الدمية المسكينة
كلمات عن مسرح جورج بُشنر …
الطفلة تلعب بدميتها، هي في لعبها تُقلِّد ما تفعله أمها وغيرها من الأمهات بأطفالهن.
إنها تُطعمها، وتُلبسها، وتحكي لها الحواديت، وتشكو لها أحزانها الصغيرة، وتسألها عما
تريد،
والطفلة تعلم أن الدمية لا تأكل ما تُقدِّمه لها من طعام، ولا تتدفأ بالفستان الذي تضعه
عليها، ولا تفهم شيئًا من حواديتها، ولن تُجيب على أسئلتها الكثيرة؛ فهي تعلم تمامًا
أنها
ليست طفلًا حيًّا، بل دمية تلعب بها، وتقف منها موقف الأم من وليدها، ولكنها مع ذلك تعيش
في
بُعدَين، وتُضفي على دميتها وجودَين، وجود الشيء الواقعي البسيط، ووجودًا سحريًّا يتحرك
حركته الحرة في الخيال. الدمية إذن لا تلعب مع أمها الصغيرة، بل يُلعب بها، وليس معنى
هذا
أن الدمية مجبورة على اللعب؛ فهي لا تعرف شيئًا عن هذا الجبر، وليس لديها الحرية في أن
تلعب
أو لا تلعب.
واللعب يظل لعبًا ما بقي حُرًّا من كل هدف، وما بقِي تفتُّحًا طليقًا لإمكانيات الوجود؛
ذلك أن من علامات اللعب أنه يكفي نفسه بنفسه، وأنه لا يتقيد بهدفٍ يتجاوز حدوده وقواعده.
١ وإذا كان الشاعر الكبير شيللر يقول إن الإنسان يكون إنسانًا بكُلِّيته حين
يلعب، فهو إنما يكشف بذلك عن جانبٍ أساسي من جوانب وجوده، على نحوِ ما يتكشف له هذا الوجود
حين يُحِس بالموت، وحين يعمل، ويحب، ويكافح من أجل الحياة.
في أعمال جورج بُشنر المسرحية وفي رسائله وقصته الوحيدة «لنس» نُحس كأننا في مسرحٍ
كبير
للدمى والعرائس، تُحرِّكها يدٌ خفية مجهولة، وتُلقِّنها ما تُعبِّر به عن عذاب المصير.
إننا
لا نرى لعبةً واحدة متكاملة، بل سلسلة لا تنتهي من الألعاب الصغيرة الخاطفة، كل لعبة
فيها
وَحْدةٌ قائمة بذاتها، ومسرحٌ كوني صغير، الممثلون فيه لا يلعبون بالمعنى الحقيقي لهذه
الكلمة؛ فقد انتُزِعَت منهم حرية اللعب. لقد أصبحوا دُمًى حيةً تُؤدِّي دورًا فُرض عليها،
وتقف لحظاتٍ على المسرح تضحك وتبكي وتطرد عن نفسها الملَل وتُحاوِل أن تتعزَّى عن مصيرها
المظلم المحتوم.
قد يخطر ببالنا أن الدُّمى التي نتحدَّث عنها هنا هي نفس «الدمى الخشبية» التي نراها
لدى
الشعراء المثاليين الذين يتحدث عنهم بُشنر في رثاءٍ واحتقار،
٢ فهي لا تحمل أنوفًا في زرقة السماء، ولا تتصنَّع عاطفةً مفتعلة؛ ذلك أن شخصيات
بُشنر وإن بدت لنا في بعض الأحيان كالدمى الأليفة التي تُحرِّكها قوًى مجهولة وتشدُّها
بخيوطٍ غير منظورة
٣ (مثل الدكتور والضابط في مسرحية «فويسك»، ومثل روبسبير في مسرحية «موت دانتون»
حين تتسلط عليه العقيدة الفكرية فيُصبِح البوقَ الناطق بلسانها) فهي لا تتجمَّد في هذا
المظهر الذي يبدو منها، بل إن وجودها الخفي يلمع لمعاتٍ خاطفةً من وراء القناع الخشبي
الجامد، والأنا الحقيقية تبرقُ فجأة للحظاتٍ قصيرة، لكي تعود بعد ذلك فتستَتِر خلف الآلية
التي تُسيطِر على حركاتِ الدمية وسكناتها.
حديثنا إذن عن الدمى المسكينة في أعمال بُشنر لا ينبغي أن يُفهم منه أن شخصياته جامدةٌ
ثابتة لا تؤدي إلا الحركة التي تُفرض عليها من الخارج، بل الأَوْلى أن يُقال إنها شخصياتٌ
تتحرك في الفراغ، وترقُص دائمًا على حافة الهاوية، وتقف على أرضٍ غير ذات قرار، يمكن
أن
تنشَق في أية لحظةٍ فتبتلعها.
٤ إنها تتحرك حركةً أشبه بحركة البندول، تتألق لحظة ثم لا تلبث أن تغوص في
الظلام، لكي تعود فتخطَف الأبصار من جديد. لقد فقدَت المركز والوسط، فهي تحيا في توتُّرٍ
دائم بين طرفين، وتتأرجح بغير انقطاعٍ بين قطبَين، أحدهما يجذبها إليه والآخر يطردها
عنه،
وحيث تعجز لغتها المحمومة المُتقطِّعة عن التعبير عن المجهول الذي يُقيِّدها بأغلاله،
تُحاول إيماءاتها الصامتة أن تشير إليه، وتُؤدِّي دورها الكبير في التعبير الدرامي عنه.
الإشارة العاجزة، الإيماءة الخرساء، الحركة الكسيرة المغلولة، كلها تكشف عن الشخصية التي
يلعب بها قدرٌ محتوم، لا يدري أحدٌ إن كان يأتي من العالم الخارجي، أو إن كان يسكن في
ضمير
الإنسان. وتُصبِح الشخصيات نفسها مسرحًا لقوًى مستورة تتصارع على الدوام، فيبدو لها الحلم
كأنه الواقع، والواقع كأنه حلم. غير أن الواقع لا يشفُّ بكليته حتى يصير حُلمًا، والحُلم
لا
يستطيع أن يعكس كل أطراف الواقع. إنهما يختلطان على الدوام، ويقفان في علاقةٍ متبادلة
مع
أحوال النفس والوجدان، كل هذا يجعل من المستحيل على القارئ أو المشاهد أن يحشر الشخصية
في
شكلٍ سابق، أو يتنبأ بأفعالها على أساس من التطور العلي أو المنطقي — كما نستطيع أن نفعل
مثلًا مع شخصيات شيللر التي تكاد كلُّ كلمة تقولها وكل خطوة تسيرها أن تكون محسوبةً
مقدَّرةً من قبل! — ذلك أن شخصيات بُشنر من الثراء والتعقُّد بحيث يستحيل وضعها في قالبٍ
مرسوم، ولربما كان في استطاعة التناقض والمفارقة وحدهما أن يكشفا لنا عن جوهرها ويُقرِّبانا
من حقيقتها.
