الفصل الثاني
الشتاء الأول
١
كان بيتُ الطلاب الجديد ما يزال في مرحلة الإعداد، وكانت جميعُ ملامح الفندق القديم
ظاهرةً فيه، ولم يكن قد تغيَّر فيه سوى تحويل قاعة الضيوف أو قاعة الاستقبال بالدور
الأرضي إلى مكانٍ يشبه المكتبة العامة، به مناضدُ مصفوفة وكراسيُّ خشبيةٌ غير وثيرة،
وإلى جواره غرفةٌ خاصة للتليفزيون يجتمع فيها الطلاب في المساء لسماع نشرة الأخبار أو
مشاهدة حلقةٍ بوليسية، وكان به مطعم في الدور تحت الأرضي يقدِّم وجباتٍ زهيدة السعر
لتكون في متناول أيدي الدارسين، وكان هؤلاء خليطًا عجيبًا من الأجناس المتنافرة إلى
جانب الإنجليز المغتربين عن أهلهم للدراسة في لندن، فكان فيه العرب وأبناء
أفريقيا وآسيا وأمريكا، بل وأستراليا ونيوزيلاندا! وما إن حطَطتُ الرحال حتى تعرَّفتُ
على زميلي الذي يشاركني الغرفة، وهو هنديٌّ تقدم به العمر، وكان يُحاوِل جاهدًا أن يحصل
على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، ولن أنسى صباح أول ليلةٍ أقضيها في ذلك المكان؛ إذ
عندما فتحتُ عيني وجدتُه في وضعٍ مقلوب، قدماه في الهواء ورأسه على الأرض، وفي الغرفة
رائحة بخورٍ خفيفة، عبيرُها غيرُ نفاذ، وضوء الصباح يتسلَّل برفق من خلف الستائر التي
تحجُب شُباكًا كبيرًا واجهتُه شرقية.
كان الصمت يلفُّ المكان، فمكثتُ في الفراش أرقُب القدمَين المعلَّقتَين في الهواء
عدةَ لحظات وأنا حائرٌ في تفسيرِ ما يفعل «فيكرام» Vikram، حتى انتهى من تلك الرياضة الصباحية، وقد اكتشفتُ فيما بعد
أنها نوعٌ من اليوجا، ثم جلس أمام صورة للزعيم الروحي بوذا في استغراقٍ شديد، ورائحة
البخور تزدادُ قوة، ولا أدري كم مَرَّ من الوقت عليه وهو في تلك الحال، وأنا أخشى أن
أنهضَ حتى لا أتسبَّب في تعكير صفو تأمُّلاته، وبعد برهةٍ قام فأزال الصورة وأطفأ
البخور وفتح الشُّباك وقال لي: صباح الخير!
كانت اللهجة الهندية التي يتحدَّث بها اللغة الإنجليزية طريفة، ولم نلبث أن تناوبنا
استخدامَ الحمام، ثم انطلق كلٌّ منا إلى كليته. وعرفتُ من مناقشاتي فيما بعدُ معه أنه
يؤمن بتناسُخ الأرواح أو
transmigration of souls أي
بأن لكل مولودٍ روحًا تأتي من أحد الراحلين، وأذكُر أنني عندما سألتُه كيف يفسِّر
الزيادة في عدد الأرواح بزيادة عدد سكان الأرض أجاب بأن الأرواح تأتي ممن تركوا الأرض
على مر الأزمان، وعندما اعترضتُ قائلًا إن ذلك لا يعدو أن يكون من باب الظن، قال: «بل
هو اليقين.» وانطلَق يعرض النظرية التي درَج على الإيمان بها دون مناقشة، ثم سألَني
فجأة: «ألا تشعُر أحيانًا أن بداخلك إنسانًا لا تعرفه؟» ولم ينتظر مني الإجابة، بل
أردَف يقول واثقًا:
«لقد قرأتَ شعر الشاعر وردزورث، ولعلَّكَ تذكُر ما يقوله في قصيدة «مشاعر
الخلود المستوحاة من ذكريات الطفولة الأولى» — ولعلكَ قبلتَ ما فيها على أنه
رؤيةُ شاعرٍ لرحلة الروح من عالمٍ سابقٍ على الوجود المادي إلى عالمٍ لاحقٍ على
هذا الوجود! والشاعر كما تعرف يُنكِر تأثُّره بأفلاطون مؤكدًا أن ذلك الإحساس
داهمَه حتى قبل أن يقرأ ذلك الفيلسوف اليوناني، وأنه كان يشعُر بغربة روحة عن
عالم الأرض، وضيقها بسجن الجسد، ونُزوعِها للتحرُّر منه آخر الأمر! إنه يؤكد أن
الروح التي تُولَد معنا مثل الشمس التي تُشرِق في عالمٍ جديد في اللحظة التي
تغربُ فيها عن عالمٍ آخر — وهذا هو معنى التناسُخ!»
وسجَّلتُ ملاحظاتِه في كراسةٍ لديَّ ما زلتُ أحتفظ بها، وعُدتُ إلى قراءة تلك القصيدة
التي كنتُ ترجمتُها ذات يومٍ في مصر، ولاقت إعجابًا من أستاذي مجدي وهبة، رحمه الله،
وشُغِلتُ يومًا أو يومَين بهذه الرؤية الشرقية المحضة لحياة الروح الإنسانية، وانتهيتُ
إلى أنها لا تعدُو أن تكون رؤية شاعر، وأنها لا تصلُ أبدًا إلى يقين العلم؛ فالروح من
أمر ربي، وما أُوتي البشر من العلم إلا قليلًا، ولكن أحببتُ أن أستزيدَ من العلم بهذه
الفلسفة الشرقية التي كُتب لها أن تظل ضربًا خاصًّا من الاستبطان (introspection) وألا ترقى أبدًا إلى مرتبة الفكر
الحقيقي. وعندما صارحتُه بذلك دار بيننا حوارٌ أرجو أن أنجحَ في تلخيصِه هنا استنادًا
إلى مذكِّراتي؛ إذ التفَت إليَّ ببسمة الواثق قائلًا:
– لقد تدرَّبتَ على التفكير الذي ينسبُ كل ما لا تعرفه إلى السماء؛ أي إلى مصدر خارج
النفس، ولديكم في الإسلام والمسيحية رموزٌ تتوسَّلون بها حتى تتجنَّبوا حياة الروح
الحقيقية، ولكن أستاذنا بوذا يُعلِّمنا كيف نغتَني بالمواجهة الصادقة مع النفس عن رموز
الجنة والنار، وعن تصوُّر الملائكة والشياطين، ومفهومنا للخير نسبي، وكذلك مفهومنا
للشر؛ فكل ما يؤدي إلى التوافُق والتناغُم والسلام خير، وكل ما يُفسِد ذلك شر، وأفكارنا
الدينية أقرب إلى البراجماتية والعيش في هذا الكون من أفكاركم التي تُرجئ كل شيءٍ ليوم
الحساب!
– ولكنك تستعينُ بالرموز في صَلاتِك، وتستخدم طقوس البخور والصور!
– هذه ليست رموزًا، بل هي من العوامل التي أستعين بها في التركيز!
– ورياضة اليوجا؟
– هذه ليست رياضةً بالمعنى المفهوم، بل هي تدريبٌ للروح على تقبُّل الجسم الذي
قُدِّرَ لها أن تعيش فيه، وتدريب الجسم على تقبُّل الروح التي تسكُنه!
– أنت إذن تفصل بين مفهوم الروح ومفهوم الجسد، وهي الفلسفة الثنائية التي يُنكِرها
علم النفس الحديث وتُنكِرها الفلسفة اللغوية المعاصرة!
– الفصل قائمٌ يا صديقي، مهما برعَ العلماء المزعومون في تِبيان الصِّلات وإقامة
العلائق! قل لي: ألا تشعُر أحيانًا بأن في ذاتكَ نوازعَ غريبةً عنك؟ ألا تشعر أحيانًا
بأنك لا تعرف تلك النفس التي يقطع العلماء بوجودها؟ بل لعلَّك أحسستَ يومًا ما بأن في
داخلك ما تُسمِّيه الأديانُ بالملائكة والشياطين! إنها نوازعُ الروح التي تُخاطِبك بما
لا تعرف!
– وهل يعني ذلك أن الروح جاءت من كائنٍ حي آخر؟
– قل لي وكن صريحًا معي .. ألم تشعر يومًا أن مشهدًا ما قد سبقَت لك رؤيتُه؟ ألم
يُداهِمك الإحساس بأن نغْمًا ما يثير نفسكَ فجأةً دون سبب؟ ألم تنظُر يومًا إلى السماء
فتدرك أن ما تراه ليس غريبًا عليك؟
– ربما سبق لي أن شاهدتُه في الطفولة!
– وعندما كنتَ طفلًا .. ألم تكن تشعر أحيانًا بأن منظرًا ما مألوفٌ لديك؟
– لقد انتهى علماء النفس من تحليل ذلك!
– لم يَنتهِ أحدٌ من شيء! كُلُّنا يحاول ترويضَ روحه حتى تقبَل الجسم وتقبَل العالم
.. وقد ننجح أو نفشل .. لكننا في الحالَين لا نستطيع تغييرَ طبيعةِ الروح الخالدة ..
قد
تكون ذاتَ خَيرٍ فتدفعُ الجسم إلى الخير، وقد تكون ذاتَ شَرٍّ فتدفعُ الجسم إلى الشر،
ونحن في صراعٍ دائم مع الخير والشر معًا!
– وذلك ما تقول به الأديان السماوية .. كُل ما هناك هو أننا ننسبُ الخير إلى دوافع
عُليا يرسمُها العقل، وننسبُ الشر إلى دوافعَ سُفلى يرسمُها الشيطان! ونحن نهتدي بما
أُوحي إلى الأنبياء من آيات وأُنزل عليهم من هدًى!
ولكن فيكرام لم يكن — رغم عدم تصديقه للأديان السماوية — ممن يسخرون منها أو يهزءون
بما أُنزِل على غيرهم من الأمم، بل كانت البسمةُ لا تفارق شفتَيه، وكان هادئ الطبع،
«طويل البال»، وكان أحيانًا يطلب مني مغادرة الغرفة؛ لأنه يريد «التأمُّل» وحده، ولم
أكن أُعارِضه، بل كنتُ أحملُ كُتبي وأهبط إلى قاعة الدرس، فأقضي الوقت الذي حدَّده
وحدي، ثم أصعد لأنام.
ثم جاء يومٌ من أيام ديسمبر عُدتُ فيه من الكلية مُرهَقًا، فوجدتُه يطلُب مني «إخلاء»
الغرفة ساعتَين، وكان لديَّ عملٌ كثير؛ إذ كنتُ قد بدأتُ تصنيف الصور الشعرية التي كنتُ
كتبتُها في بطاقاتٍ كثيرة في مصر، وكانت نهاد خطيبتي قد أرسلَتها في طردٍ كبير، وكنتُ
أعيد قراءة هذه الصور على ضَوء ما قرأتُه عن الشاعر في مراجعَ لم تكن متوافرةً في مصر،
فأخذتُ أوراقي وهبطتُ إلى قاعة الدرس، وجعلتُ أعمل بجِدٍّ حتى انقضى الوقت، وكنتُ قد
تناولتُ العَشاءَ في الكلية على مائدة طلاب الدراسات العليا والأساتذة، فشعرتُ بأنني
لا بد أن آوي للفِراش.
