد أن توفير الطعام للجائع، ورفع الظلم عن المضطهد، وإعلان السخط على الحاكم المُتجبِّر لا بد أن يسبق الدعوة إلى إصلاح الدستور أو ضمان الحريات أو إقامة دولةٍ مسيحية؛ ولذلك فقد وقف منذ البداية إلى جانب العمال اليدويِّين والفلاحين، اقتناعًا منه بأنهم هم أول من يكسب من نجاح الثورة وآخر من يخسر من فشلها، أما مناقشاتُ المثقَّفين وأساتذة الجامعات فقد احتقَرها من كل قلبه؛ فالثورة عنده لا بد أن تأتي من أسفل، والارتفاع بمستوى الشعب أهم بكثير من الارتفاع بمستوى العقل: «إن القهر المادي الذي يرزحُ تحته جانبٌ كبير من البلاد شيءٌ مؤسفٌ ومهين كالقهر الروحي سواء بسواء. وفي نظري أنه لا يؤلم النفس أن يعجز هذا المتحرر أو ذاك عن نشر أفكاره بقَدْر ما يُؤلِمها أن تجد آلاف العائلات الألمانية نفسها عاجزةً عن الحصول على البطاطس التي تُسوِّيها.»

ولكن كيف يرتفع الثائر الشاب بمستوى الشعب في وقتٍ حُرِّمَت فيه حرية التجمع والرأي والصحافة؟ لا بد إذن من اللجوء إلى الوسيلة التي لا مفر منها، وهي طبع المنشورات السرية وتوزيعها في المعامل والقرى. وأعَد بُشنر منشوره السري الخطير بعد أن زوَّده فيدج بالإحصائيات الضرورية واقترح عليه الاسمَ الذي عُرف به فيما بعدُ وهو رسول هيسن أو ساعي البريد من هيسن. وعندما سلَّمه له تردَّد الناظر المُتديِّن بين الحماس والخوف؛ الحماس للصدق المُطلَق، وإقناع الحجة، وبساطة العرض، والخوف من اللهجة الحاسمة المُتهوِّرة التي تصل في بعض المواضع إلى حد التجديف. ووافق فيدج على طبع المنشور بشرط أن يُدخل عليه بعض التعديل، وقَبِل بُشنر أو اضطُر أن يقبل، حتى لا يضيع الجهد كله هباء، واستطاع فيدج أن يُقنِعَه بضرورة الالتجاء إلى بعض عبارات الكتاب المقدَّس للتأثير على الفلاحين الذين لا يفهمون ولا يثقون في كتاب غيره، ولم يعترض بُشنر على ذلك، ولكنه غضب غضبًا شديدًا حين رأى كيف غيَّر فيدج كلمة الأغنياء التي استعملها عامدًا في منشوره بكلمة المُترفين أو المنعَّمين؛ ذلك أنه كان يقصد الأغنياء في مقابل الفقراء، كما كان يريد أن يُعبِّر عما ستُعبِّر عنه البيانات الاشتراكية فيما بعدُ من أن الثروة في ظل النظم الفاسدة ليست إلا نوعًا من سرقة الفقراء؛ ولذلك فقد غضب بُشنر — فيما يروي صديقه بيكر — غضبًا شديدًا ولم يُرِد أن يعترف بأن المنشور الذي طبعه فيدج هو منشوره الأصلي بعد أن حذف منه أهم ما فيه.

مهما يكن الأمر فقد سكت بُشنر على مضض؛ فلقد عرف أن الفائدة التي يمكن أن تعود عليه من فيدج أكبر من ضرره، وأنه يمكن أن يتعلم كثيرًا من مساعديه في توزيع المنشورات وأساليب العمل السياسي غير المشروع.