إن قوةً رهيبة لا اسم لها تلعب بمصير الإنسان، والإنسان يستسلم لهذا اللعب كما لو
كان
دميةً تعبث بها طفلة، ولكنه «يعرف» أن قوةً غيبية تلعب به، كما «يعرف» أنه مُجبَر على
اللعب؛ هذه المعرفة باﻟ «جبر» الغريب الذي فُرض عليه أن يلعب لعبه المضحك الحزين، هذا
الوجدان بأنه دميةٌ مسكينة تجذبها خيوطٌ لا تستطيع منها فكاكًا، هو الذي يميزه كإنسان؛
فلحظة الوجدان لا أثَر لها لدى الدمية الفاقدة الحياة، ولا وجود لها عند الحيوان ولا
عند
الملاك؛ لأن الإنسان وحده هو الذي يعرف أن اللعب من إمكانيات وجوده الأرضي المحسوس، مثله
في
ذلك مثل الموت والعمل والحب والكفاح. هذا الوعي بوجود قوةٍ مجهولة لا سبيل إلى الإفلات
من
سلطانها الجاثم الثقيل، هي التي تزيد من عذابه، وتُجرِّد لعبه من معناه الحقيقي. فويسك
ودانتون (في المسرحيتَين المعروفتَين بهذا الاسم) لا يلعبان، ولكن يُلعب بهما، التأمُّل
عندهما أقوى وأوضح من أن يتيح لهما الاحتفاظ بما يُسمِّيه هينريش فون كلايست ﺑ «لطافة
الدمى»، التي تحدَّث عنها في مقاله المشهور عن «مسرح العرائس»؛ فكلما ضعُف هذا التأمل
وازدادت عتامته، كلما تألَّقَت اللطافة في نورها البهي. فويسك ودانتون يلعبان، ولكن القوى
الغيبية تُلقي ظلالها عليهما فيبدوان كالأشباح المعتمة في مسارح الظل والخيال. غير أن
الإنسان يعلم أنه ليس دمية، فإذا اكتشف الحقيقة ذات يومٍ ورأى أن يدًا مجهولة تُحركه
وتلعب
بمصيره فقد عرف في نفس الوقت أن حرية اللاعب قد سُلبَت منه إلى الأبد، وأن عليه مع ذلك
أن
يستمر في لعبه، دون أن يعلم شيئًا عن طبيعة الدور الذي يقوم به، أو المُلقِّن الذي يُجري
الكلام على لسانه، أو الخاتمة التي ستُسدل عليها الستار. إن صراعًا هائلًا يعصف به، بين
وجدانه، بأنه إنسانٌ المفروض فيه أنه حُر، وبين إحساسه بأن وجوده قد ارتدَّ إلى وجود
«شيء»،
أو إلى دمية لا تختلف عن الدمى الخشبية. هاتان الشخصيتان تنتميان على المستوى الميتافيزيقي
إلى مجموعة يمكن أن نُسمِّيها تجاوزًا بالدمى الإنسانية. أما على المستوى الاجتماعي فهناك
شخصياتٌ لم يبزغ بعدُ لديها الوعيُ بأنها دُمًى، فهي أقرب ما تكون إلى الدمى الصمَّاء.
إنها
تأخذ نفسها مأخذ الجد، بينما هي لا تدري فحسب أنها تلعب، بل لا تدري كذلك أن قوةً مجهولةً
تلعب بمصيرها. إنها جميعًا تؤلِّف ما يشبه مسرح العرائس، الكل فيه ممثلون، والكل فيه
لا
يستطيع أن يحافظ على مسافة البعد الضرورية بينه وبين الدور الذي يقوم به. إن صائح السوق
في
مسرحية «فويسك» يكشف عنهم القناع، ويفضح سُخريتهم المضحكة المبكية، ويُحيلهم إلى حيوانات
أو
أشياء، والطبيب والضابط وضابط الطبول في المسرحية نفسها مَثَلٌ واضح على ذلك.
هنالك إذن في مسرح بُشنر ثلاثة أنواعٍ من اللَّعِب يمكن أن نُبيِّنها على الوجه
التالي:
- (١)
اللَّعِب بالإنسان كما لو كان دمية، وهو هنا لعبٌ ميتافيزيقيٌّ وكَونيٌّ
تحكُم الإنسانَ فيه قُوًى غيبيةٌ مجهولة لا اسم لها ولا عنوان.
- (٢)
تقليد الإنسان الذي لا يدري أنه دمية، ولا يُحس أن يدًا خفيةً تعبث به.
الصائح في السوق يكشف عن هذا اللعب، والطبيب والضابط يقومان به.
- (٣)
لَعِب باللعِب، حيث لا يعرف الإنسان دورًا يُمثِّله، ولا يجد مسرحيةً يظهر
فيها، بل لا بد له أن يخلُق له دورًا، وأن يبحث عن شخصيةٍ يتقمَّصها، حتى لا
يغوصَ إلى العدم ويسقُط في الفراغ. الشخصيات في مسرحية «ليونس ولينا» مَثَلٌ
على هذا.
إن الدمى في مسرح بُشنر لا تُشبِه في شيءٍ تلك النماذجَ الخشبية الجامدة التي نراها
على
مسارح العرائس؛ فلو سلمنا بذلك لأنكرنا التوتُّر الهائل الذي تُعانيه شخصياتُه بين الدمية
المسلوبة الإرادة وبين الإنسان الذي يعرف أنه محرومٌ من الحرية، بين الدَّور وبين الكائن
الحي. إنها، إن صحَّت المفارقة في هذا التعبير، دُمًى حية.
وبُشنر يُظهِر هذه الدمى الإنسانية الحية على المسرح، دون أن يهبط بها إلى مستوى
الدمى
الخشبية التي نراها على مسرح العرائس.
٥ وإذا كنا نُسمِّيها دُمًى فما ذلك إلا لأنها تعرف أن قدَرًا قاسيًا محتومًا
يلعب بمصيرها، دون أن «تعرف» مع ذلك شيئًا واضحًا عن طبيعة هذا القدَر.
إذا صَحَّ أن الدُّمى والعرائس تُفصَّل من المكان مباشرة،
٦ وأنها تعبير عن تصوُّر الإنسان للنِّسَب الفراغية، فإن الدمى في أعمال بُشنر
تتخذ أشكالًا مختلفة من المكان، وترتدي أزياءً مختلفة من العادات والأخلاق والطباع. دانتون
وفويسك كلاهما يقف على أرضٍ بلا قاعٍ، ويحيا في مكانٍ مُزدحِم بالظلال والأرواح. إنهما
يسيران على الدوام على حافة هذا المكان، مهُدَّدَين في كل لحظة بالسقوط في هاوية المجهول.
إنَّ قدَرًا معتمًا يطوف فوق رءوسهما، ويُرسل رعشتَه في نفوسهما وأجسادهما، أما في «ليونس
ولينا» فالدمى قد جُبِلَت من المكان المطلق النقي، وزُيِّنَت بملابسَ شفافةٍ منسوجةٍ
من
خيوط الأحلام. إنها لا تظهر على المسرح كما لو كانت عرائسَ تُحرِّكها قوةٌ خارجية، بل
تُحاول بالمرح الرقيق الحزين أن تُهوِّن من ضغط القدَر الجاثم على صدرها، وباللعب الرشيق
أن
تُحوِّل الأعين عن عبث اللعبة الخرساء التي فُرِضَت عليها. غير أن محاولتها لا تنجحُ
إلا
بمقدارِ ما تقف العين عند المظهر الخارجي من حركاتها الآلية، حتى إذا نفذَت إلى السر
الباطن
وراء هذا العالم المُلوَّن البهيج من الدمى والعرائس، استطاعت أن تُدرِك مقدارَ العذاب
البائس الذي تُعانيه، وقسوة القدَر الذي تُحاول أن تتعزَّى عنه.
في مطلع الفصل الأول من «موت دانتون» نجد الإيذان بابتداء لُعبة القدَر في هذه المسرحية،
وتبدو الشخصيات، وفي مقدِّمتها دانتون، وكأنها تبحث في اللعب عن ملجأ تهرب إليه وتعمل
كلماتٌ كالتي يقولها دانتون: «إنني أُغازل الموت أو إنني أُدلِّلُـه.» على سلب الموقف
طابعَه
الجاد، وإن لم تستطع أن تسلبَه روحَه التراجيدية. إن الشخصيات تَظْهر في الفصل الأول
وهي
تلعب بالورق، بينما تلعب بها في الحقيقة قُوًى علوية غيرُ منظورة. ويبتعد دانتون عن نفسه
بالسخرية التي يتهكم بها من ذاته، ويصبح هو المتفرج على الدور الذي يقوم به، لعله أن
يزداد
معرفة باللعبة التي قُضي عليه أن يقوم بها. غير أنه كلما تمادى في اللعب كلما ازداد إحساسًا
بخطورة موقفه. وهكذا تنقسم الأنا عنده إلى شطرَين، يُراقِب أحدهما الآخر مراقبة الذات
للموضوع، ويتهكَّم به ويسخر منه. إنه يقوم بلعبةٍ لا معنى لها ولا نتيجة، تدور بين العقل
والعاطفة وبين الكآبة والسخرية المريرة.
٧ ويزداد الصراع لديه بين الهروب من ماضيه والعبث بالقدر الذي يتهدده. إنه يلعب
مرة حين يُحاول الهرب من ماضيه ومن ذكرى حمامات الدم المشهورة في تاريخ الثورة الفرنسية
التي ساهم فيها في شهر سبتمبر بدورٍ كبير، وهو يلعب مرةً أخرى حين ينظر إلى الموت الذي
يقترب منه نظرة السخرية والاحتقار. إنه يصرُخ في مشهد «الغرفة» قائلًا: «سبتمبر!» يريد
أن
ينسى وأن يمحو ذاكرته. إنه لن يجد الراحة والأمان إلا في القبر، وهو حين يلعب لعبته مع
الموت يُحاول أن يجد الخلاصَ من قبضته. إن لعبه هروب ورجاء.