وعندما طرقتُ باب غرفتنا، فتح لي فيكرام، وكان يرتدي ملابس الخروج مع أن الساعة قد
تجاوزَت العاشرة، ودخلتُ فإذا بحسناءَ إنجليزية الملامح واللهجة تجلس على سريري وفي
يدها قدحٌ حدَستُ أن فيه خمرًا، فقدَّمني إليها وعرَّفني بها، ثم قال إننا نرجوك
الانتظار نصف ساعة أخرى فنحن على وشك الانتهاء من الحديث الشائق ذي الشجون! وانعقَد
لساني من المفاجأة، ولم أشأ أن أعترض، فوضعتُ الكتب على المكتب، وخرَجْت.
وفي قاعة الاستقبال التي كانت ما تزال تحمل ملامح الفندق القديم، جلستُ شارد النظرات
لا أدري ما أصنع، هل كان ذلك دأبه في كل مرة طلَب مني مغادرة الغرفة؟ وقرَّرتُ الانتقال
إلى غرفةٍ مستقلَّة single room مهما كلَّفني ذلك من
مال؛ فنحن نُطلِق في مصر لفظًا غير كريم وغير مُشرِّف على من يحتمل ما احتمَلْت، ولم
أقل شيئًا لأصدقائي العرب الذين أدهشَهم وجودي في ذلك الوقت المتأخر في قاعة الاستقبال،
وشُغِلتُ بالحديث مع بعض الزملاء السودانيين ممن يدرسون تخصُّصاتٍ مختلفةً في جامعة
لندن، وكان عددٌ آخر من دارسي الأرصاد الجوية يجلسون قريبًا؛ ثلاثةٌ منهم من
سوريا والرابع ليبي، وسرعان ما اشتَعل النقاش وحَمِي وطيسُ الجدل، فنسيتُ ما أنا فيه،
ولم أُفِق إلا حين رأيتُ الحسناءَ تُغادِر البيت.
وذهبتُ في الصباح إلى الإدارة، وطلبت الانتقال إلى غرفةٍ مستقلَّة، فنظرَت لي
السكرتيرة وقالت لي ما يلي بالحرف الواحد:
– It didn’t work out? No, I didn’t think it
would!
أي «لم تنجح إقامتكما معًا؟ لا، لم أكن أظن أنها ستنجح!».
وعجبتُ من ردِّها! إذا كانت لا تتوقَّع لها النجاح فلماذا حاولَت إنجاحَها؟ يبدو
أنها
كانت تأمُل (على استحالة الأمل؛ أي Hoping against
Hope) أن نتفق بسبب دراستنا المشتركة للأدب الإنجليزي، ثم أردفَت
قائلةً إن الغرف المُستقلَّة مشغولة، وبقاء غرفةٍ مشتركة دون «شريك» من قبيل «وجع
الدماغ» (is a headache) ولكنَّني ألححتُ، فوعدَت
خيرًا، وفي اليوم التالي اقترحَت عليَّ الانتقال للسُّكنى مع أنور عبد العظيم (الأستاذ
حاليًّا في كلية العلوم بجامعة القاهرة) حتى يتسنَّى لها تدبيرُ غرفةٍ مستقلَّة
لي.
وسرعان ما أصبحَت غرفة أنور عبد العظيم ملتقًى للمصريين وللعرب أحيانًا، وأصبح من
روَّادها صديقي محمد مصطفى رضوان، طالب الهندسة المتخصِّص في التصوير الجوي، وكان يقضي
النهار كُلَّه في المختبر الهندسي بجامعة لندن، وكان بارعًا في الرياضيات وكان أستاذه
معجبًا به، وكان يقيم في غرفةٍ مشتركة مع دارسٍ آخر للرياضيات اسمه ريتشارد لندن، وكان
هذا الأخير مصداقَ قول ألبرت أينشتاين إن بعض الناس يفكِّرون «بالأرقام»؛ أي لا
يستخدمون الصور ولا الألفاظ، وكنتُ قد قرأتُ كتابًا عنوانه «العملية الإبداعية» The Creative Process وردَت فيه أقوال
الكثيرين في هذا الموضوع، ومنها أقوال عالم الرياضيات الشهير مع تحليلٍ علمي لها، ولذلك
لم أدهَش للصمت الدائم الذي كان يعيش ريتشارد لندن فيه! ولا أذكُر أنني سمعتُه يومًا
يقول عبارةً يزيد طولُها عن ثلاث كلمات.
وعندما انتصف شهر ديسمبر (١٩٦٥م) حل شهر رمضان المبارك، وبدأنا الصيام، وما كان
أيسَره في لندن! فنحن نتناول السحور في الخامسة صباحًا (الفجر يُؤذَّن له في السادسة)
ثم نصلي الفجر ونتجه إلى كلياتنا في السابعة، ونعود في الثالثة، حيث نقوم بإعداد طعام
الإفطار معًا، ونُفطِر في الرابعة تقريبًا! كان قِصَر النهار فريدًا، وبرودة الجو تمنع
العطش (أو الإحساس به) وكانت الصحبة رائعة، خصوصًا ونحن نُفطِر جميعًا معًا، وكانت
تتناول الطعام معنا طالبةٌ مسيحية اسمها نادية (لحق بها زوجُها جورج بعد فترة) وكانت
صائمة؛ ولذلك كنا نصنع نوعَين من الطعمية (الفلافل)؛ نوعًا يُضافُ إليه البيض، ونوعًا
لا يتضمَّن البيض وهو مخصَّص للصائمين المسيحيين، وقد أُطلق عليه فيما بعد اسم «طعمية
نادية»! وسمعتُ أحد الأمريكيين يتساءل عن ذلك اللون الفريد من الطعام بعد أن ذاقَه
فراقَ له وتساءل دهشًا “Is it meat?” (أي هل هذا لحم؟)
وغمزتُ لأصدقائي حتى لا يُفصِحوا عن سر الوجبة الشهية، وشرحتُ له أنها تأتي على صورة
مسحوقٍ من مصنع سان جورج بالإسكندرية، ثم نُضيف إليها الماء ونُعيدُها سيرتَها الأولى،
وسرعان ما انتَشر الخبر في بيت الطلاب، وقالت لي السكرتيرة:
– Must you have a party everyday?
وشرحتُ لها أن تلك «حفلاتُ» إفطارٍ رمضانية، تنتهي بحلول العيد، وكان من العسير عليها
أن تُدرِك معنى «الصحبة»، وهو المعنى الأصلي لكلمة
“party” وإن كانت قد اقترنَت في الأذهان بالرقص
والموسيقى والشراب! وعندما حل عيدُ الفطر شَهِد بيت الطلاب ما يشبه العرس، فاجتمع جميع
العرب، ورقص السوريون «الدبكة» وغنَّى السودانيون أغاني ذات سُلَّمٍ موسيقيٍّ خماسي،
واجتمع الطلاب من شتى الجنسيات لتأمُّل هؤلاء العرب الذين اختلفَت ألوانهم وجمعَهم
تُراثٌ واحد، ولغةٌ واحدة، بل إن نادية أعدَّت الفتَّة الشهيرة ليلة السادس من يناير
(ليلة إفطارها) وحملَت طبقًا منها إلى السكرتيرة، مُزانةً بقِطَع اللحم (الهُبَر)
فهالها حجم الطبق، وأصَرَّت على أن تحملَه إلى المنزل حتى يفرحَ به زوجُها
وأطفالها!
وقبل أن يحلَّ العيد، جاءَني صوتٌ مألوف عَبْر
التليفون، يطلُب مني الحضور. كان ذلك صوتَ فادية سراج الدين، الطالبة في قسم اللغة
الإنجليزية، وابنة المرحوم أنيس سراج الدين الذي كان رئيسًا لبنك القاهرة، وكانت
تُعالَج في أحد مستشفيات لندن من شلَل الأطفال، فخرجتُ من الكلية وزرتُها ثم انصرفتُ
مسرعًا لكي أدرك الإفطارَ مع الأصدقاء، وبعد ذلك اتصل بي والدُها وطلب مني أن أُعينَها
على متابعة الدروس حتى لا يضيعَ عليها العامُ الدراسي، فزُرتُها وكانت قد انتقلَت إلى
فندقٍ فاخرٍ قريبٍ من بيت الطلاب، وتردَّدتُ عليها حتى اطمأنَّ قلبي إلى أنها قرأَت ما
هو مطلوب، فودَّعتُها، وعادت إلى مصر وانقطَعَت عني أخبارُها عشرين عامًا، حتى رأيتُ
النسخةَ المكتوبة بخط يدها من كتابٍ يُطبَع في الهيئة المصرية العامة للكتاب في أواخر
الثمانينيات وعليها توقيعٌ من سمير سرحان يقول فيه: «حافظوا على هذه النسخة فهي الوحيدة
بخط المؤلِّفة رحمها الله.»
٢
كنتُ أعيش في عالَمَين مختلفَين؛ فأنا بالنهار في المكتبة، أقرأ الإنجليزية من الصباح
إلى المساء، وأُحادِث الإنجليزي بالإنجليزية طبعًا، وأتناول العشاء مع الأساتذة على
مائدةٍ خاصة، نتحادث فيها أكثر مما نأكل، وقد بدأتُ ألتقط التعبيرات الجديدة على
مِسمَعي وأُكرِّرها، وأحاكي لهجة الأساتذة، فإذا كتبتُ تعثرتُ؛ لأنني لم أكن أعرفُ كيف
أُفرِّق بين العبارات العامية والعبارات الفصحى، وأحيانًا ما كنتُ أمزج هذه بتلك
فيدلُّني الأستاذ المشرف على الصواب، وكنت باختصار أعيش عالمًا غريبًا بكل معنى
الكلمة.
أما العالَم الذي كنتُ أعود إليه في المساء فقد جعلَته الغربة وطنًا؛ فالطلاب في
البيت الذي أُقيم فيه أغراب، لكن رباط الغربة يشُد بعضهم إلى بعض، وكنتُ أحيانًا أخرج
مع أحدهم، خصوصًا جلال الإدلبي (السوري) فنذهبُ إلى السينما أو نتنزَّه في شوارع منطقة
بادنجتون Paddington التي تتميَّز بأحيائها
الفقيرة، وكان بعضها قد دمَّرَته الحرب ولم تمتدَّ إليه يدُ التعمير بعدُ، أو في منطقة
«لانكاستر جيت» Lancaster Gate المجاورة لنا ذات
المنازل التقليدية التي صوَّرها جورج أورويل في رواياته، والتي بدأَت بعضُ المنازل
الجديدة تظهر فيها، وبعضُ ملامح العمارة الحديثة فيما بعدُ.
وبدأت أشعر بالصراع بين العربية الكامنة في أعماقي والتي كُتبَ عليها أن تظل حبيسةَ
الزمان، وبين الإنجليزية التي أنهَلُ منها فلا أشبع! لم يكن هَمِّي الانتهاء بسرعة من
الرسالة، بل كنتُ أعيش في العالمين معًا، خصوصًا بعد أن عرفتُ طريق الإذاعة، وكتبتُ
سلسلةَ مقالاتٍ عن «المغنِّيات العربيات»، جئتُ بالمعلومات عنهن من كتاب الأغاني
للأصفهاني الموجود في كلية الدراسات الشرقية بلندن، وخصوصًا بعد أن التقيتُ ببعض
الزملاء من المصريين الذين رحَّبوا بوجودي بينهم، ويَسَّروا لي سُبل الكتابة والترجمة.