وهكذا أسَّس في مدينتَي دارمشتات وجيسن في نفس الشهر الذي كتب فيه منشوره جمعيةً سماها جمعية حقوق الإنسان (لاحظ أثَر الثورة الفرنسية على هذه التسمية!) تتولى نشر الوعي السياسي، والعمل على رفع الظلم المادي عن الفلاحين، بعيدًا عن كل دعايةٍ مصطنعة. ولم يشارك فيدج في تأسيس الجمعية، وإن وعَد بُشنر بالعون والحماية، كما قاطعتها جمعيات الفتيان ودوائر الطلبة الذين أثارهم أنها فتحت أبوابها لغير الجامعيين، وكبُر عليهم أن يجلسوا إلى جانب الحدَّاد وصبيِّ الخبَّاز والجزَّار. كان بُشنر هو الروح المحركة للجمعية، فقد وضع موادَّها الأربع عشرة ونظَّم صفوفها وجعل منها جمعيةً من الثوار لا ناديًا للجدل السياسي. بل إنه كما كتب شقيقه فيلهلم بعد ذلك بسنوات، قد راح يُشرِف على تدريب أعضائها على السلاح، ويُعِد العدة لثورةٍ شعبية ترفع الظلم عن الجموع المحرومة من أبسط حقوق الإنسان.

تم طبع «رسول هيسن» في أواخر يوليو من نفس العام (١٨٣٤م)، وبدأ التفكير في نشره بين الفلاحين الذين كُتب من أجلهم. واشترك مساعدو فيدج وأعضاء جمعية حقوق الإنسان في هذه العملية التي لم تكن تخلو من الخطر. وكان المنشور يبدأ ببعض التوجيهات التي كتبها فيدج مبينًا فيها طريقة استعماله. كان السطر الأول منها يوحي على الفور لكل من يقرؤه بأنه يُعرِّض نفسه لتهمة الخيانة العظمى: «مهمَّة هذه الصحيفة أن تُعلِن الحقيقة لبلاد هيسن، ولكن من يقول الحقيقة يُشنَق، ومن يقرؤها يحكم عليه القضاة المزيَّفونَ بالعقاب؛ ولذلك فإن الواجب على كل من تقع هذه الصحيفة في يده أن يُبعِدَها عن بيته ويُخفيَها عن أعين الشرطة، ولا يُعطيها إلا للأصدقاء الذي يثق فيهم ثقته في نفسه، وإذا عُثر عليها فعليه أن يعلن أنه كان ينوي تسليمها لمركز الشرطة.» ولذلك فلم يكن عجيبًا أن يسرع كل من وجد منشورًا منها تحت بابه بتسليمه للسلطات، خوفًا من الأذى والطرد من البلاد والحرمان من الرزق، وأن يكتشف بُشنر أن معظم نسخ «رسول هيسن» قد استقرَّت بين أيدي رجال البوليس!

ثم جاءت الخيانة من أحد أعوان فيدج المقرَّبين، الذي وشَى بالمتآمرين وأعلن عن تحركاتهم لجمع المنشور وتوزيعه، ولم يفُته بالطبع أن يُفشِي للشرطة باسم كاتب المنشور. وهكذا ألقى القبض على أحد أصدقاء بُشنر وزملائه في الدراسة وهو كارل مينجيروده، بينما كان عائدًا من مدينة أوفنباخ ومعه مائة وخمسون نسخةً من المنشور. ولم يشُكَّ بُشنر في الخيانة، ولكنه لم يتردَّد عن السفر من فوره إلى «بوتسباخ» للتشاور في الأمر مع فيدج، وتحذير بقية أصدقائه في أوفنباخ.

وهكذا غادر مدينة جيسن بلا جواز سفر، ودون أن يحمل معه شيئًا سوى خطابٍ من أحد أصدقائه يطلب فيه مقابلته في فرانكفورت. وفُتِّشَت حجرته في غيابه فلم يجد الشرطة فيها شيئًا ولكنهم صادروا رسائلَ خطيبتِه من باب الاحتياط لأنها كانت مكتوبة باللغة الفرنسية! وحين عاد من رحلته الجريئة قدَّم نفسه لقاضي التحقيق في الجامعة فلم يجد شبهة في سلوكه، وكتب إلى أُسرته القلقة يقول: تستطيعون أن تطمئنوا عليَّ! ولم يُغضِبه شيء كما أغضبه وقوع رسائل الحب التي بعثَتْها إليه خطيبته في أيدي هؤلاء الرجال القذرين حتى إنه راح يطلُب ردَّ شرفٍ لهذا الانتهاك لأسراره المقدسة!