وهو كذلك يلعب في موقف المناقشة الحادَّة التي تدور بينه وبين روبسبير، بلسان قانونٍ
أبدي
صارم، وبينما يُعبِّر عما يمكن أن نُسمِّيه باﻟ «نحن الجمعية» المُتسلِّطة عليه، نجد
دانتون
يتحدث إليه حديثَ الإنسانِ للإنسان، حديث اﻟ «أنا» مع اﻟ «أنت». إنه بذلك يخلط بين بُعدَين،
ويُفسِد لعبته بنفسه، حتى تُصبِح لعبة الموت التي تقتله في النهاية، ولكن هذا لا يحدث
عبثًا؛ فدانتون قد اكتشف الحقيقة، ورأى ببصيرته النافذة أنه ألعوبةٌ في يد قوةٍ غيبيةٍ
مجهولة لا سبيل إلى الإفلات من قبضتها المحتومة، وهو يعرف أيضًا أنه كالدمية التي تُحرِّكها
هذه القوة إلى المصير المظلم المجهول. إنه يحاول عبثًا أن يؤكِّد الحياة الشخصية في مقابل
الأيديولوجية الجامدة، ويضع عذاب الذات الفانية في مواجهة الفكرة المملة المجردة، ويدافع
عن
حقوق النفس إزاء الواجب الذي يفرضه التاريخ. ربما كان دانتون يُحاول بذلك أن يُعبِّر
عن حق
هذه الدمى المسكينة في أن تصرخ قائلة: «لا.» حتى ولو لم تجد أُذنًا تستمع إلى صرختها
اليائسة، وربما أَحسَّ أن هذه الصرخة لا جدوى منها، فقنع بأن ينزع النقابَ عن الحياة
الإنسانية والفعل الإنساني، وأن يضع على شفتَيه ابتسامتَه الساخرة، وعلى وجهه إماراتُ
عدم
الاكتراث. إنه يؤدي الآن لعبته الصغيرة داخل اللعبة الكونية الكبيرة، ويعرف أن اللعبة
خاسرةٌ في النهاية، كما يعرف أن كل لعب لا جدوى منه ولا طائل من ورائه: «ما نحن إلا دُمًى،
تشُد خيوطها قُوًى مجهولة. عدَمٌ نحن، ما نحن إلا عدَم، سيوفٌ تتصارع بها الأشباح فيما
بينها، غير أن الإنسان لا يرى الأيدي التي تحركها، تمامًا كما يحدث في الخرافات.»
٨
وعلى الرغم من معرفته بضياع الإنسان وعلمه بأنه كالدمية العاجزة في يد القوى العمياء،
نجده يواجه القَدَر مواجهة اللاعب الحر. إننا لن نجد فيه أثرًا للعدَمية التي طالما وصَفَه
بها النقاد؛ فمعرفته بأنه لا حيلة له أمام القوة المجهولة تزيد عاطفته حدة، وتعمق الألم
الذي يحاول أن يكتمه، وإدراكه لدوره الصغير في داخل مسرح الدمى الكوني الكبير هو الذي
يدفعه
— بإرادته — إلى يدِ الجلَّاد الذي سينتظره على المقصلة.
في المشهد الأول من الفصل الثاني من «موت دانتون» نلمس هذا اللعب المتعِب الذي يمتزج
فيه
الملل بالكآبة. اللاعب يتعذب باللعب، ويضيق بالدور الذي فرض عليه من قبل: «هذا شيء ممل
إلى
أقصى حد، أن يلبس الإنسان القميص أولًا، ومن بعده السروال ويرقُد في الفراش في المساء،
ويعود فينهض منه في الصباح، ويُقدِّم على الدوام قدمًا على الأخرى، دون أن يعرف إلى متى
سيستمر هذا كله ولا متى سيتغير.»
٩ ويصبح اللعب، الذي كان من الممكن أن يجد فيه الإنسان مخرجًا من دائرة الحياة
اليومية المتشابهة، هو نفسه أزمة لا مخرج منها. الإنسان إذن لا يلعب، بل يُلعَب به. هذه
المعرفة الأليمة تُضفِي على العمل الدرامي طابعَه القدَري الحزين، وتهبط بالشخصيات إلى
هاوية الضياع، وتُصبِح المأساة الحقيقية هي مأساة الإنسان الذي يُلعب به، لا في اضطراره
هو
نفسه إلى اللعب. إن كلمة «يجب» هي إحدى اللعنات التي عمد عليها الإنسان.
١٠ كان اللعب دائمًا بطبيعته متحررًا من القهر والاضطرار، وها هما يتحدان هنا
بأوثقِ رباط، ويخلقان جوًّا من الكآبة والتعب من تَكْرار الشبيه الأبدي. قوةٌ قدَرية
غامضة
تُخيِّم على اللعب، وتُحرِّك الشخصيات، كما يُحرِّك الإنسان دُميةً من خلف ستار. إنها
تُحيل
المكان الذي تُدثِّره الظلال إلى ما يشبه مسرحَ خيالِ الظل. الشخصيات تحلُّ محل بعضها،
وتسير غير مقيدةٍ ولكن غير حرة، حالمة ولكن مسلوبة من وَهْم الأحلام، وتلعب لَعِب الدمى
فيبدو صراع الإنسان مع «القانون الحديدي»
١١ الذي يقيده شيئًا مضحكًا محزنًا في وقتٍ واحد، وتتجمع كلها في صرخة تطلقها
امرأة تقول لدانتون: «ضائع!» فتتردَّد في جنَبات الصالة وتُجاوِزها إلى قاعة المسرح الكوني
الكبير، كأنها شكوى الخليقة تتقدم بها إلى سمع إلهٍ صامتٍ بعيد.
من العلامات الدالة على مسرح بُشنر أن المشهد الأول من «موت دانتون» يبدأ كما ينتهي
باللعب؛ فالجماعة التي نراها على المسرح بمجرد أن تُرفَع الستار تلعب الورق، ولكنه لَعِب
حُدِّدَت خسارته من قبلُ، كما أضفى التعب والملال على المشهد الخافت الأضواء غلالته
الشاحبة. الشخصيات مشلولة عن الفعل؛ فلا هي تستعيد الماضي ولا هي تنتظر المستقبل، جو
من
الصمت والكآبة المقدورة يُوحي بالنهاية المقبلة. إن المشهد يبدأ بقول دانتون: «انظر إلى
السيدة الجميلة، كيف تُفنِّط الأوراق بمهارة! حقًّا! إنها تفهم كيف تلعب؛ يُقال إنها
تُبيِّن لزوجها «القلب» ولغيره «الكارو». ويختتمه هيرو بقوله: «نعم، لتضييع الوقت فحَسْب،
كما يحدث في لعب الشطرنج.» فنعود إلى اللعب من جديد.
من ذا الذي لعب إذن في هذه القاعة، وقد حرم الجميع من حرية اللاعبين؟ من الذي أدار
المسرح، وحَرَّك الشخصيات، وخلَق مسرحًا صغيرًا في داخل المسرح الكبير؟ إنها القوة المجهولة
الرهيبة، التي لن نجد لها اسمًا إلا أن نقول عنها «هي». ويخلق الصراع الباطني المحتدم
بين
الشخصيات وبين اﻟ «هي» المجهولة ذلك التوتُّر الدينامي الذي يسري في كل مسرحيات بُشنر؛
ويختلط الواقع وما فوق الواقع، ويتشابك العالم الدنيوي مع العالم الآخر، وتقف الخليقة
المعذَّبة وجهًا لوجه أمام الكل الصامت الذي لا يكترث.
ولكن كيف يبدو العالم وكأنه مَسرحٌ من الدمى والعرائس؟ وكيف نستطيع أن نقول إن الدمية
غير
الحية التي تُحرِّكها يدٌ كما تشاء يمكن أن تنطبق على الإنسان؟ من الذي يجذب خيوطها
ويُحدِّد لها دورها؟
ليس هو الله على كل حال، بل تلك القوة المجهولة المحتومة التي تنطق بلعنة «يجب» والتي
لا
مفر من قانونها القاسي العنيد. ربما اقتربنا من هذه القوة المتسلطة التي لا يدركها العقل
إذا عرفنا رأي بُشنر في قدَرية التاريخ، كما عبَّر عنه في رسائله الكثيرة إلى خطيبته
ووالديه: «إنني أشعر كأنني أنسحِق تحت أقدام القدَرية التاريخية المقيتة. إنني أجد في
طبيعة
الإنسان تشابهًا مفزعًا، وأرى في العلاقات الإنسانية قوةً حتمية أُعطِيَت للجميع ولم
تُعطَ
لأحد. ليس الفرد إلا زبدًا يطفو على الموج، ولا العظمة غير عرض زائل، ولا سلطة العبقرية
سوى
لعب بالدمى، وصراعٍ مضحك مع قانونٍ حديدي، أقصى ما يطمح الإنسان إليه أن يعرفه، وإن يكن
من
المستحيل فعليه أن يتحكم فيه.» ثم يقول في رسالة أخرى: «ما هذا الذي يكذب فينا ويقتل
ويسرق؟» «آه! نحن الموسيقيين المساكين الذي نرفع أصواتنا بالصراخ. أنَّاتُنا ونحن نُجلد،
هل
جُعِلَت لتنفُذ من بين شقوق السحب وتظل تتردَّد وتتردَّد كأنها همسةٌ منغَّمة لتموت في
آذان السماء؟!»