وكان أهمهم المرحوم إدجار فرج الذي كان شريكًا للمُترجِم دنيس جونسون دافيز في مكتبٍ
للترجمة، يتردَّد عليه المصريون جميعًا؛ فهو قريبٌ من المكتب الثقافي، وكانت لهما قصة
ستأتي في حينها.
كان إدجار صعيديًّا قُحًّا، يتحلَّى بالشهامة والمروءة، وكان يعرف من يعاني من ضائقةٍ
مالية فيرسل إليه نصوصًا يترجمها ولا يبخل عليه بالمال، بل كان يعطيه أجرًا أكبر من
القَدْر المرصود للترجمة، متظاهرًا بأنه يُحاسِبه ﺑ «المليم» حتى لا يشعُر المصري بأنه
يتلقَّى مساعدةً من أي نوع. وكان من أهم المتعاملين مع المكتب عبد اللطيف الجمَّال،
الذي كان قد حصل على درجة الماجستير من جامعة القاهرة، وانتهى من دبلوم الدراسات
العليا بجامعة ليدز Leeds وسجَّل موضوع الدكتوراه عن
النظرية النقدية عند أ. أ. ريتشاردز I. A. Richards
وكان قارئًا نهِمًا، ولم يتخلَّص من عاداته الريفية (فهو من إحدى قرى المنوفية) فهو
يميل إلى الصراحة والصدق، وهما من الفضائل التي يحتفل بها الإنجليز كما سبق أن قُلْت،
ولم يكن في تلك الأيام يفكِّر إلا في تعلُّم الألمانية، وبعد أن قضينا يومًا من أيام
السبت مع عبد الرشيد الصادق المحمودي الذي كان يدرُس الفلسفة، عرَّفَني بإدجار فرج، ثم
لم يلبَث الجمَّال أن رحل إلى ألمانيا.
كان شتاء ذلك العام غير قارس البرد، وكنا نقضي معظم أوقاتنا في المكتبة التي تتميز
بدفئها المعقول، وكانت حياتي في الكلية منتظمةً إلى حدٍّ لا يمكن تكراره في أي مكانٍ
آخر، وكانت حاجاتي محدودةً فكل ما أريده من كُتبٍ موجود، وكنتُ قد أقلعتُ عن التدخين
واشتريتُ لنفسي غَلْيونًا ألهو به في أوقات الفراغ في المنزل، ولكن الحاجة إلى المال
كانت ما فَتئَت تُعاوِدني، وكانت عيناني تتطلَّعان إلى الكتب الجديدة فلا أستطيع
شراءها، وإلى الملابس الفاخرة دون أن أشعُر بالحاجة إليها، ولكنني كنتُ قد بدأتُ عادةً
لم أتخَلَّ عنها طُول عمري وهي الذهاب إلى المسرح، ولمَّا كانت تذاكر المسرح غاليةً
نسبيًّا فإنني كنتُ ألجأ إلى الحجز مقدمًا لشهورٍ طويلة، وقد ساعدني المخرج أحمد زكي
الذي كان يدرُس الإخراج المسرحي في لندن في الالتحاق بجمعية المسرح الإنجليزي مقابل
اشتراكٍ سنويٍّ زهيد، مما أتاح لي حضور بروفات (تجارِب) المسرحيات الجديدة في مسرح
رويال كورت Royal Court، وفي منطقة تشلسي Chelsea الفاخرة، ومشاهدة العروض أيضًا مجَّانًا، كما
أرشدَتني هدى حبيشة، أستاذتي القديمة في جامعة القاهرة، والتي كانت تُعِد الدكتوراه في
الشعر الميتافيزيقي الإنجليزي، إلى طريقةٍ أستطيع بها أن أحجز تذاكر لموسمٍ مسرحيٍّ
كامل في مسرح أولديتش Aldwych حيث تقدِّم فرقة شيكسبير
الملكية عُروضها؛ إذ كنتُ أذهب في الصباح الباكر غداة الإعلان عن فتح باب الحجز فأشتري
تذاكر للحفلات النهارية (من ٢:٣٠ ظهرًا إلى الخامسة يومَي الأربعاء والسبت) لجميع
المسرحيات التي سوف تقدِّمها الفرقة على مدى الموسم كله (ثلاثة أشهر) في أماكنَ جانبيةٍ
في المسرح حيث أستطيع أن أسمع الحوار بوضوحٍ وإن كانت زاويةُ الرؤية مُرهِقة، كما كنتُ
أشتري تذاكر لمشاهدة عروض المسرح القومي واقفًا (بأربعة شلنات ودون حجز) فكنتُ أذهب قبل
العرض بساعة أو بعض ساعة فأقف في الطابور وأشتري التذكرة وأشاهد العرض واقفًا ثم أجلس
في الاستراحة، مما أتاح لي مشاهدة لورانس أوليفييه العظيم في مسرحية عطيل لشيكسبير
وغيرها، وكان من نتيجة هذا التدبير والميل إلى التقشُّف أن أصبحتُ شديد الوعي بقيمة
النقود والتمييز بين الضروريات والكماليات، وتعلَّمتُ من الطلاب حيلة قراءة الصحف
والمجلات دون أن أشتريَها؛ إما في غرفة الأساتذة بالكلية أو في أماكن بيع الصحف
بالمكتبات، فكان كينيث جوردون، صديقي الإنجليزي، يُشير عليَّ بالمكتبات التي لا يكترثُ
أصحابُها بمن يُغافِلهم ويقرأ الصحف، كما أرشدَني إلى الأماكن التي يترك الإنجليزُ
الصحفَ اليومية فيها بعد قراءتها، وكان كثيرًا ما يتجوَّل وحده ليكتشف المطاعم الرخيصة
والمكتباتِ التي تبيعُ الكتب القديمة، فكان خير عونٍ للفقراء، وسرعان ما قال المصريون
إنَّ كِنْ (Ken وهو اسمه المختصر) «واد جن»! (أو «كِنْ
مصوَّر»!).
كان دخلي من الإذاعة محدودًا، وكتابة الأحاديث مُرهِقة، وعملي في الرسالة يستغرق معظم
وقتي ولا يترك لي الوقتَ الكافي لزيادة الدخل، وكانت معظم مَسرَّاتي في الحقيقة ذات
تكاليفَ محدودة؛ فالسير في الطريق الذي يتوسَّط متنزه هايد بارك لا يكلِّف شيئًا، وكانت
الحديقة قريبةً من منزل الطلاب، ومشاهدةُ الطيور في البُحيرة الساكنة ومحاولةُ معرفة
أنواعها، ومشاهدةُ الأزهار الغريبة أو الاستماع إلى المذياع؛ كل هذا من المتع التي
اكتسبتُها، وكان على رأسها جميعًا فنُّ المحادثة!
وقد اكتشفتُ جمال هذا الفن على مائدة الغَداء في الكلية بعد أن عرَّفَني عادل مشرفة
بزملائه الذين أصبحوا زملاء لي، ومن بينهم أمريكيةٌ كانت تدرُس علم الاجتماع اسمها
سوزان، وتشكو دائمًا من عدم توافُر الأفكار اللازمة للرسالة، وشابٌّ يوناني اسمه
بابادوبولوس، وكان يدرُس الرياضيات، وأخرى تدرُس الفيزياء واسمها كريستين، وكانت
إنجليزيةً محضة، وكان يرتاد المائدةَ غيرُهم من طلاب الدراسات العليا، فإذا دار الحديث
الذي عادةً ما يبدؤه الإنجليز بذكر أحوال الطقس، برزَت اتجاهاتٌ تعلَّمتُ رصْدَها في
تفكير كلٍّ منهم، وكنتُ أذكُر في هذا الصدد قول الطيب صالح إن الذكاء يختلف عن
سرعة التفكير (mental agility) أو ما يُوحِي بسرعة
التفكير واللَّمَاحية (أو الألمعية) في تراثنا الشرقي
(wit)؛ فالشرقي يرحِّب بسرعة التفكير والردود
الحاضرة وإن اقتصرَت على ردود الأفعال الساذجة، أما الغربي فلا يكترثُ لها، بل يهمُّه
أن يكون المتحدِّث على صواب بغَض النظر عن إطالة التفكير أو الإبطاء في الرد؛ ولذلك
فلدى الإنجليز ما يُسمَّى بالحديث العابر أو الاجتماعي (small
talk) الذي يُدرِجه الدكتور بيرن Berne في باب «الطقوس
الاجتماعية» (rituals) مثل الحديث عن الجو أو عن الصحة والمواصلات وكل ما لا
يتوقَّع معه المتحدِّث ردًّا حقيقيًّا من صاحبه، وقد يُدرج فيه ما يُسمِّيه بيرن بحديث
تزجية الوقت (pastime) أو حتى الأحاديث ذات الطابع
الآلي التي لا تنمُّ عن تفكيرٍ من أي نوع (mechanical)
وهم يفرقون بين ذلك كله وبين المناقشة الحقيقية، وهي عادةً ما تتسم بالحذَر والتردُّد
بسبب ضرورة تقليب الأمر على وجوهه، وكان بعضُ علماءِ اللغة آنذاك قد أصدَروا كتبًا
يُحلِّلون فيها مسالكَ الحديثِ ومساربه، لا من مُنطلَق علم النفس كما فعل بيرن في كتابه
«الألعاب التي يلعبها الناس» Games People Play
الذي قرأتُه آنذاك (نوفمبر ١٩٦٥م) بل من مُنطلق بناء اللغة في كل موقف، مما أدى إلى
استحداث مفاهيمَ جديدة تتعلق بما يُسمَّى بفعل
الكلام Speech acts وما تلا ذلك من توسُّع في علم الدلالة؛ فدلالة الألفاظ لا
تكمُن فيها وحدها، كما هو معروف، بل تكمن في دلالتها في العبارة والموقف؛ أي في دلالة
تداوُلها، مما أدَّى آخر الأمر إلى نشوء فرع من علوم اللغة يبحث التداول في المواقف
المختلفة، واصطُلح على تسميته «التداولية» pragmatics.
وبدا لي الأمر شائقًا عندما بدأتُ تحليل مناقشاتنا حول مائدة الغداء، ثم حول مائدة
العشاء.
اكتشفتُ أن نمَط المتحدث الإنجليزي
التقليدي the typical English speaker يميل دائمًا إلى الحذَر حين ينتقل من الحديث العابر إلى
موضوعٍ جاد، وقد يعود ذلك إلى أسلوب التنشئة أو التربية في المنزل والمدرسة؛ فالأهلُ
والمدرِّسون يشجِّعون التلميذ على التفكير أولًا قبل الإجابة على أي سؤال، وهم لا
يتوقَّعون من الطفل أن يكون حاضر البديهة، بل ولا يعتبرون ذلك من سمات الذكاء، ووراء
ذلك كله قرونٌ طويلة من عصر العلم، وتقاليد الإصرار على أن يكون للطالب وجهةُ نظرٍ
مستقلة، وأن يُمارِس حرية التفكير ثم يُحاسَب على هذه الحرية وما فعل بها؛ ولذلك فما
أسرعَ ما يعترف المخطئ بخطئه ويُعرِب عن أسفه! وهذا مما يعتبره المربُّون مزيةً كبرى،
والأهل والمعلِّمون لا يحاسبون المخطئ على الخطأ بل على مكابرته إذا كابر؛ فالجهل ليس
عيبًا، بل العيب كل العيب أن يدَّعي الدارس أنه يعرف ما لا يعرف؛ أي أن «يتعالَم».