ومر الفصل الدراسي الصيفي بلا استجواب، وعاد بُشنر إلى بيت أبوَيه في دارمشتات، وهناك أصر الوالد على إبقاء ولده الثائر تحت إشرافه، وبذلك انتهت فترة الإقامة في جيسن، وبقي المنشور الثوري بلا صدًى. لقد كان الضمير الاجتماعي ما يزال يغُط في نومه، فلم تستطيع هذه السطور الرائعة أن توقظه، وزاد اقتناع بُشنر بأن الثورة لا يمكن أن يقوم بها حَفْنة من المثقفين، بل لا بد أن تنهض بها جماهيرُ الشعب الحاشدة، ولن يتم ذلك إلا إذا وُزِّعَت المنشورات السرية بين جموع الفلاحين، وتحدَّثَت إليهم بلغةٍ يفهمونها عن الظلم والجوع والمهانة التي تَحيق بهم، لا عن حرية الصحافة أو قوانين الانتخاب أو شعارات المثقفين الجوفاء.

كان من رأيه أنه يجب أن يُقال لهم أنهم يحملون أثقل أعباء الدولة على رءوسهم، ويدفَعون الضرائب الباهظة عن الأرض التي يشْقَون عليها بينما يفلت الرأسماليون منها، ويخضعون لقوانين تتحكم في حياتهم وأرضهم وضَعَها لهم الأغنياء والنبلاء والموظفون.

هل يحتاج الفقراء إلى دليل؟ من يراوده الشك فعليه أن يفتح عينَيه ليقتنع بنفسه: «اذهبوا مرة إلى دارمشتات وانظروا كيف يلهو السادة بأموالكم، ثم احكُوا بعد ذلك لنسائكم وأطفالكم الجياع كيف تتلذَّذ بطون الأجانب بخبزهم. احكُوا لهم عن الثياب الجميلة التي صبَغوا ألوانها بعرقهم، والأشرطة المُزركَشة التي فصَّلوها من شقوق أيديهم. احكُوا لهم عن القصور الرائعة التي بُنِيَت من عظامِ الشعب، ثم ازحفوا إلى أكواخكم المُدخنة، وأحنُوا ظهوركم في حقولكم الجرداء، حتى يستطيع أطفالكم ذات يومٍ أن يذهبوا إلى هناك حيث يجتمع ولي عهد مع ولية عهد ليتشاورا في أمر إنجاب ولي عهدٍ آخر، وينظروا من وراء النوافذ ليروا الموائد التي يأكل عليها السادة، ويشمُّوا رائحة المصابيح التي يُشعلونها من لحم الفلاحين.» كلماتٌ واضحة لا تدع مجالًا للشك، كان من السهل أن يفهمها الفلاحون كما يفهمون كلمات الإنجيل، كلماتٌ خالية من البلاغة والادعاء، تطالبهم بأن ينظروا إلى القصور التي يعيش فيها السادة، والملابس التي يختالون فيها، ليتأكدوا من أن تلك القصور قد بُنِيَت على حساب هذه الأكواخ، وأن تلك الملابس ليست إلا من هذه الجلود، فإذا عادوا إلى أكواخهم وانزوَوْا فيها عرفوا أنهم لا يملكون شيئًا، وتأكدوا أن حاضرهم ومستقبلهم لا شيء «ستة ملايين جولدن تدفعونها في الإمارة لحفنةٍ من الناس وضَعَت حياتكم وأملاككم تحت رحمتها، مثلكم مثل غيركم في بقية أجزاء ألمانيا الممزقة. إنكم لستم شيئًا ولا تملكون شيئًا، حقوقكم سُلِبَت منكم، عليكم أن تدفعوا ما يطلبه منكم مستغلوكم الذين لا يشبعون، وأن تتحملوا ما يُلقونه على أكتافكم من أعباء، افتحوا أعينكم وعدُّوا حَفْنة المستغلين الذين لا يستمدون قُوتَهم إلا من الدم الذي يمتصُّونه من عروقكم، ومن الأذرع التي تُقدِّمونها لهم وأنتم مسلوبو الإرادة.»٢
ولكن حفنة المستغلين ليست هي وحدها التي تمتص دماءهم، أو ليست هي أخطر من يمتص هذه الدماء؛ فهناك الأمير الأكبر رأس كل فساد «إن الأمير هو مصاص الدماء الذي يرزح فوقكم، والوزراء هم أسنانه والموظفون ذنَبُه، وأصحاب البطون النهِمَة من السادة المترفين الذين يُوزِّع عليهم المناصب العالية مصاصو دماءٍ يفرضهم على البلاد، وحرف اللام٣ الذي يُوقِّع به مراسيمه وأوامره هو العلامة المميزة للوحش الذي يصلي له عبيد الأصنام في عصرنا، ومعطف الأمير هو السجَّادة التي يتمرغ عليها سادة البلاط والنبلاء فوق السيدات. إنهم يغطون أورامهم الخبيثة بالشرائط والنياشين ويُدثِّرون أجسادهم المقروحة بالثياب النفيسة، بنات الشعب هن خادماتهم وبغاياهم، وأبناء الشعب عبيدهم وجنودهم.»