١٢
هذه القدَرية المقيتة هي التي تَتحكَّم في مصير البشر، وتسخر من مأساة وجودهم الفاني،
وتُجرِّف أتعابهم إلى البحر، والبحر ليس بملآن، وهذه القوى الرهيبة لا تتسلط فوقهم فحسب،
بل
تسري في حياتهم، وتنفُذ في لحمهم وعظامهم، والذي يكذب ويقتل ويسرق لا يدري ما يفعل. إن
قوةً
معتمة تسوقه إلى هذا الفعل، دون أن يدري عنها شيئًا (كما نرى في فويسك الذي لا يقتل بل
يدفع
إلى القتل كأنه ممسوس) وكل من ينفُذ ببصيرته إلى أسرار قانونها، يبدو له كل فعل عبثًا
وكل
تعبٍ لا جدوى منه. إن معرفته تشلُّ فعله، وتأمَّله يذيب إرادته؛ هذه المعرفة التي يكتشف
فيها أنه دمية عاجزة هي التي تمهد لسقوطه (كما نرى عند دانتون الذي يكاد أن يكون صورة
من
هاملت).
عالم «فويسك» عالم تتسلَّط عليه هذه القوة الرهيبة التي سمَّيْناها باﻟ «هي» فتسوقُه
كما
لو كان دمية، وتجعل حياته كما لو كانت لعبةً من ألعاب الدمى. وشخصيتا «الدكتور» و«الضابط»
أقرب شخصيات المسرحية إلى طبيعة الدمية؛ كلاهما من طبقةٍ اجتماعية منقرضة،
١٣ يمثلان نظامًا اجتماعيًّا محكومًا عليه بالزوال، وينطقان عن عقلٍ أجوف، وأخلاقٍ
فاسدة، ونزعةٍ علمية متحجرة. لقد صوَّرهما بُشنر في صورة المسخ الكاريكاتورية، وجمع فيهما
كل طاقته الثورية في نقد المجتمع والعادات السائدة في عصره، ومع ذلك فهما أكثر بكثير
من أن
يكونا مجرد لوحتَين ساخرتَين من مجتمعه، وشخصيتاهما تتجاوزان حدود الدمى والأعراس
الجامدة.
حقًّا لقد أثَّر الرسم الكاريكاتوري في تكوينهما، ولكنه لم يستطع أن يستنفد كلَّ
ما فيهما
من غنًى وثراء.
١٤ إن الأرض التي يبدو كأنهما يقفان عليها في ثقة واطمئنان، تنشق عن هاوية الضياع
التي تتهدَّدهما في كل لحظة؛ فالضابط والدكتور يظهران وكأن فكرةً ثابتةً تسيطر عليهما؛
أما
أحدهما فهو سجين تزمُّتِه الذي يحسبه فضيلة، وأما الآخر فيستولي عليه جنون التجريب العلمي،
غير أن شخصيتهما لا تنحصر في حدود الكاريكاتير؛ ذلك أن وراء الآلية التي نراها في سلوك
الضابط والدكتور ذاتًا محطَّمةً تختلج بين حين وحين بعاطفةٍ إنسانية تلمَس قلوبنا بصوتها؛
فالدكتور قلق على مريضه، على الرغم من النصوص العلمية التي يُردِّدها ترديد الآلة، والضابط
كما يقول عن نفسه إنسانٌ من لحم ودم، يصيبه ما يصيبه بقية الناس من حزن واكتئاب، ويشعر
باﻟ
«طبيعة» التي تقيد رجلًا مثل «فويسك» بأغلالها، حتى إذا تمكَّنَت منه فكرته الثابتة عن
الفضيلة، عاد إلى طبيعة الدمية من جديد.
١٥ حقًّا إن شخصية الضابط أكثر تناقضًا من شخصية الطبيب، إنه يقفز من مستوًى إلى
مستوًى، ويطفو على السطح مرةً ليغوص في الأعماق مرةً أخرى، ويُكرِّر جملته «أنت رجلٌ
طيب»
تكرارًا رتيبًا، ثم لا يلبث الحب والحزن أن يستوليا عليه ويُعرِّيا وجوده الممزق: «إذا
جلستُ أمام النافذة وقد سقط المطر ورحتُ أتابع الجوارب البيضاء ببصري، ورأيتُ كيف تقفز
على
أرض الحارة، اللعنة يا فويسك، هنالك ينتابني الحب!» أو حين يقول: «شفتان يا فويسك، أنا
أيضًا قد جرَّبتُ الحياة.» «إنني أُحس بالكآبة، بشيءٍ يُولِّد الحزن في نفسي؛ إنني أبكي
دائمًا على الرغم مني، كلما رأيتُ سترتي معلقة على الحائط.»
١٦
إنه في كل هذه الحالات يُوقظ في نفوسنا الإحساس بالمسخرة؛ في عباراتِه الجوفاء التي
يُكرِّرها كالببغاء، ولغتِه التي تُعبِّر عن نفسها بالإشارات والإيماءات أكثر مما تُعبِّر
عن نفسها بالجمل الدالة، بل لقد تُفصِح عن نفسها في حركات الأيدي والأرجل، فلا نستطيع
أن
نجد المركز أو الأنا الواحدة التي تختفي وراءها، بل نُحس أنها أقربُ ما تكون إلى
الدمى.
سخرية هذه الشخصيات تتولد عن اصطدام الأنا بالقوة الغيبية المتسلطة عليها؛ فالضابط
يبدو
لنا كأنه أداةٌ في يد تلك القوة تُوجِّهه حيث تشاء، أو كأنه مخلوقٌ لا وجه له، يختفي
وراء
قناعٍ يُحس فيه بالأمن والارتياح. غير أنه لا يُفلِح في ذلك تمامًا؛ فهو على الرغم من
كل
شيء ليس مجرد دميةٍ صمَّاء كما قدمنا، وإنما يكشف لنا في لمحاتٍ خاطفة عن الصراع القائم
في
المسرحية كلها بين الخليقة والدمية، بين الكائن الحي والكاريكاتور الأجوف. وإذا كان هو
نفسه
لا يرى المسخرة التي تنطوي عليها شخصيته، بل يُصرُّ على أن يتندَّر بها عند غيره، فإن
ذلك
يزيد من سخرية شخصيته: «الوغد الطويل يُوسع خطاه، كأنه ظلُّ رجلٍ عنكبوت، والقدَم الأخرى
تَعرَج. الرجلُ الطويلة صاعقة، والرجل الصغيرة رعد، ها ها! … مسخرة! مسخرة!»
شخصية روبسبير في مسرحية «موت دانتون» مَثَلٌ آخرُ على هذا؛ فمحامي الثورة الفرنسية
يرتدي
قناع المدافع عن أفكارها الأيديولوجية المطلقة، ولكننا نلمح وراء هذا القناع ما تُعانيه
نفسه من صراع يجعلها تنشق إلى شطرين ينكر أحدهما الآخر: «لست أدرى ما الذي يكذب صاحبه
في ذاتي»
١٧ «كل ما أمامي خراب وفراغ. إنني وحيد.»
١٨ هذه الأنا المُتصدِّعة لم تذُبْ بعدُ في طوفان الأيديولوجية. إنه يُحدِّث نفسه
حديثًا طويلًا ينفُذ به إلى باطنه، ويرى نفسه تِرسًا صغيرًا يدور في عجلة الثورة، تُسيطِر
على «الأنا» لديه قوة اﻟ «نحن» المجرَّدة. ولكن المتعصب للمذهب ما زال بشرًا كغيره. وإذا
كان يكبت حاضره في سبيل مستقبلٍ لم يأتِ بعدُ، فلن يلبث بعد حينٍ أن يُمزِّق القناع
المصطنَع الذي يُغلِّف قلبه، ويستمع إلى صوته الخافت يهمس في أذنه. أرادت اﻟ «أنا» عند
روبسبير أن تهرُب خارج الزمن، لكن قانون اللحظة الراهنة سيُجبِرها على أن تعود إلى نفسها.