ويتجلى ذلك كلُّه في استعمال اللغة الإنجليزية في الحديث والكتابة، وعندما أدركتُ هذه
الحقائق فهمتُ غضَب الأستاذ المُشرِف عليَّ حين وجدَني أستخدم ألفاظًا قاطعة، وأطلَعَني
على عَرضٍ كان يكتُبه لكتابٍ قرأَه، وكيف كان يتحاشى فيه القطع بأي شيء؛ فالعلوم
الإنسانية، كما يقول، تتناول تفسير الحقائق أكثر مما تتناول الحقائق باعتبارها حقائق؛
ومن ثَم شَرعتُ في محاكاة هذا الأسلوب، فلم تلبَث اللغة التي أتكلَّمها وأكتُبها أن
اكتسبَت طابعًا أقربَ إلى طابع أهلها؛ أي أهل الإنجليزية!
كان الفن الحديث يرتبط بدراستي، والحِيَل اللغوية تتردَّد في حوار الناس والممثِّلين
على المسرح، فإذا أراد شخصٌ أن يعرب عن اعتراضه لم يقل «إني أعترض» بل قال
“I don’t know …” بدايةً، ومعناها «لستُ واثقًا من
صحة ما تقول»، ثم يُردِفها برأيه الذي قد يمثِّل نقيضَ ما قيل، وإذا أراد التعبيرَ حتى
عما نعتبرُه من الأحكام غير الخلافية، أدرَج في العبارة ألفاظًا تسمح بقَدْرٍ ما من
الاختلاف، وذلك كما أقول حتى لو كان الأمر لا خلاف عليه! وانظُر الحوار التالي الذي
يُعتبَر غريبًا عن العربية:
– It feels warm enough here!
– The central heating must be working
well!
– It’s the new librarian, you know! She says she’s a
greenhouse plant and seems to relish the sweltering heat!
– Would those foreigners, coming from the
tropics?
وانظر إلى ترجمته الحرفية:
– أشعر بأن الدفء هنا يكفي!
– لا بد أن جهاز التدفئة المركزية يعمل بكفاءة!
– والسبَب هو أمينة المكتبة! فهي تقول إنها مثل النباتات التي تنمو في الصوبة
الزراعية، ويبدو أنها تستمتع بهذه الحرارة البالغة!
– وهل يستمتع بها هؤلاء الأجانب القادمون من المناطق الحارة؟
الحديث — كما ترى — من نوع «تزجية الوقت» في الظاهر، ولكنه يتضمن الاعتراض على زيادة
التدفئة إلى حدٍّ أكبر مما ينبغي، ولكن الصياغة تُحيل الأفكار إلى ملاحظاتٍ تقبل النقض،
خصوصًا العبارات التي تتضمَّن المقارنة أو ما يُسمَّى بالتعبير النسبي،
(Comparative)، مثل كلمة
enough؛ فماذا تعني الكناية هنا؟ يكفي ماذا أو
لماذا؟ إنها تعبير تنفرد به اللغة الإنجليزية ويبدو في الترجمة غريبًا، وانظُر إلى
تعبير must be (لا بد أنه) الذي لا يفيد اليقين، وكذلك
seems (يبدو) والسؤال الختامي! بل إن العبارة التي
تنسبُ لأمينة المكتبة «التسبُّب» في رفع درجة الحرارة غير واضحة! فما معنى السطر الثالث
حقًّا؟ هل يعني ما جاء في الترجمة من أن أمينة المكتبة هي السبب؟ لا شك أن ذلك هو
المعنى المُوحَى به، ولكن التعبير نفسه لا يقطع بذلك؛ فقد يكون المعنى أنها تُوافِق على
رفع درجة الحرارة، أو لا تعمل على خفضها، أو أنها ذات صلةٍ ما بالحرارة الشديدة وحسب!
وانظُر إلى الحذَر في الإشارة إلى ما تُبديه أمينة المكتبة من استمتاعٍ بالحرارة؛ إذ
يبدأ التعبير بعبارة «إنها تقول …» أي «والعهدة على الراوي!» مما يُبرِّئ المتحدِّث من
تهمة التجنِّي عليها! تُرى لو قدر لاثنين من العرب أن يُعبِّرا عن الأفكار نفسها — أي
عن الحقائق facts الواردة هنا — فهل يقولان ذلك؟ أفلا
يقولان «ما أشد الحرارة هنا! إلخ»؟
كنتُ أتعلَّم الإنجليزية لا باعتبارها ألفاظًا بل باعتبارها أنماطَ تفكير، وسرعان
ما
وجدتُ أن عالم الجامعة والكتب ومناقشات
المائدة table talk أصبحَت تتناقَض مع عالَم العربية التي أتحدَّثها أحيانًا في
المساء مع الأصدقاء، وكانت الهوة تزداد حتى أصبحتُ أشعر أنني غير قادرٍ على كتابة
الأحاديث الإذاعية، وبازدياد ابتعادي عن الإذاعة ازداد نابُ الفقر حدَّة، وغدوتُ أستعيض
عن متعة الإنفاق بمتعة الحديث، خصوصًا حول مائدة العشاء مع الأساتذة الإنجليز، وقلَّ
معدَّل الخطابات التي أُرسلها بالعربية إلى مصر وإلى سمير سرحان في أمريكا! وبدأتُ
أكتُب رسائلي بالإنجليزية إلى نهاد خطيبتي وحدَها!
٣
وكان من المُتَع الأخرى متعةُ الاستماع إلى مغامرات المصريين مع الإنجليزيات واصطدام
مَيل المصري إلى الكذب مع مَيل الإنجليزية إلى الصراحة، وكنتُ أُحاوِل في متابعة أخبار
الأصدقاء، وبعضُهم ممن تربطني به علاقةٌ مستمرة، أن أعرف دوافعَهم الحقيقية للكذب،
واكتشفتُ على مَرِّ السنين أن الدافع الرئيسي هو «الافتقار إلى الأمان»، وهي ترجمةٌ
شائعة ورديئة لكلمة insecurity التي تعني في الواقع ما
نعنيه في حياتنا المعاصرة بالقلَق وعدم الاطمئنان، وتتضمَّن بعض عناصر الخوف وعدم الثقة
بالنفس. كان بعض أصدقائي قد ارتبطوا بفتياتٍ إنجليزياتٍ أو أمريكيات، واتفقوا إما على
البقاء في إنجلترا أو على الهجرة إلى أمريكا أو كندا، ولم يكن هؤلاء بحاجةٍ إلى الكذب،
بل كانوا يختفون فلا يظهرون في دوائر الطلاب العرب، وتقتصر صلتُهم بالمكتب الثقافي على
الخطابات الرسمية المتبادَلة، ولكن البعض الآخر لم يكن واثقًا مما سيفعلُه في المستقبل،
وكان لذلك «يحمي» نفسه بستارٍ كثيف من الأكاذيب، وكان بعضهم قد اعتاد الكذب على الفتيات
في مصر، وتمكَّنَت منه العادة التي كان يراها لازمة، ثم لم يستطع أن يُقلِع عنها حتى
بعد زوال ذلك اللزوم، وكانت فئةٌ ثالثة تكذب لا لسبب؛ فهو كذبٌ يكاد يكون مفروضًا على
الفرد من باطنه، وهو ما يُطلَق على صاحبه تعبير compulsive
liar، وأخيرًا كانت هناك فئة تجد في الكذب متعةً إبداعية؛ فألوان
الكذب هنا منوَّعة تتفاوَت بتفاوُت المواقف، ويُعمِل الكاذب فيها خيالَه فيُبحِر في
المحيطات ويجوب الفيافي، ويؤلِّف القصص وينسِج الحكايات، وإن كانت الحادثة التالية تقبل
التصنيف في جميع الفئات المذكورة!
قال لي صديقي، وسوف أُخفي اسمه الحقيقي وأُسمِّيه «عبده» إنه تعرَّف بإحدى زميلاته
في
الكلية، وكان يعمل معها كل يوم في المختبر؛ إذ كانا متخصِّصَين في الكيمياء العضوية organic chemistry وبعد عام تقريبًا من
الزمالة قال لها أثناء ساعة الغداء إنه يحبها! وفُوجئ بأنها تُنكِر هذا القول وتقول له
ببسمةٍ صافية: «لا أعتقد ذلك! لقد اعتدتَ مصاحبتي في العمل فقط!» ولم يجد ما يرُد به
عليها فلغتُه الإنجليزية محدودة، وهو لا يملكُ إلا بعض العبارات التي يحفظها منذ الصبا،
أو مما سَمِعه يتردَّد حوله في محيط الجامعة؛ ولذلك لم يجد بُدًّا من تَكرارِ ما قاله،
مؤكِّدًا أنه يحبُّها من زمنٍ بعيد! وهالَه أن تنصرف الفتاة في عجلة دون تعقيب، بل وأن
تغيب عن الكلية عدة أيام، مما جعله يلجأ إليَّ طالبًا النصح!
ولم تكُن لديَّ نصائحُ حاضرة؛ فأنا لا أعرف الفتاة، بل ولا أعرف شيئًا عن الفتيات،
أو
الإنجليزيات بصفةٍ خاصة، ولم أكن أمضيتُ في إنجلترا إلا شهورًا معدودة، ولكنني حاولتُ
أن أعرف منه بعضَ التفاصيل، فهوَّنتُ عليه الأمر وطلبتُ منه أن يتصل بها تليفونيًّا
ليرى إن كانت غابت بسبب المرض. وعندما قابَلني بعد نحو أسبوعٍ سمعتُ منه ما كان يمكن
أن
أتوقَّعه لو أنني أوليتُ الأمر عنايتي الصادقة ولو أنني أحطتُ بالمعلومات الكافية؛ إذ
جاءت الفتاة إليه بعد المحادثة التليفونية، وقد ارتدَت أجمل أثوابها، وبدَت مشرقةً
وضَّاءة، ووجهُها — كما يقول — ينطقُ بالسعادة الغامرة، واستأنفَت العمل في المُختَبَر
دون أن تشير إلى ما قاله أو ما قالَته، وعندما حان موعد فسحة القهوة عَرضَ عليها الذهاب
إلى الكافيتريا (ويُسمُّونها في جامعة لندن buttery)
لكنها رفضَت وقالت إنها ستستمر في العمل، ولم يجد بُدًّا من الاستمرار هو الآخر، حتى
حان موعد الغداء فبادأَته هي بالدعوة، وعندما جلسا لتناوُل الطعام قال لها: «كنتُ قلقًا
عليك.» وكان ردُّها مقتضَبًا (شكرًا)؛ ومن ثَم انطلَق يبثُّها لواعجَ غرامِه مؤكِّدًا
أن حبه قديم. وهنا قالت له عبارةً لم يفهمها وإن حفظها وهي:
“But you didn’t do much about it, did
you?”