ولكن من هم هؤلاء وما عددهم؟

إن عددهم لا يزيد على عشرة آلاف في الإمارة الكبيرة التي يبلغ عدد سكانها سبعمائة ألف. فهل يسكُت هؤلاء على ظلم ذلك العدد القليل؟ وإذا سكتوا حينًا، فإلى متى يدوم هذا السكوت؟ أليس من المحتوم أن تنفجر الثورة الحقَّة يومًا من الأيام؟

«إن عددهم قد يبلغ عشرة آلاف في الإمارة الكبرى، وعددكم سبعمائة ألف، وهذه هي نسبة عدد المستغلين إلى عدد أفراد الشعب في بقية أجزاء ألمانيا. حقًّا أنهم يهددون بالسلاح والفرسان المدججين بالدروع والحراب، ولكنني أقول لكم: إن من يرفع سيفه في وجه الشعب يُقتَل بسيف الشعب. ألمانيا اليوم ساحة جثث ولكنها ستكون غدًا جنة عدن، والشعب جسد، وأنتم عضو في هذا الجسد. عندما يعطيكم الرب علاماته عن طريق رجال يقودون الشعوب من العبودية إلى الحرية فانتفضوا واقفين، وسوف ينهض الشعب كله معكم.»

ولكن بُشنر يقضي الشتاء كله تحت إشراف والدَيه، يُعذِّبه المرض الذي سيصرعه في النهاية، وتُؤرِّقه الآلام التي يعاني منها جموع الناس. ويظل يواصل الاجتماع سرًّا بأعضاء جمعيته، ويستوجب أمام المحاكم، ويهرب من بيت أبوَيه ليعود إليه محطمًا بعد قليل، ويسمع صوت الإلهام فيكتب كالمحموم مسرحياته موت دانتون٤ وليونس ولينا وفويسك، ويُجرِّب عذاب الفن والمرض والقلق واليأس من نجاح الثورة حتى يسلم أنفاسه في فبراير سنة ١٨٣٧م ولم يكد يُتم الرابعة والعشرين عامًا من حياته الرائعة القصيرة، حياة شاعر وشعر حياة.
١  الجولدن عملةٌ فضية قديمة سادت في ألمانيا والبلاد المجاورة لها ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر بعد اختفاء مُعظمِ العملات الذهبية.
٢  يستطيع القارئ أن يرجع إلى نص هذا المنشور الثوري في إحدى طبعات أعمال بُشنر وأهمها طبعة فرتز برجمان، مطبعة إنزل، ١٩٥٨م.
٣  يقصد بُشنر الحرف الأول من اسم الأمير لودفيج الثاني حاكم دوقية هيسن في ذلك الوقت.
٤  انتهى كاتب السطور من ترجمة «موت دانتون» ويرجو أن تكون بين يدي القارئ عما قريب. أما مسرحيتاه «ليونس ولينا» و«فويسك» فقد ظهرتا في سلسلة مسرحياتٍ عالمية، العدد الحادي عشر، مع مُقدمةِ بُشنر وفنِّه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