إن «موظفًا» جديدًا من موظفي الثورة (سان جوست) سرعان ما يحلُّ مكانه ليقضى عليه في
النهاية. الآن قد تخلى عنه الجميع، فهو يستطيع أن يرجع إلى نفسه، والأنا التي تَعِبَت
من
ارتداء قناع النظريات المجردة، تُحس الآن وَحْدتها وانفرادها: «إنهم جميعًا يتخلَّون
عني.
كل شيءٍ حولي وحشة وفراغ. إنني وحيد.»
لكن القوة المجهولة التي سمَّيْناها باﻟ «هي» — وإن كانت لا تعرف الأسماء — تحمل
وجوهًا
كثيرة وتلبس أقنعةً مختلفة، إنْ تسلَّلَت إلى الذات ووضَعَتْها في قيدها فهي نزوعٌ محموم
لا
يدري الإنسان كيف يُروِّضه أو يُسمِّيه. «ماريون» في «موت دانتون» تقول إنه هو «الطبيعة»
التي لا تستطيع أن تفلت منها: «كانت تلك هي طبيعتي، من ذا الذي يستطيع أن يخرج عن طبيعته؟»
١٩ لقد استسلَمَت «للهي» المجهولة حتى ذابت نفسُها فيها: «لكنني صرتُ كالبحر الذي
يبتلع كل شيء وراحت أعماقه تضطرب وتضطرب.»
٢٠
وضابط الطبول في مسرحية «فويسك» قد تسلَّطَت عليه كذلك هذه القوة الخفية، وراحت تدفعه
كالدمية العاجزة، تشد خيوطها قوًى مجهولة.
٢١ لقد استحالً كتلةً من اللحم المتوهِّج الأعمى، تسوقها الطبيعة والشهوة إلى حيث
تشاء. وماريا — زوجة فويسك — يُعجبها هذا الاندفاع الغريزي فيه فتُعبِّر عن إعجابها بقولها:
«صدره صدر ثور، وذقنه ذقن سبع!»
٢٢ إن هناك فكرة ثابتة تقيدهم جميعًا؛ فالضابط لا يستطيع أن يتحرر من خوفه من
الشلل، والدكتور لا يستطيع أن يتحرَّر من جنون التجربة العلمية، وضابط الطبول لا يملك
أن
يقاوم طبيعته الشهوانية، وهو يأتي على لسان دانتون (الفصل الثاني، نزهة، ص٣٨) فيُعبِّر
عنه
هذا الدافع الحسي الذي يستطيع أن يُحول البشر إلى حيواناتٍ تُجامع بعضها كالكلاب على
قارعة
الطريق. دانتون: «ألا يبعث هذا على المرح؟ إنني أتشمَّم شيئًا في الجو، كما لو كانت الشمس
تُفرِز الرذيلة والفجور. ألا يشتهي الإنسان أن يقفز ويمزِّق سرواله عن جسده ويجامع النساء
كما تفعل الكلاب في الحارة؟»
والقوة المجهولة قد تنفُذ إلى ضمير الإنسان فتتحكَّم فيه فكرة ثابتة تُحيله إلى محض
آلة
تُردِّدُها ولا تستطيع أن تفلت من سلطانها. لنس (في القصة الرائعة التي لم تتم والتي
عبَّر
فيها بُشنر عن لحظات الجنون التي انتابت شاعر عصر العاصفة والاندفاع الألماني الغريب
الأطوار في أواخر حياته) تُعذِّبه الرغبةُ المجنونةُ في أن يمشي على رأسه.
٢٣ وهو لا يستطيع أن يتصور كيف لا يتحقق اللامعقول على هذه الأرض، ولا كيف يعجز عن
تحطيم القانون الطبيعي. إنه في مواضعَ كثيرةٍ من هذه القصة المحمومة يكاد أن يكون الدمية
التي تستغيثُ وتصرخُ وتُحاول الإفلات من قبضة المجهول الذي لا تستطيع تحديده: «أبدًا
تنفُذ
اﻟ «هي» إليه، أبدًا تشُق صَدْره … وتعود إليه بلا انقطاعٍ فيُخيَّل إليه أن من المحتم
عليه …»
٢٤
إن قُوًى خفيةً محفوفة بالأسرار تدفع بلنس إلى هاوية الجنون، وتُرسِل الرعشة المحمومة
في
جسده ونفسه: «كان يُحس بقوةٍ طاغيةٍ تضطرب في نفسه وتشُدُّه إلى الهاوية.»
٢٥ إنه يُقاوِمها بكل قوته، ويتمنى أو استطاع أن يَسحَق العالم بأسنانه ويَقذِف به
في وجه الخالق.»
٢٦ ثم يكُف عن التجديف ويغلبُه الشوق إلى الأمان والاطمئنان في يد الرحمن،
وتُعاوِنه النظرة الرحيمة التي تنبعث من عين العمدة الطيب وأبرلين الذي ينزل ضيفًا عنده،
ويستبد به الإحساس بعذاب الخليقة فيرتدي مُسوحَ قديسٍ ويُحاول أن يرد الحياة إلى طفلٍ
ميت،
ولكنه يعود خائبًا من زيارته له، ويتشبَّث به الخوف من قوةٍ لا يدركها وإن كان يشعر
بقبضتها، وتتفتَّت ذاته شيئًا فشيئًا إلى أن يفقدها في النهاية. ويظل يَتخبَّط في هذا
الصراع الدرامي حتى يسقُط في ظلام الجنون الذي لا شفاء منه.
إن الحَيْرة تَملِكُنا أمام هذه القوة القدَرية المجهولة التي تتغلغل في أعمال بُشنر،
فلا نستطيع أن نُحدِّد هل هي كامنةٌ في أعماق الإنسان أم في العالم المحيط به
٢٧ لقد انمَحَت الحدود الفاصلة بين الداخل والخارج، والحلم والواقع، والذات
والموضوع، حتى صار من العسير علينا أن نعرف إن كان لَعِب الدمى يدور في العالم الخارجي،
أو
إن كانت نفس الإنسان هي مسرحه؛ فالباطن مختلط بالظاهر، والرؤى متداخلة في الأشياء، والمكان
الدرامي تسوده ظلالٌ مرتجفة تتراقص في النور المعتِم، والأحداث يُغلِّفها ضباب الأحلام
وتصل
إلى مستوًى يفوق الواقع، ولكنها تحتفظ مع ذلك بثقل القوة المجهولة وتدُلُّ على قسوة قبضتها
الغليظة.
ويظهر لعب الدمى في مسرح بُشنر في أوضح صورة في مسرحيته «ليونس ولينا». إن طابع الجِد
الذي ساد اللعب حتى الآن يُصبِح، إن صح هذا التعبير، لَعبًا بالجِد. هنا تشفُّ الدمية
عن
خفَّتها ورشاقتها، وتُسخِّر سخريتها الرقيقة فتُبكينا ضحكاتها وتُسلِّينا دموعها.
«ليونس ولينا» مسرحيةٌ حالمة، أو حُلمٌ مسرحي، ولكن الحُلم الذي تسبح فيه ليس هدفًا
في
ذاته، بل يواجه الواقع مواجهةً ديالكتيكيةً مستمرة. وإذا كان هذا الواقع يبدو لنا كأنه
قد
صفا وشفَّ إلى حد الزوال، فهو يفرض نفسه علينا فلا نستطيع أن ننساه. ويمتزج الحلم بالواقع
وتُصبِح المسرحية لعبةً مرحةً عن لعبة القدر المريرة. كلُّ ما حرَّك قلوب الناس منذ بدء
الخليقة؛ الحب والأمل، الإيمان والحضارة، الثقافة والتقاليد، كلها تقفز على المسرح كالدمى
والعرائس: «لا شيء غير الفن والآلية، لا شيء غير ورقٍ مُقوَّى وزميلك!»
٢٨ إن هذه الدمى جميعًا تُحاول عن طريق السخرية بنفسها أن تُعرِّفنا بأنفسنا،
وتُمهِّد لنا سبيل الحرية والخلاص عن طريق هذه المعرفة، ولكن المُحاوَلة تظل مع ذلك مجرد
محاولة؛ فمع النهاية السعيدة يزداد الإحساس بتعاسة المصير، وبالرغم من العزاء الموهوم
يتأكد
لدينا اليقين بأنه ما من عزاء.