أي ولكنَّك لم تُفصِح عنه طيلة هذه المدة، واعتذَر بأنه كان يخافُ رفضَها، فقالت:
«هل
تظُنون أن الإنجليز يتَّسمون بالبرود؟» وفُوجئ وانعقَد لسانه، بينما انطلقَت هي
تتحدَّث، فأخبرَتْه أنه ظل يشغَل فكرها شهورًا، وكانت تحلُم باللحظة التي يميل فيها
قلبُه إليها! وكاد يطير من الفرح فعرض عليها الخروج فورًا، ولكنها قالت إن العمل في
المختبَر متأخر، وإن صدمة اعترافه بحبها قد أربكَتها عدة أيام، وهي تُحاول الانتهاء من
العمل في موعده رغم التأخُّر، ولكنها ضربَت له موعدًا في عطلة نهاية الأسبوع.
كان «عبده» منفعلًا وهو يحكي لي ما حدث، وكان ينظُر إلى الورقة التي دوَّن فيها
كلامها خشيةَ أن ينسى شيئًا منه، وقلتُ له إن ذلك أمرٌ طبيعي وهي قصةُ حُب عادية بل
عادية جدًّا، وقد تنجح وتُكلَّل بالزواج. وبدا الهمُّ على وجهه. الزواج؟ «نحن لم نذكُر
شيئًا عن الزواج!» وضحكتُ وقلت له: إذن تراجَع وأنت على البَر! فردَّ قائلًا: «ولكنَّني
أُحبها!» وشرحتُ له أن ذلك هو ما كانت تعنيه عندما أنكرَت أوَّل الأمر حُبه لها،
فالحب Love عند الإنجليز يعني الزواج، ولم يكن
هناك ما يدعو إلى استخدام تلك الكلمة ما دام لا يريد الزواج، ودُهِش «عبده» من كلامي
وقال لي إنني ملمٌّ بأحواله، وإنه لن يتسنَّى له الزواج قبل الانتهاء من الدكتوراه،
وربما يكون أهلُه قد رتبوا له زواجًا في مصر عند العودة، وزواجه من هذه الفتاة معناه
اصطحابها إلى مصر «حيث عليها أن تجد عملًا، أو أن تقنع بمرتَّب الجامعة الذي سأتقاضاه
(نحو أربعين جنيهًا في الشهر)، أو أن أعيشَ أنا هنا إلى الأبد بعيدًا عن أهلي!»
لم يكن «عبده» سعيدًا سعادةً صافية بالحب الوليد، بل كان يرى فيه مَصدَر همٍّ أو
عبئًا لم يعتَد حملَه ولا يعرف كيف يحملُه، وتخفيفًا عنه حاولتُ الدخول من بابٍ آخر،
فقلتُ له «ربما لم تكن تُحبها حقًّا.» أو «ربما تكون قد تسرَّعتَ أنت فأسأتَ فهم
عاطفتك.» وألا يمكن أن تكون هي أيضًا قد تسرَّعَت بإعلان «استجابتها» لك؟ فبدَت عليه
الحَيرة، وانصرف على أن نلتقي بعد مقابلته لها في عطلة نهاية الأسبوع.
لم تشغَلْني كثيرًا قصة «عبده» أثناء الأسبوع التالي؛ إذ أعاد المُشرِف لي الفصل الذي
كنتُ كتبتُه من الرسالة، وذيَّله بعدة ملاحظاتٍ كان أهمها رضاه عن المنهج، ولكنه أبدى
بعض التحفُّظات على بعض الألفاظ التي وصفَها بأنها أمريكية واقترح إبدالها، فعكفتُ على
ذلك، وأعدتُ طباعة الفصل على الآلة الكاتبة التي اشتريتُها (مستعملة) ثم شرعتُ في كتابة
الفصل التالي، وكان الشتاء ما يزال يقبضُ على الطبيعة بيدٍ من حديد، فإذا ظهَرَت الشمس
أسرعتُ إلى الحديقة أتأمَّل الطيور وهي تسير على ماء البحيرة المتجمِّد، وبعض الأشجار
التي لم تنفُض أوراقها وقد كسا الثلج أطرافها، وكنت سعيدًا؛ لأن مرض الحساسية الذي كان
يصيبني بالتهابٍ في الجيوب الأنفية قد رحل، وأصبحتُ قادرًا على التنفُّس من
جديد!
وفوجئتُ يوم الاثنين بشيكٍ يصلني من الإذاعة، مكافأة إضافية عن بيع سلسلة أحاديث
المغنِّيات العربيات إلى محطةٍ عربية في الخليج، وكان المبلغ كبيرًا (٤٥ جنيهًا)
فوضعتُه في البنك، وقرَّرتُ تحقيقَ حُلمي القديم بشراء جهازِ تسجيلٍ حتى أسمعَ ما أريد
من الموسيقى، وكان من بين نزلاء بيت الطلاب طالبٌ سوري لا أذكر إلا أن اسمه كان محمدًا،
قرَّر الهجرة إلى أقاربه في البرازيل، وعندما حصَل على تأشيرة الزيارة عرض ما لديه من
«كراكيب» (ويُسمِّيها الأغراض) للبيع، وكان من بينها جهازُ تسجيلٍ متوسِّط الحجم، باعه
لي بخمسة وثلاثين جنيهًا (بدلًا من ٤٥ جنيهًا) ففرحتُ به وشُغِلتُ بالاستماع إلى
الموسيقى الكلاسيكية، ثم أخبرني صديقي محمد مصطفى رضوان أن طالبًا سعوديًّا لديه
أسطوانات عبد الوهاب القديمة، ولا يملك جراموفونًا، وأن علي النشَّار (طالب الهندسة
الذي هاجر إلى أمريكا ونجح نجاحًا باهرًا؛ إذ اكتشف طريقةَ تحليةِ المياه بأسلوب الضغط
الأسموزي) لديه مثل هذا الجهاز لكنه لا يُكِنُّ له (أي للجهاز) احترامًا كبيرًا،
فقرَّرنا عقد أمسيةٍ عربية في غرفتي، نسمع فيها عبد الوهاب ونسجِّل أغانيه على
شريط!
ولم نكد نبدأ الأمسية، ونبدأ في تحضير الأطعمة الشرقية، حتى وصل «عبده» وطلب الانفراد
بي على الفور. وطلبتُ الإذن بالخروج تاركًا الغرفة للأنغام ورائحة الفلافل، وخرجتُ مع
عبده إلى قاعة الاستقبال، وانتحينا ركنًا قصيًّا حتى لا يسمعنا أحد، وبدأ حديثه بعبارةٍ
لن أنساها أبدًا: «شورتك مهبِّبة يا عناني!» وعجبتُ من ذلك؛ فأنا لم أُشِر عليه بشيء،
وإن كنتُ اقترحتُ التراجُع، فهدَّأتُ رُوعَه وطلبتُ منه أن يحكي لي ما حدث.
قال عبده: «ذهبنا مساء السبت إلى السينما، وشاهدنا فيلم My Fair
Lady وكانت تستمتع هي به بينما أُحاوِل أنا متابعة الحوار دون
ترجمة على الفيلم، وبعد السينما خرجنا في البرد، فاقترحتُ أن نذهب إلى غرفتي (وكانت
بجوار الجامعة) لكنها قالت إنها تفضِّل قضاء الليلة في فندق، تخيَّل! وقلت لها إن أهلها
سوف يقلقون عليها ولكنها أصرَّت، وكلما أبديتُ اعتراضًا قالت لي بلهجةٍ قاطعة: «ألست
تحبني؟» وأنت تعرف أن لغتي الإنجليزية ليست ممتازة، ولا أستطيع أن أتحدَّث بطلاقتك،
وحاولتُ أن أَثنيَها بذكر الإيجار المرتفع للفنادق، ولكنها قالت إننا سنتقاسم جميع
التكاليف، ودون أن أدري، كأنما كنتُ مخدَّرًا وجدتُني أوقِّع في كشفِ نزلاء أحد
الفنادق، ودفعتُ جنيهَين كاملَين، وصَعِدنا إلى غرفةٍ بالطابق الثالث، وقضينا الليلة
فيها، وكان ما كان، ولم أنَم إلا من فَرْط الإرهاق، وفي السابعة هبَطْنا إلى مطعم
الفندق حيث تناوَلْنا الإفطار، وانصرَفْنا.»
وبدأتُ في التساؤل عن الأشياء المعتادة في هذه الظروف، وفهمتُ من إجاباته أنها قالت
إنه ليس أوَّل رجل «تُحبه» فقد سبق لها «معرفة» شابٍّ نيجيري، وكانا على وشك الزواج
لولا أن والدها رفض؛ لأن الحبيب كان كاثوليكيًّا، ووالدها متزمِّت في مسألة الدين، وهو
لا يقبل إلا البروتستانت، ويفضِّل أتباع كنيسة إنجلترا (الإنجليكانية) وقالت له إن
والدها أعدَّ لها منزلًا خاصًّا لأنه ثري، وهو صاحب مصنعٍ كبير في جنوب إنجلترا، وإنها
سوف تعمل فيه حالما تحصُل على الدكتوراه؛ لأنه يُنتِج الأدوية وبه قسم للبحوث،
وبإمكانها أن تسعى حتى يحصُل «عبده» على عملٍ فيه معها، وإنها لم تكن تريد أن تُخبِره
بذلك كله حتى تتأكَّد من مدى اتفاقهما
الزوجي conjugal compatibility ولذلك أصرَّت على مسألة البيات في لندن بعيدًا عن أهلها (الذين
يقيمون في الضواحي) ولم تُفصِح لهم بعدُ عن السبب وإن كانت سوف تفعل عندما «يوافق» عبده
على ذلك!
وسألتُه عما فعَل بعد ذلك، وقد انقضى أكثر من أسبوع، فقال إنه وجد أن السبيل الوحيد
للخروج من هذا المأزق هو أن يلتزم الصمت؛ فقد كانت الليلة رغم كل شيء «ليلة سعيدة» وقد
وجد في جيب الجاكتة مبلغ جنيهَين مساهمةً منها في التكاليف، ثم تسرَّع في لحظة طيشٍ
وهما في غرفته (إذ أصبحَت تتردَّد عليه أثناء النهار) وأخبرها أنه مسلم! وكان في
الحقيقة قبطيًّا (أرثوذوكسي) والواضح أنه أدَّى بذلك إلى غيابها يومَين، وجاء الآن
يسألُني ما العمل؟ وقلتُ له كان ينبغي أن تكون صريحًا معها منذ البداية، وإن الأخطاء
لا
تُصحَّح بارتكاب مزيد من الأخطاء، وآن الأوان أن تُعاوِد الصراحة وتثوب إلى رُشدِك
وتتوب؛ فبابُ المغفرة مفتوح، واحزم أمرك، وفكِّر في مستقبلكَ في مصر وفي أهلك. وبدا
عليه التردُّد، ولكنه وعد بأن يُحاوِل جاهدًا وضع حدٍّ لتلك العلاقة، وانصرف، وعُدتُ
إلى حفل عبد الوهاب وهو يُوشِك على الانتهاء.
٤
فاجأَنا الربيع مثلما فاجأَنا الشتاء، كما يقول الشاعر، وتحقَّق وعد السكرتيرة،
فانتقلتُ إلى غرفةٍ مستقلَّة، وأصبحتُ قادرًا على أن أخلُوَ بنفسي ساعاتٍ طويلةً في
المساء، أستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية التي أصبحَت هوايةً مفضَّلة، وأقرأ حتى الواحدة،
وأنهض مع شروق الشمس فأذهب إلى الكلية وأسير في الحديقة فرحًا بالزهور والبراعم التي
تتفتَّح كل يوم، أو أتمتَّع فحسبُ بهواء الصباح المُنعِش الذي يذكِّرنا بالنيل عند
رشيد، حتى تفتَح المكتبة أبوابها، فأقرأ أو أكتب حتى ينتهي اليوم، ولم أعُد ألتقي
بأصدقائي العرب إلا فيما ندَر؛ إما عند العَشاء في الفندق، أو في قاعة الاستقبال حين
ألقاهم مصادَفة، وكان شهر مارس برُمَّته شهر التَّجوال وتأمُّل الطبيعة، وكان يصحبُني
أحيانًا بعضُ الأصدقاء ذاهبين إلى كلياتهم سيرًا على الأقدام، وكان الحديث يتطرق
أحيانًا إلى أحلام المستقبل، فكان بعضُهم يحلُم بفيلَّا وسيارة، والبعضُ الآخر يحلُم
بالهجرة، وفئةٌ ثالثة لا تعرف الأحلام، وكنتُ بالنسبة للجميع المرجع الذي يسألونه في
اللغة الإنجليزية، ورغم تقارُبنا في العمر كانوا يعتبرونني أخًا أكبر، وكانوا لسببٍ ما
يستودعونَني أسرارَهُم، ويَرونَ في قراءتي للأدب وهوايتي للفلسفة وعلم النفس مصدَر
حكمةٍ يمكن أن تُعِينَ من يطلبُ العون، وهكذا وجدتُ أنني قد كُتب عليَّ وأنا بعدُ في
السابعة والعشرين أن «ألعب دور» الشيخِ الحكيمِ أو الأخِ الكبيرِ العاقل!
وأفضى إليَّ بعضهم بمغامراته مع بعض العاملات في الفندق (اللائي احتفظن بوظائفهن
بعد
تحوُّله إلى بيت طلاب) وكان معنا طالبٌ نابهٌ من جنوب السودان، لا يعتبره الشماليون
عربيًّا مع أنه يتحدَّث العربية، ولكن ملامحه كانت زنجيةً خالصة، ولونُه فاحم لامع،
وكان طويلًا فارعًا لطيف المَعْشَر، عقَد صداقةً مع فتاةٍ برتغالية تعمل في الفندق،
وكان كلٌّ منهما يقُص عليَّ أخباره مع صاحبه، وكانت هي أيضًا فارعةَ الطول نحيلة،
ملامحها شرقية، وغيرُ جذَّابة، ولكنها كانت عاملةً مجتهدة، تُحاوِل أن تجد لنفسها ركنًا
تعيش فيه في أي مكان في العالم (niche)، بعد أن ضاقت
بها سُبل العيش في بلدها، وكانت تتصوَّر أن السوداني سوف يعود بها إلى جنوب السودان.
أما هو فكان واضحًا في موقفه وصريحًا إلى أقصى درجة؛ فلا مكان للبرتغاليات في جنوب
السودان — هذا إذا عاد هو إلى الجنوب — وعليها أن تظَل في بريطانيا.
وعلى كثرة الجنسيات في ذلك الفندق القديم، وكثرة جنسيات من التحق بالعمل به بعد
تحوُّله إلى بيت للطلاب، لم تكن بين الخادمات أو العاملات زنجيةٌ واحدة! كان الجميع
تقريبًا من أوروبا، ومعظمهن إما من أيرلندا أو إسبانيا ودول أوروبا الشرقية، وكان أصحاب
الوظائف الإدارية من الإنجليزيات، ترأسُهُن مس
ساتون Miss Sutton ذات الصوت المُجلجِل، والتي يرهبها الجميع فهي المديرة
التنفيذية للبيت، وهي مسئولة عن كل صغيرة وكبيرة فيه، وأما السكرتيرة الهادئة
مسز تريسي Mrs. Tracy فهي العقل المدبِّر والمدير
المالي معًا، تعرف جميع النزلاء وتُحادِثهم تليفونيًّا في غرفهم، ولها في غرفتها
بالطابق الأرضي نافذةٌ تطل منها على مدخل الفندق القديم فتعرف القادمين والخارجين وتكاد
تُتابِع أخبارهم، ويبدو أنها أدركَت من علاقتي بالعرب أنني أقوم بدور المُترجِم لمن لا
تُسعِفه اللغة الإنجليزية؛ إذ كان بعضهم يأتي من بلدانٍ عربية لا تشترط إجادةَ اللغة
الإنجليزية قبل الشروع في الدراسة، فكانت تسألُني في رفق أن أُبلغَهم الرسائل التي
تريدها، وتتصل بي تليفونيًّا لمعرفة الجواب.
وذات يومٍ عُدتُ إلى غرفتي بُعيد مغرب الشمس، ولم أكَد أتخفَّف من ملابسي حتى جاءني
صوتٌ في التليفون يطلب الغوث! كان صوتَ إنجليزيةٍ صميمة، أبلغَتْني الرسالة بسرعة
ووضعَت السماعة فأسرعتُ إلى تريسي لأُبلغَها بنفسي حتى تطلُب الطبيب؛ فتليفونها مشغولٌ
دائمًا. كان أحد نزلاء بيت الطلاب مصريًّا يدرُس بعض الوقت في كلية الفنون التطبيقية
(البوليتكنيك) ويعمل طُول الوقت في مطعمٍ في وسط لندن؛ فهو طبَّاخٌ محترف، وكان يعاني
من مرضٍ غريب في أُذنه، وسمعتُ أنه قريبٌ لأحد الوزراء في مصر، وأنه حصل على البعثة
بالواسطة (الوساطة!) للعلاج أساسًا، وإن كان السبب المعلن هو الدراسة، ولولا الوزير ما
غادَر مصر أصلًا. وكان يقيم وحده في غرفةٍ مستقلة وتتردَّد عليه إحدى موظَّفات بيت
الطلاب، وهي رَبْعة القوام غليظةٌ مربَّعة، كنتُ أراها تُحادِث الدكتور سمير المنقبادي،
وهو مصريٌّ يُعِد دراسات «ما بعد الدكتوراه» في القانون، ويقيم في النرويج ويُدرِّس
القانون في جامعة أوسلو بعد أن تزوَّج ابنة عميد كلية الحقوق هناك. كنتُ أراها تُحادثُه
محادثةَ من يعرفه حَقَّ المعرفة، وقد تحقَّق ظني فيما بعدُ، وكانت هي التي حادثَتْني
ذات المساء؛ لأنها كانت تزور صاحبنا ذا الأذن المعطوبة فأُصيب بما يشبه الإغماء أو
النوبة القلبية مما جعلها تستغيث بي. أبقيتُ الأمر سرًّا، بطبيعة الحال، ودفعَني حب
الاستطلاع إلى معرفة القصة الكاملة وهي مما لا يُروى في مثل هذا السياق.
وعندما جاءت أمطار أبريل، تبدَّلَت عاداتُنا بعض الشيء، لكن روتين الكلية والمكتبة
(أو المختبَر عند الآخرين) لم يتغيَّر، وعندما دفعتُ إيجار الغرفة المستقلَّة أحسستُ
أنني لا بد أن أحصل على مَورِد رزقٍ آخر وإلا لم يعُد لديَّ ما أُنفِقُه على ما أعتبره
من ضرورات حياتي (كالمسرح). وسعيتُ يومًا إلى نادي هيئة الإذاعة البريطانية حيث يجتمع
العاملون في القسم العربي، وقضيتُ بعض الوقت أُحادِث الذين كانوا هناك للراحة والسمر،
فعلمتُ أن عبد الرحيم الرفاعي انتقل إلى الإذاعة السويسرية، وتابعتُ أخبار بعض
المسيطرين على الأقسام من العراقيين (ممدوح زكي ونعيم البصري وزوجته وأولغا جويدة …
إلخ) أو من الفلسطينيين أو المصريين على قلَّتهِم، وتبيَّن لي أن مجال العمل قد ضاق
فأمعَن في الضيق. كان صلاح عز الدين مخرجًا في قسم الدراما لكنه كان يتكلم بطريقةٍ لم
أفهمها، وكان قسم الدراما يُسيطِر عليه بعض الأصدقاء والأحبَّاء الذين لم يسمحوا لأحدٍ
أن يدخل بينهم، وانصرفتُ مهمومًا؛ فالحياة في غرفةٍ مستقلة ترفٌ لا يمكن الاستمرار فيه
دون موردٍ آخر.
وذات ليلةٍ من ليالي مايو، وبينما أنا مهموم بأفكاري — أتأمَّل العامَ الطويل الذي
انقضى في غرفةٍ غريبة، وضيقَ ذات اليد الذي أصبح لا علاج له، ومهارتي في الترجمة التي
لا أستطيع الانتفاعَ بها — إذ بالتليفون يرن، وإذا بصوت الصديق العزيز عبد المنعم سليم،
الكاتب المشهور، يقول لي: هل تقبل أن تُترجِم خطابات من العربية إلى الإنجليزية يومًا
أو يومَين في الأسبوع؟ أقبل؟ كدتُ أطير فرحًا .. وقال اذهب غدًا إلى منير عبد النور في
مبنًى اسمه Queen’s House أمام مبنى كوداك بالقرب من
Bush House حيث الإذاعة؛ فهو في حاجة إلى مُترجِم
في قسم بحوث المستمعين لمدة أربعة أو ستة أسابيع؛ لأن الوظيفة الخالية لم يعلَن عنها
بعدُ، وهم يستخدمون الأشخاص بعض الوقت للعمل بالساعة. وذهبتُ في اليوم التالي فقابلتُ
منير عبد النور — المصري — الذي طلَب مني أن أذهب إلى الإدارة حيث أقابل ماري بيرتون (Mary Burton) رئيسة المُستخدَمين، وفعلتُ ذلك
فقالت لي: لك أن تعمل إما يومًا كاملًا أو نصف يوم، يومَين أو ثلاثة في الأسبوع، تبعًا
لحاجة العمل، واليوم الكامل بخمسة جنيهات، ونصف اليوم بثلاثة جنيهات ونصف! وكان معنى
هذا أنني أستطيع لو أردتُ أن أكسبَ نحو عشرة جنيهاتٍ في الأسبوع تكفي لدفع الإيجار بل
تزيد! ووقَّعتُ العقد المؤقت وطِرتُ إلى منير عبد النور حيث عرَّفني بمصريٍّ آخر اسمه
ريمون مِكَلِّفْ (Mecallef)، وهو اسمٌ شائع في مالطة،
وبالسكرتيرات (سالي وماريون
وكارول Sally, Marion and Carol) وقال إن لدينا أستاذًا مصريًّا في الجغرافيا اسمه عزت
أبو هندية يعمل بكلية هولبورن Holborn للُّغات
والاقتصاد، وهو يعمل بعض الوقت أيضًا، وسيدةٌ مصرية اسمها إفادات كيبرون (Capron) متزوجة من رجلٍ إنجليزي، وهي مؤقَّتة أيضًا،
وسيدةٌ مصرية من أصل لبناني اسمها ماري روك (متزوجة من إنجليزي
Rook) تتولى النسخ على الآلة الكاتبة. أما العمل
فهو ترجمةُ خطابات المستمعين التي تَرِد إلى القسم العربي بالإذاعة وتتضمَّن تعليقاتٍ
على البرامج الإذاعية، وتصنيفُها؛ فبعض المستمعين يطلبون الاشتراك في مجلة هنا لندن
العربية، وبعضهم يُرسِل مساهماتٍ في برنامج ندوة للمستمعين، وهذه خطاباتٌ لا تُترجَم
بل
تُحَوَّل إلى الأقسام المختصة، ولكن بعض الخطابات تتضمَّن نقدًا (مدحًا أو قدحًا) وهذه
هي التي يهتمُّ المسئولون بتَرجمتِها لمعرفة ما يدور في القسم العربي وإصدار التعليمات
اللازمة بشأنها!