في «ليونس ولينا» تتداخل الدمية مع الكائن الحي، فالشخصيات (وبالأخص روزيتا) تُشبِه
دُمًى
حلوة مُلوَّنة ترقص وتُغنِّي وتبتكر على الدوام ألعابًا جديدة، دون أن تفقد مع ذلك شيئًا
من
حيويتها. ويُخيَّل لنا في سِحر الحُلم وصفائه كأن قوة القدر المجهولة قد غفَلَت عن اللعبة
إلى حين؛ فالدمى الحية لا تني تبتكر لُعبةً بعد لعبة، وتنسج خيطًا بعد خيط، كأنما تخشى
أن
تسقط في العدَم بين لحظة وأخرى، أو يُباغِتها القدر على غير انتظار، ولكن لعبها المرح
لا
يستطيع أن يُخفي عنا أنها هي نفسها جزء من اللعبة الكبيرة، ومحاولتها المستمرة للعثور
على
حل لأزمتها لا يخدعنا عن أنه لا حل هناك، ودعاباتها اللطيفة بالكلمة الغريبة، والإشارة
العجيبة لا تستطيع أن تملأ فراغ الملل المُوحِش الذي يحيط بها، حتى اللعبة المرحة ينبغي
أن
تُلعب بالإكراه. المهزلة الضاحكة تُظهر المأساة بدلًا من أن تُخفيها. الشخصيات تبدو في
لحظة
من اللحظات كأنها فاقدة الحياة، ولكنها لا تلبث أن تُبعث فجأة وهي تتفجر بالحياة. إنها
مخلوقاتٌ عجيبة تبدو في كل لحظةٍ في شكلٍ جديد، وتضطر مع كل نفس تتنفسه أن تؤكد وجودها.
اليد التي تُحرِّكها لا يراها أحد، والقوة التي تتحكم فيها لا سبيل إلى الخلاص منها.
لَعِبُها في نفس الوقت عبثٌ وإكراه، مظهر وحقيقة، حُلم وواقع.
إن الشخصيات في «ليونس ولينا» لا ينتظمها حدثٌ منظور ولا تسير في خطٍّ متصل؛ هناك
تفكُّكٌ
بين الشخصية والفعل، وانفصالٌ بين الدور والممثل الذي يقوم به، ليونس ولينا كلاهما يبدو
كأنه يهرب من الفعل الأساسي، ولكنهما يلتقيان مصادفةً وكأن يدًا خفية تُحرِّكهما إلى
هذا
اللقاء، وتؤلِّف بينهما في وحدة الانسجام المقدور. إن القوة المجهولة التي تدفع دانتون
وفويسك إلى الموت هي نفسها التي تسوقهما إلى السعادة، ولكن المأساة تظل في السعادة كما
في
الشقاء هي نفس المأساة؛ فكلاهما يلعب به القدَر كما يلعب بالدمية المسكينة، وربما كان
الفرق
في الحالَين هو أن تلك القوة المجهولة تضع على وجهها قناعًا ضاحكًا وتُعبِّر بالنكتة
والدعابة بدلًا من اليأس والصراخ. وفجيعة الطفل التائه في حكاية الجدة العجوز التي ترويها
للأطفال في نهاية «فويسك» تلبس الآن حُلةً رقيقةً شفافة، دون أن تفقد شيئًا من عذاب الفجيعة
والمأساة.
ليونس وفاليريو الذي يُحاول تسليته لا يلعبان دورهما بل يلعبان بهذا الدور، وإذا شئنا
الدقة فهما لا يعرفان في الحقيقة دورًا يقومان به، بل يبحثان عن دَورٍ في مسرحية لا وجود
لها؛ ومن ثَمَّ فهما لا يستطيعان أن يمثلا نفسهما أو غيرهما في لعبةٍ لم يعثرا عليها
بعدُ،
وإنما يكتفيان بالتهكُّم والسخرية من بقية اللاعبين. لقد عرفا حقيقة اللُّعبة، وابتعدا
بمسافةٍ كَافية عن اللعبة التي يقوم بها من لم يعرفوا بعدُ أن قوةً خفية تلعب بهما، فراحوا
يُؤدُّون أدوارهم المرسومة لهم في جد واطمئنان.
لم تكن مصادفةً تلك التي دبَّرَت هذه اللعبة، بل قوة غير منظورة وجَّهَتْه وأضفَت
عليه
مظهر الحدث؛ ولذلك فالمهزلة لا تترك فينا أثرًا هزليًّا، والضحك لا يصبح ضحكًا خالصًا.
إنه
يمتزج دائمًا بالبكاء، كما تقترب الكوميديا من التراجيديا. القوى المُفزِعة تنفذ إلى
العالم
فيشعر الإنسان بأنه غريب فيه، ويتسلل ما يشبه الشلل الخفي فيُسيطِر على البشر والأشياء،
ويُوقِف حركة الحياة، وينشر السأَم في كل مكان. ليونس وفاليريو غريبان في عالم غريب،
يُحاوِلان أن يُحطِّما المنطق المألوف، ويُوقفا القانون الطبيعي، ويكشفا السر الكامن
وراء
اللعبة الكبيرة.
«يجب» المحتومة هي كلمة السر في هذه اللعبة، واللَّعِب الجدي الذي يصل في بعض الأحيان
إلى
ذروة السحر والصفاء، لا يستطيع مع ذلك أن يحجُب عنا هاوية اليأس التي يتراقص على حافتها
اللاعبون. إن حكاية الطفل الضائع في متاهات الكون على لسان الجدَّة العجوز (في «فويسك»)،
وشكوى دانتون وهيرو وكاميل،
٢٩ تتكرر في حلم «ليونس ولينا» في جوٍّ أثيريٍّ شفاف.
عذاب ليونس وفاليريو الذي لا عزاء عنه يكمُن في أنهما مُجبَران على لعبٍ لا مخرج منه.
حقًّا أنهما يجدان متعةً في هذا اللعب، ولكنها ليست متعةً خالصة، بل هي — إن صحت المفارقة
—
متعةٌ تنبع من اليأس، هي متعة المهرج الذي فُرض عليه أن يُضحِك الجماهير قبل ساعاتٍ من
تنفيذ حكم الإعدام عليه. إنه يلعب الآن لعبة الموت والحياة، لا يترك قيمة إلا قلبها على
رأسها، ولا شيئًا مُقدسًا إلا سخر منه. إن الشخصيات في «ليونس ولينا» تلعب بالكلمات كما
يلعب الحاوي بالمناديل أو البهلوان بالكرات، وهو لعب لا ينجو منه الإنسان، فربما استطاعت
روزيتا في المشهد الثالث من الفصل الأول أن تقول لليونس: أنت أيها اللاعب الأبدي، أما
آن لك
أن تكف عن اللعب بي؟ ومثل هذا السؤال يمكن أن يُوجِّهه ليونس ولينا إلى فاليريو في مشهد
الأدوات الآلية. إنه في الحقيقة لَعبُ من يُحسون بالملل القاتل من كل شيء، وهو أيضًا
ذلك
اللعب المحزن المميت، الذي يستطيع في كل لحظة أن يُحطِّم نفسه بنفسه؛ التوتُّر فيه قد
بلغ
ذروته، والقطب قد انعطف على القطب المضاد له؛ فهناك الكلمة العابثة والآلة الجامدة، الوجه
والدمية، المتعة واليأس، الفناء في الحب والابتعاد عن المحبوب.
اللعب في «ليونس ولينا» غيره في «موت دانتون»؛ فدانتون يبدو كأنه قد اختار دوره بنفسه
وما
هو في الحقيقة إلا ممثلٌ في تمثيلية قد حُدِّدَت من قبلُ. علمه بأنه ضائع وبأن اللعبة
كلها
خاسرة يشلُّ ما بقي في سلوكه من معنى اللَّعِب، كما يشلُّ التفكير والقدرة على
العمل.
أما الشخصيات في «ليونس ولينا» فهي تقف على خشبة المسرح دون أن تعرف الدور الذي أُسند
إليها، ولا الكلمات التي ستُردِّدها ولا المسرحية التي ستُمثِّل فيها، ولا يبقى أمامها
إلا
أن تُعِد مشهد حياتها وتخلُق دورها بنفسها. ما من مشهد في هذه المسرحية إلا وهو صفحةٌ
كبيرةٌ بيضاء، على الشخصيات أن تكتب عليه حياتها بغير إبطاء. إن عليها كذلك أن تستنجد
بالنكتة الحاضرة، وتلجأ إلى الكلمة المُفاجئة لتنقذ المسرحية كلها من السقوط في هُوَّة
السأَم والفراغ.