وبدأتُ العمل فورًا، وكنتُ أُجهِّز الخطابات التي تفتحُها السكرتيرات، ثم أمُرُّ
عليها بعيني سريعًا لأرى نوعَ الخطاب وأصنِّفه ثم ألخِّص محتواه بالإنجليزية. واستغرقتُ
في اليوم الأول فترةً طويلة في ذلك العمل إذ كنتُ أكتب النصَّ المترجَم بخط يدي، وأضع
رموزًا على الخطابات الواردة إلى الأقسام المختلفة، ثم أبعثُ بالنصوص المُترجَمة إلى
غرفة السكرتارية، ثم شاهدتُ الدكتور عزت وهو يعمل، كان يُملي على السكرتيرة مضمون
الخطاب بالإنجليزية وهي تكتُبه بالاختزال short-hand ثم
تأخذ دفتَرها وتنسخُ ما فيه على الآلة الكاتبة. وكانت إفادات تكتُب بخط يدها، وهي دائمة
السؤال، متردِّدة، تخشى أن تُخطئ فتفقدَ عملها، وكان البحثُ قد بدأ عن موظَّفٍ دائم
يُغني الإذاعة عن المؤقَّتين.
ولم يمضِ الأسبوع الأول إلا وقد أحكمتُ الصنعة، فأصبحتُ أُملي السكرتيرة مضمون
الخطابات بلغةٍ تعمَّدتُ أن تكون عاميةً أو أقربَ إلى العاميَّة حتى أتدرَّب على
استخدام ذلك المستوى من اللغة الذي حُرمتُ منه في الجامعة، واخترتُ الحضور ثلاثَ مرات
أسبوعيًّا (نصف يوم) فكنتُ آتي في التاسعة والنصف وأمكثُ إلى الثانية عشرة موعد الغداء؛
حيث ينطلق الجميع إلى مطعم الإذاعة في مبنى Bush House،
أما أنا فأنطلق إلى الكلية لأستمتعَ بالطبيعة ثم أعكُف على الدراسة في المكتبة حتى
السابعة.
وكانت الإذاعة تُرسِل لي النقود في ظرفٍ مختوم على عنوان مسكني، وكانت نقدًا cash، فكانت تسُرُّني خيرًا من الشيكات، ولم يكن يُخصَم
منها بنسٌ واحد، بخلاف النظام المصري المعروف، وكنتُ أُسارِع بوضعها في البنك، مع حشد
التجار الذين كانوا يأتون بحصيلة الأسبوع إلى البنك يوم الجمعة. وكنت أحتفل بقدوم المال
كل أسبوعٍ فأشتري ما لذَّ وطاب من الأطعمة، وأحيانًا ما كنتُ أذهب إلى المطبخ المشترك
في بيت الطلاب فأقوم بالطهي أو إعداد الطعام بنفسي. وكان متوسِّط ما يصلني أسبوعيًّا
يتراوح بين عشرة جنيهاتٍ ونصف وبين اثنَي عشر جنيهًا إذا اقتضى العملُ قضاء يومٍ كامل،
وكنتُ في ذلك اليوم أتناول الغَداء في مطعم الإذاعة وأُحادِث الإخوان العرب، وكثيرًا
ما
كنا نجتمع حول موائدَ يُشارِك فيها الإنجليز، فتعرَّفتُ على زاهر بشاي المصري الذي كان
يُعِد رسالة للدكتوراه، طال عملهُ فيها فأمعَن في الطول (ولم يحصُل عليها إلا حين
أبلغَتْه الإذاعة بإلغاء عقده، فحصَل عليها لكنه لم يُفصَل!)، والدكتور محمود حسين الذي
كان متزوجًا من أجنبية، أظن أنها كانت سويديةً وله منها ثلاثة أولاد، وكان ضخم الجثة
رقيق الصوت، عُرِف عنه انشغالُه بالنساء ومطاردتُه لهنَّ، وتعرَّفتُ على أكرم صالح —
الفلسطيني المتخصِّص في البرامج الرياضية — وكان إذا حاول مصادقةَ فتاة فصَدَّتْه وصفها
بأنها صهيونية، وكنتُ أرى الكثيرين من الطلاب الذين يتردَّدون على المطعم لتناول الغداء
والصحبة فحسب.
كان مجتمعًا غريبًا؛ فكلٌّ منهم له قصة، وكلٌّ منهم يعيش حياةً تختلط فيها صور الماضي
بالحاضر دون أن يرى له مستقبلًا، كان العرب يندفعون مع الإنجليز كل صباح إلى العمل، ثم
يُطِلُّون في أحاديثهم على الذكريات التي يبتعدُ بها قطارُ الزمن فتختلف ألوانها وتشحب،
وتتداخل خطوطها وتشتبك، وكان معظم المصريين هناك ممن جاءوا إلى بريطانيا أصلًا للدراسة،
ثم انقطعَت رواتبهم فالتحقوا بالعمل وهم يَرونَ شمعة الدراسة تذوي ويخفتُ ضوءُها، وتزوج
بعضهم من إنجليزيات واشترى له بيتًا ذا حديقة، وأنجب أطفالًا يحملون الجنسية الإنجليزية
ولا يتكلَّمون العربية، وظلَّت صورة الوطن كما هي — أي كما تركوه — وكانوا يتأثَّرون
قطعًا بما يسمعونه في أجهزة الإعلام، وكان بعضهم يُحاوِل أن يُبرِّر حكمة خروجه من مصر
وعدم العودة إليها، وبعضُهم يُبدي الندمَ في لحظاتٍ نادرة عابرة، وكان من بين هؤلاء عزت
أبو هندية (رحمه الله) الذي ينتمي إلى دمياط، وقد اشتُهِر عنه إمساك اليد، ولو أن هذا
يرجع إلى فقر أيام الدراسة، وهو يقول إنه على استعدادٍ للعودة إذا وافقَت إدارة
البعثاتِ على دفع تكاليف تعليمه طيلةَ فترة عمله وإنفاقه على نفسه. وكان يعيش خارج لندن
في منزلٍ اشتراه، وكان لا يريد الزواج حتى لا تستولي زوجتُه على أمواله، وكان يُحاكي
الإنجليز في «تعقُّلهم» في الإنفاق والحرص على المال، وكذلك رغم تقدُّمه في السن (إذ
كان قد جاوز الخمسين) ورغم مرض القلب الذي يعاني منه في مصادقة الفتيات. حتى وقعَت
الحادثة التالية:
اقترحَت إفادات كيبرون أن تُعرِّفَه بفتاةٍ ثرية اسمها شيلا جرين تعمل في العلاقات
العامة، وأفهمَت كُلًّا منهما أن صاحبه ممتاز (وكانت شيلا ولا شك ممتازة) وعملَت إفادات
على «توفيق رأسَين في الحلال» حتى يجد الدكتور عزت من يرعاه إذا مرض، ومن يعتني به في
حياته اليومية حتى يظهر بالمظهر اللائق بجميع المصريين. وكنت حاضرًا أثناء المقابلة،
ومال كلٌّ منهما — كما يبدو — إلى صاحبه، وأصبحنا نتوقَّع إعلان الزفاف بين لحظة وأخرى،
ولكن عزت تراجَع في آخر لحظة، ويبدو أنه سمع منها ما يفيد أنها تعرف أنه مريض بالقلب،
فتخيَّل أنها تريد أن ترثَ مالَه حين يوافيه الأجل، ولم يمضِ أسبوعان حتى نعى الناعي
شيلا جرين، وقال قائل إنها تُوفِّيَت دون أن تعاني من أي مرض، ولكن الأجل المحتوم لا
يحتاج إلى مرض، كما تحدَّث المتحدثون عما خلَّفَته من ثروة طائلة، آلت إلى الحكومة؛
لأنها لم يكن لها وريث، وأصبحنا نرى الدكتور عزت وهو شارد اللُّب، يفيض صوتُه بالحزن،
ثم فوجئنا به في المكتب ذات يوم يقول «أنا أعرف حظي .. لو تزوَّجتُها لعاشت مائة
عام!»
أما ريمون مِكَلِّف فكان إسكندرانيًّا ظريفًا (ابن بلد وابن نكته) يحمل جواز سفر
بريطانيًّا لأن أصلَه من مالطة وأبوه مالطي يحمل الجنسية البريطانية، واستقر أخيرًا في
الإسكندرية. وحين طُردَ الإنجليز (ومن يحملون جوازات سفرٍ إنجليزية) من مصر إبَّان
العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م، كان ريمون قد ارتبط بغرامٍ مشبوب بفتاة من حي بحري
بالإسكندرية (وتقيم في شارع رأس التين) اسمها جانيت، وكانت ما تزال تلميذةً في المدرسة
الثانوية، وكان يتمنى أن يخطبها فور حصولها على التوجيهية (الثانوية العامة) ثم فوجئ
بقرار الطرد، فجاء إلى لندن حيث عمل في بحوث المستمعين، لكن خطاباته لم تنقطع إلى
جانيت، وما إن تحسَّنَت الأحوال السياسية حتى هبَط مصر بالطائرة وتزوَّجَها في اليوم
التالي، وبعد يومَين كانا في لندن، فاشترى بيتًا في جنوب لندن، في منطقة
Streatham، وأنجب منها ثلاثة ذكور، أحدهم مريض
بالهيموفيليا (مرض سيولة الدم) وعندما زرتُه صباح يومٍ من أيام السبت شممتُ رائحةً
مصرية محبَّبة كنتُ افتقدتُها من زمن، وعندما سألتُه قال «أصل جانيت لازم تدمِّس الفول
بنفسها!» ولا شك أنها كانت مدبِّرةَ منزلٍ رائعة، ولا أظن أنني أكلتُ فولًا أشهى مذاقًا
من فول جانيت.
٥
كان من نتائج عملي الجديد، الذي تطلَّب إذنًا خاصًّا من وزارة الداخلية (بالعمل خلال
الصيف للطلاب) أن اختلَف نظامُ حياتي فتعلَّمتُ السهر، خصوصًا بعد أن طال النهار
واعتدَل الجو، واشتريتُ جهازًا للراديو ماركة بوش Bush
(ما يزال يعمل حتى الآن) أغناني عن الراديو المشترك للفندق القديم، واشتريتُ قلنسوةً
من
الفِراء، كندية الصنع، بخمسة جنيهات، ما زلتُ أرتديها حتى اليوم في شتاء أوروبا، وبدأتُ
أتردَّد على بعض المطاعم الهندية التي تقدِّم وجباتٍ كثيرة التوابل، ومتنوِّعة الطعوم
يُطلِق عليها الأجانب مجتمعةً لفظ كَرِي بتفخيم الكاف
curry (وتنطق في مصر كاري بترقيقها ومد الفتحة) كما
اكتشفتُ كُشْكًا يبيع الكتب القديمة بنصف الثمن، وأحيانًا ما كانت كتبًا جديدة أصابها
تلفٌ طفيف، فبدأتُ أقرأ بنهَمٍ في شتى الموضوعات، خصوصًا في الفلسفة وعلم النفس؛ إذ كان
الأستاذ هاردنج Harding، أستاذ علم النفس بكلية بدفورد
مُولَعًا بالشاعر الذي أدرُسُه، وكان يوجِّهني إلى قراءة كتبٍ معيَّنة في علم النفس يرى
أنها لازمةٌ لدراسة هذا الشاعر، كما بدأ في ذلك الوقت غَرامي الشديد بالفيلسوف الألماني
كانط Kant، بعد أن قرأتُ مدى تأثُّر كولريدج Coleridge (صديق وردزورث) به، وكنتُ أقرأ عنه قبل أن
أقرأ الترجمات الإنجليزية المشروحة لكتاباته، وبدأَت مكتبتي الخاصة تزدهر؛ فكل كتابٍ
أقرؤه أحتفظُ به وأعودُ إليه، وكان ذلك كله سببًا في تعطيل الكتابة (في الرسالة) ولكن
المشرف لم يعترِض.
وذات مساءٍ دافئ من أمسيات مايو الجميلة، كنتُ أتريَّض في الحديقة حين رأيتُ على
البعد شخصًا يُشبِه «عبده» المصري. وتوقَّفتُ من المفاجأة. ما الذي أتى به إلى
الحديقة؟! وسرعان ما جاءني وفي يده حزمة أوراق، وقال لي: ذهبتُ إليك في الفندق، فقالت
السكرتيرة إنك ذهبتَ إلى الحديقة! (قلتُ في نفسي هذه سكرتيرة «مخابرات»!) وقال إن لديه
خطاباتٍ من صديقته كاثلين ريلتون Kathleen Railton
دأبَت على إرسالها إليه بعد ما انقطع عنها في الأسابيع الثلاثة الماضية، وألقيتُ على
الخطابات نظرةً سريعة فإذا هي أقرب إلى الفن الجميل أو الأدب الرفيع منها إلى الخطابات
العادية، فقررَّت قراءتها فيما بعدُ على مهَل، وكانت تواريخها المتقاربة وكثرتُها تدل
على أن صاحبتها لم تتوقَّف عن التفكير في «الموضوع» بل كان يشغلها تمامًا، وطلبتُ منه
أولًا أن يقُصَّ عليَّ التطورات، فقال إنه كان مطمئنًّا بعد أن قال لها إنه مسلم، فلا
يُوجَد في ظنه دينٌ يمكن أن يعترض عليه والدها مثل الإسلام، وعندما غابت عن الكلية عدة
أيام استبشر خيرًا، ولكنه فُوجئ بها تفعل ما فعلَته في المرة السابقة؛ إذ عادت هاشَّة
باشَّة، وقالت له إنها لن تخبر والدها بخبر دينه، وإنها على استعدادٍ لاعتناق الإسلام
وقد سألَت بعض أصدقائها من «الراسخين في العلم» فقالوا لها إن الإسلام لا يمنع زواج
المسلم من المسيحية، ومع ذلك فهي لا تريد لأطفالهما أن يعانوا، وتعتزم أن تعتنق الإسلام
فتصبح مثل «ممتاز» الفتاة الباكستانية المسلمة في قسم الفيزياء، بل إنها سألَتْها عن
الخطوات الواجب اتِّباعُها حتى تصبح مسلمة.
قال عبده: وعندها قرَّرتُ أن أصارحها بالحقيقة، ولكنها رفضَت الاستماع إليَّ مثلما
يحدث في الأفلام، وقالت لي إنني لن أفهم تفكيرها إلا إذا خرجتُ معها إلى الغابة يوم
الإثنين ٢ مايو؛ فهو يوم عطلة (Bank Holiday)، ولم أعرف
ما تعني بالغابة ونحن في إنجلترا فاتضح أنها تعني حديقة وندسور الكبرى Great Windsor park التي يُطلِقون عليها
اسم غابة وندسور Windsor Forest (والاسم ينطق وِنْزَرْ
لا كما نكتُبه بالعربية) وفعلًا قضَينا اليوم هناك، وسوف تجد وصفًا لتلك الرحلة في
خطابٍ لها، وقالت كلامًا كثيرًا لم أفهَم معظمه، ويدور حول الحرية والانطلاق والتحرُّر
من قيود التقاليد وما إلى ذلك، وتحدَّثَت فأسهبَت عن عدم حاجتها إلى والدها أو إلى
أمواله، قائلةً إنها على استعداد لأن تتبعني إلى أقصى أقاصي الأرض، حتى الصعيد
الجوَّاني، تحقيقًا لحبها العظيم. وعندها أحسستُ بالخطر خصوصًا عندما وصلَتني خطاباتٌ
من أهلي تفيد أنهم «شمُّوا» الخبر، وأنهم لن يقبلوا زواجي من إنجليزية، وعلى الفور
انتقلتُ إلى مسكنٍ آخر لا يعرف أحدٌ عنوانه، وكلَّفتُ أحد أصدقائي بترك الخطابات التي
تصلني إلى الكلية لدى إبراهيم الدويني، وكنتُ أمُرُّ عليه ليلًا لكي آخذها ثم أنصرف
سرًّا. واليوم ذهبتُ إلى المكتب الثقافي لأطلب تحويل تسجيلي إلى جامعة خارج لندن فوجدتُ
مستر فيولنج يُعاتِبني على عدم إخطاره بتغيير العنوان، وأردف ذلك قائلًا: «لقد سألَت
عنك خطيبتُك ولم أجد لديَّ العنوان الجديد!»
كانت التطورات جادَّة وتتطلَّب تفكيرًا عميقًا، فجلسنا على أحد المقاعد الخشبية في
الحديقة للنظر في جميع الاحتمالات، وكانت اقتراحاتي كلها مرفوضة، لا لأن عبده يرفض
الارتباط بكاثلين ولكن لأنه يريدها ولا يريدها في الوقت نفسه، وهو لا يريد أن يقول
الحقيقة حتى ولو كانت فيها نجاتُه، وعندما غربَت الشمس بدأنا نُحِس نسمات البرد
الخفيفة، فاقترحتُ عليه أن يأتي معي إلى غرفتي، ولكنه كان يخاف أن تكون في انتظاره؛ ومن
ثم أعطاني عنوانه السري الجديد ورقم تليفونه ورحل.
وعندما عدتُ إلى الغرفة نحَّيتُ أوراقَ الرسالة والكتب جانبًا، وجلستُ إلى المكتب
أقرأ رسائلها إليه، بعد أن وضعتُها في تسَلسُلها الزمني الصحيح، وفقًا لتواريخ إرسالها،
وبدأتُ بالرسالة التي تحكي فيها قصة غابة وندسور، ولاحظتُ أن فيها فقراتٍ تكاد تكون
منقولةً بالحرف من رواية عشيق الليدي تشاترلي للكاتب د. ﻫ. لورانس
D. H. Lawrence’s Lady Chatterly’s Lover، التي أخرج لها الدكتور
أمين العيوطي ترجمةً عربيةً ممتازة في الثمانينيات، كما كانت بها فقراتٌ تقطع بأن
كاتبتها موهوبة، وأنها تمثِّل نمطًا فريدًا من التفكير الرومانسي كان الدكتور شفيق
مجلِّي قد حدَّثَني عنه في مصر في الستينيات، فلم أكَد أصدِّقه. وسوف أقتطف من هذه
الرسالة التي ما زلتُ أحتفظ بها فقرةً قصيرة:
«إنك تخاف يا حبيبي من القيود والمحاذير التي وضعَها الناس لأنفسهم، وهي
قيودٌ ينسبونها إلى الدين أو إلى الأديان، ولكنك إذا رجعتَ إلى اليهودية أقدم
الأديان لوجدتَ أصل هذا الخلط؛ الإنسان لا يستطيع التفكير المجرَّد، ولا يستطيع
الاتصال بروح الكون، وهو لا يستطيع إدراك المعنى إلا إذا رآه مجسَّدًا في رمز،
ونحن لا نعرف معنى الروح البيولوجية إلا عند تأمُّل الخلية الحية. تعرف هذا
مثلما أعرفه؛ ولذلك كان اليهود يرون أن الله لا يُعبد إلا في معبد، فألبسوا
المعبد ثوب القداسة وجعلوه مكانًا إلهيًّا، مثلما فعلنا نحن بالكنيسة ومثلما
فعلتُم أنتم بالمسجد (حسبما تقول ممتاز) ولذلك أيضًا صَبَّ كل رجال الدين همهم
على الجسد؛ لأنهم رأَوا فيه رمزًا للروح؛ أي إنهم تصوَّروا أن الروح تسكن فيه
فحرَّموا هذا وحلَّلوا ذاك، ولكن الجسد والروح شيءٌ واحد، والخلية إذا لم تكن
حية لم تعُد خلية؛ أي إن الحياة صفتها الأساسية، ونحن لا نتعامل مع مادة مضافًا
إليها (plus) روح، بل مع حياة إذا قتلتَها لم
تعُد موجودة، وهذا هو ما قلتُه لك حين غبنا عن الوعي تحت الشجرة أول مرة، لقد
امتزجنا فأصبحنا حياةً واحدة، ولاحِظ أنني لا أقول جسدًا واحدًا، وكانت تلك
الحياة الواحدة هي التي تكرَّرَت بعد ذلك ثلاث مرات، ولا أستطيع أن أتصوَّر بعد
ذلك كيف تتكلَّم عن الإسلام أو المسيحية!»
وقلتُ في نفسي «ما أشدَّ جُرأتَك يا عبده أفندي!» وظللتُ أقرأ خطاباتٍ تتكرَّر فيها
هذه المعاني حتى وصلتُ إلى الخطاب الأخير، وكان الخطُّ رديئًا فالواضح أنه كُتب على
عجَلة، ولكنني ثابرت حتى قرأتُ العبارة المذهلة التالية:
«أخبرتُ والدي بأنك مسلم، فلم يعترض، وتساءلَت والدتي: هل هذا معناه أنه ليس
كاثوليكيًّا؟ فردَّ عليها قائلًا: «طبعًا يا جاهلة .. المسلمون مهذَّبون.»
(decent) وقالت أمي: لا بأس، ما دمتَ متأكدًا أنه
ليس كاثوليكيًّا! أبشِر يا حبيبي، لسوف نحقِّق أحلامنا. وأرجوكَ أن تردَّ على
خطاباتي.»
وأسرعتُ إلى التليفون، لكنه لم يكن قد وصل بعدُ، ثم فكَّرتُ في الذهاب إليه بنفسي،
لكني تساءلتُ ماذا عساي أن أفعل لو كنتُ مكانه؟ ولما لم أجد إجابةً شافية، ضمَمتُ
الخطابات بعضها إلى بعض، باستثناء خطاب الغابة، ووضعتُها في الدُّرج، وقرَّرتُ الانتظار
إلى الصباح.