والسأَم جار القلق من العدَم، ولن يستطيع الإنسان أن يفهم سِرَّه ويقترب من حقيقته
حتى
يربط بينه وبين العدم. وفاليريو هو المتهكِّم الحزين الذي يُحاول أن يتغلَّب على هذا
السأم،
ويقهر هذا الخوف المستمر من العدم، ولكنَّه يحاول عبثًا أن يتغلب عليه ببريق نكتته؛ فالعدم
فراغٌ موحش لا يملؤه إلا الإيمان بمعنًى يسمو على الحياة،
٣٠ أو عقيدة تُحدد هدفها وغايتها. ومهما بلغت قدرة التهكُّم على تحرير صاحبه فهو
لا يستطيع أن يُحرر فاليريو من ربقة السأَم والضياع. إنه يظل يشعر بهذا السأم القاتل
على
الرغم من محاولاته الذكية المضنية للتحرُّر من قبضته، وعلى الرغم من قدرته على طرد السأم
عن
غيره؛ ولذلك فإن لعبه يكشف عن عذابه في هذا العالم، وضياع كل معنًى من وجوده.
وفي «موت دانتون» يواجهنا هذا الإحساس المميت بالسأم والملال؛ فلوسيل («موت دانتون»،
٤،
شارع، ص٨١) والمغني في الشارع (الفصل الثاني، نزهة) ودانتون (الفصل الثاني، مشهد الغرفة)
يُعبِّرون عن هذا الإحساس بالملل أوضح تعبير. إنهم جميعًا يُصوِّرون سأَم الإنسان من
إنسانيته، ويُعبِّرون عن عذابهم بالوجود الذي يتهاوى أبدًا إلى ليل العدم، وضيقِهم بالإيقاع
اليومي الرتيب، وفزَعِهم من العود الأبدي: «إنه الشعور بالبقاء ذلك الذي يقول لي: غدًا
سيكون كاليوم، وبعد غدٍ وكل ما يأتي من الأيام سيكون كاللحظة الراهنة.»
٣١
وفي قصته «لنس» يشتد هذا الإحساس بالفراغ الذي لا يستطيع شيء أن يملأه. إن لنس يقول
لأوبرلين: «نعم، يا سيدي القسيس، انظر، السأم! السأم! آه ما أفظعَ هذا السأم!»
٣٢ وفاليريو يُعبِّر عن هذا الإحساس نفسه — وإن كان سببه وتأثيره مختلفَين عندهما
— إنه يعلم أن كل شيء ينبع من الملل، ليصُب في بحر الملل؛ الحب والصلاة؛ والفضيلة والرذيلة،
والزواج والموت. شيئًا فشيئًا يتعلم فاليريو وليونس كيف يُحبان هذا الملل الذي لا غنى
عنه،
هذا العزاء النادر الوحيد وسط حياةٍ موحشةٍ خاليةٍ من كل معنًى، تتثاءب في وجههما وتصيبهما
بالغثَيان وقد تدفعُهما إلى قلقٍ قاتمٍ رهيب.
٣٣ لنس وفاليريو وليونس، كلهم قد عانى تجربة العدم على طريقته، وبينما تدفع هذه
التجربة بلنس إلى الجنون، وتغُوص به شيئًا فشيئًا إلى هاوية بلا قرار، نجد ليونس وفاليريو
يهربان إلى اللعب لكي يطردا عنهما وحشة العدم والفراغ، ولكن لَعِبهما هو لَعِب الدمى
اليائسة العاجزة، التي تعبث باللغة لأنها لا تجد شيئًا تلهو به، وتتعزَّى عن مصيرها قبل
أن
تتردَّى في الهاوية.
السؤال الأساسي عند بُشنر هو هذا السؤال الذي لا يدري «دانتون» إلى من يتوجه به:
من
الذي نطق بكلمة «يجب»، من؟! ما هذا الذي يكذب فينا، ويَفجُر ويَسرِق ويقتل؟
٣٤ فهل نستطيع الآن أن نُخمِّن على وجه التقريب بالجواب؟ لعلَّه هو تلك القوة
القدَرية المجهولة التي لم نجد لها اسمًا فسمَّيْناها باﻟ «هي»؛ تلك القوة التي تُحيل
شخصيات بُشنر إلى دمًى حيةٍ تجذب خيوطَها يدٌ خفية، وتُفقِدها ذاتيتها وتُحطِّم «الأنا»
لديها.
٣٥ والتوتُّر الذي تُعانيه هذه الشخصيات بين الأنا المحطَّمة والهي المُتحكِّمة
فيها يقابله التوتُّر في كل لحظةٍ تعيشها؛ إذ هي لا تعدو أن تكون مجرد لحظاتٍ منفصلةً
مستقلة بنفسها، ولكن هذه اللحظات هي التي تحمل الدلالة الدرامية كلها، حتى ليستطيع ليونس
أن
يقول: «إن وجودي كله في هذه اللحظة الوحيدة.»
٣٦
الحياة عند بُشنر شبكة من اللحظات العابرة المنفصلة، كل لحظة منها تمثل مسرحًا كونيًّا
صغيرًا؛ فالبداية والنهاية في هذا المسرح محضُ مصادفة، والدور الذي يقوم به الفرد في
داخل
الحدث المسرحي شيء لا أهمية له، والشخصيات مرهونة بحالتها النفسية، تتغير بين لحظة وأخرى،
ولا تحتفظ في لحظةٍ واحدة بوَحْدتها وكليتها. إنها نسيج من الانفعالات والخلجات والرعشات،
تستطيع في كل لحظةٍ أن تنقلب إلى العكس مما كانت عليه في اللحظة السابقة. إنها لا تدري
شيئًا عن مصيرها ولا تملك أن تتحكَّم في قدرها، بل تعيش من لحظة إلى أخرى، أسيرة عاطفتها،
فاقدة المركز والوسط والاتجاه، حقيقةُ وجودها لا تَتكشَّف بكُلِّيتها في أية لحظة، وصدقها
كامن في صدق اللحظة الوجدانية التي تعيشها؛ هذه اللحظة الوجدانية لا تُعبِّر عن نفسها
عن
طريق الكلمة، بل تستَتِر وراءها، وتلمع بين حروفها لمعانًا يخطف الأبصار حينًا ثم ينطفئ،
كأنه ضوء فنارة على شاطئ بحرٍ غير محدود. كل لحظة تلتمع حينًا ثم تخبو، وكأننا نشاهد
أنوار
الأراجيح التي تدور في المهرجان، والحياة تيارٌ يتذبذب بين السلب والإيجاب، بين النور
والظلام. ما من تطوُّر عقلي أو نتيجةٍ منطقية، بل صراعٌ متصل وتوترٌ مستمر. إن شخصيةً
مثل
دانتون «تظهر» ولا «تُوجد»، كلماته لا تُعبِّر عنه هو نفسه، وإنما تنطق بلسان قدَرٍ مجهول
وتعكس إرادته المتسلطة عليه. وإذا كان دانتون قد استسلم لهذا القدر الذي جعله ييأس من
الوصول إلى حقيقته، فإن لنس يريد أن «يضم الكل في ذاته»،
٣٧ أن يحمل على ظهره عذاب الخليقة بأَسْرها، أن يُعانِق الوجود بخيره وشره، بكل
صغيرةٍ وكبيرة فيه لكي ينفذ من «المظهر» إلى الحقيقة الكامنة وراءه. إن تعطُّشه إلى حقيقة
الوجود يُعبِّر عنه شوقه إلى النور؛ فالنور عنده معناه الاطمئنان والأمان، وهو يشعُّ
من
عينَي مضيفه الطيب المؤمن أوبرلين، ومن وجوه الأطفال الأبرياء، والعذارى والعجائز الطيبات؛
هذا النور يحمل إليه الدفء والراحة، ويعيده إلى نفسه في لحظاتٍ نادرة يبرأ فيها من جنونه.
حتى إذا انطفأ هذا النور أصابه ذُعرٌ رهيب، كذلك الذعر الذي يصيب الأطفال حين ينامون
في
الظلام؛ عندئذٍ لا تكون لشيء عنده من حقيقةٍ سوى حقيقة المظهر العابرة. وتختفي الحدود
الفاصلة بين الحُلم والواقع، ويمر كل شيء أمامه كما تمر الخيالات في مسارح الظلال، ويتملكه
«خوف لا اسم له»
٣٨ وتتسع هاوية الفراغ من حوله، وتتفتَّت ذاته إلى حُطام، ويرتطم رأسه المحموم
بجدران العالم الذي يحاول يائسًا أن يفلت منه. إنه في الحقيقة لا يخاف من شيءٍ محدود؛
لأن
خوفه رهيب من ذلك «اللاشيء» الذي نسميه تجاوزًا بالعدم (مع أنه في الحقيقة لا يحتمل
الأسماء؛ لأنه ليس شيئًا من بين الأشياء). «تملَّكه خوفٌ لا اسم له من هذا العدم؛ كان
يحس
بأنه في الفراغ.»
٣٩ و«عندما حل المساء أصابه قلقٌ عجيب.» و«نما خوفٌ غامضٌ في نفسه.»
٤٠
أما فويسك فخوفه من ذلك المجهول الذي يُقيِّده بأغلاله ويعبث بقدَره كما يشاء. إنه
عنده
«شيءٌ لا نُدركه ولا نفهمه، شيءٌ يُفقدنا عقولنا وحواسَّنا.» وهو يعتقد أن الأرض جوفاء
من
تحته، يمكن في كل لحظة أن تنشَقَّ فتبتلعه
٤١ وليست جريمة القتل التي يرتكبها فويسك جريمة أخلاقية أو تعبيرًا عن إحساس
بالظلم الاجتماعي فحسب، بل هي كذلك نتيجة خوفه من أن يقف أمام العدم وجهًا لوجه. إنه
يقتل
لأن الوجود عنده قد فقَد معناه، ولأن خيانة زوجته له قد هدَمَت مأواه الوحيد، وحَرمَته
من
الإنسان الذي كان يمكن أن يقول له «أنت»
٤٢ وليس فويسك في ذلك وحده. إن الرجل الثاني في مسرحية «موت دانتون» (الفصل
الثاني، المشهد الثاني، ص٣٩) يُعبِّر عن خوف الإنسان من تلك القوى الغامضة الطاغية: «نعم،
الأرض قشرة رقيقة؛ أريد أن أقول إن من الممكن أن أسقط من ثقبٍ كهذا.» ويبدو كأن هذه القوى
المغلَّفة بالأسرار لا تُهاجم الإنسان إلا في الظلام؛ فحيث ينطفئ النور يصبح لُعبةً في
يدها، ويزدحم العالم بالظلال. في هذا الكهف المضيء المعتم يصل توتُّر الموجود إلى ذروته:
«إن الأمر عندئذٍ كما لو كان الشيء موجودًا وغير موجودٍ مع ذلك.» كما يُحاوِل فويسك أن
يُعبِّر بكلماته الحائرة عن شعورٍ لا يعرف له اسمًا.
لو كان في استطاعة الإنسان أن يشاهد لعبة الظلال هذه دون أن يشارك فيها، لكان من
الممكن
أن يجد مسافة البُعد التي تُخلِّصه منها، ولأمكننا أن نقول كما قال القدماء إن الحياة
حُلمٌ
عابر، وأن الإنسان سيجد الراحة في الإيمان بعالمٍ آخر يضمن له الخلود، ولكن شخصيات بُشنر
لا تستطيع، مهما حاولَت، أن تقوم بدَورِ المتفرج من بعيد. إنها لا ترى الأشياء رؤية الأشباح
ولا تنظر إلى الكل نظرتها إلى لُعبة الظل والخيال فحسب، بل إنها هي نفسها طرفٌ في هذه
اللُّعبة التي يختلط فيها الوجه والقناع، ويتداخل الحلم والواقع، ويلتبس المظهر بالحقيقة،
والجَبْر بالحرية، ويزيد من حدة الصراع الذي تعانيه أنها قد سُلبت حرية اللَّعِب، وأنها
تلعَب ويُلعب بها في وقتٍ واحد. إنها لا تعرف إن كان كل ما تراه مَظهرًا فحسب، أو إن
كانت
هناك حقيقةٌ تقابل ذلك المظهر وتكمُن وراءه. ويُصبِح المسرح الذي تقف عليه متاهةً هائلةً
معتمة، تتغير فوقه الأقنعة والكواليس، وتلتمع الأضواء وتنطفئ، وتتداخل الأجساد والظلال،
ويختلط الإنسان والدمية ويتشابه الواقع والحلم، وكأننا في مسرح يُمثِّل في كل مكان وفي
غير مكان.
٤٣ هل هي شخصياتٌ تلك التي نراها على خشبة المسرح؟ أجل! ولكن كيف نستطيع أن نختمها
بخاتمٍ معين، أو نصُبَّها في قالبٍ محدود؟ إن هذا المسرح الكوني الصغير جُزءٌ من مسرح
الكون
الكبير، وكل حادثة تدور فوق خشبته مرآةٌ تنعكس عليها ألوانُ الصراع الأبدي الذي لن يتوقَّف
إلا إذا توقَّفَت دورة الزمان، وسكَن قلبُ الإنسان.
•••
قلنا إن الصراع الدائر بين الخليقة الوحيدة المعذَّبة وبين اﻟ «هي» المُتجبِّرة غير
المنظورة يتخلل أعمال بُشنر ويطبعها بطابعه المذهل الفريد. وليست هناك فكرةٌ واحدةٌ أو
شخصية تستطيع بمفردها أن تُقدِّم لنا مفتاح الأسرار لهذا العالم المُعتِم المضيء. وما
أكثَر
ما قيل في تفسيره منذ وفاة بُشنر — ولم يكد يُتِمُّ الرابعة والعشرين من عمره — في عام
١٨٣٧م إلى اليوم، وما أكثَر ما ذهب إليه النقاد من آراءٍ جعلَت منه واقعيًّا حينًا،
ونصَّبَتْه رائدًا للحركة الطبيعية حينًا آخر، ورأت فيه ثائرًا على الظلم الاجتماعي في
عصره
— وقد كان بالفعل كذلك — أو جعلَت منه إمام العدَمية في الأدب الإنساني وأوَّل من أطلقَ
صرخة الفزَع من المُحال والعبث واللامعقول في زمنٍ كان أبعدَ ما يكون عن الإحساس بها.
وهذه
الآراء كلها صادقة، ولكنها مع ذلك تعجز عن التعبير عن حقيقة هذا العالَم القاتم الساحِر
المُحيِّر. ولسنا نملك الرأي الصواب في هذه المسألة، ولا ندعي أن في استطاعتنا أن نقول
الكلمة الأخيرة عن شيءٍ لا يمكن أن تُقال فيه الكلمة الأخيرة أبدًا. وكل ما نستطيع أن
نختم
به هذه السطور هو أن نرجو القارئ الذي يريد أن يقترب من حقيقة مسرح بُشنر ألا يحاول أن
يبحث عنها في فكرةٍ ثابتة، أو في شكلٍ فني محدَّد من قبلُ. إن عليه أن يُفتِّش عن هذه
الحقيقة في عذاب الخليقة، وفي ومضة الحياة في كل كائنٍ مهما صغر شأنه، وعليه قبل كل شيء
أن
يضع نفسَه في هذه اللعبة التي يكون الإنسان فيها مجرد دُميةٍ مسكينة يلعب بها قدَرٌ
مجهول.
في مسرحية «فويسك» تروي الجدة العجوز للأطفال الصغار هذه الحكاية: «تعالوا يا براغيث.
كان
ياما كان، طفلٌ مسكينٌ غلبان، لا له أب ولا أم. كان كل شيء ميت، ولا كان على وجه الأرض
إنسان. كل شيء كان ميت. وراح الطفل يبحث ليل مع نهار؛ ولأنه ما كان أحد على الأرض، أخذ
ينظر
للسماء، والقمر نظر إليه نظرةَ حنان، ولمَّا وصل للقمر، وجده قطعة خشب خسران. تركه وراح
للشمس، ولما وصل للشمس، وجدها عبَّاد شمس دبلان. ولما راح للنجوم لقاها ناموس صغير مذهَّب،
كانت كمثل البرقوق المنوَّر ولمَّا أحب يرجع للأرض كانت الأرض ميناء مهدَّمة مقلوبة وكان
وحيدًا في الدنيا كلها. قعد على الأرض وبكى وما زال قاعد لليوم. قاعد وحده يبكي.»
هذا الطفل المسكين سوف يضِلُّ في متاهة العالم إلى آخر الزمان، وسوف يبحث دائمًا ولن
يجد
شيئًا، وحين ينال منه التعب، سيجلس على عتبة هذا الكون ويبكي، ولن ينقطع أبدًا عن
البكاء.