النكسة
١
كانت أغاني أم كلثوم الجديدة بمثابة دقَّات الساعة التي نُحصِي عليها السنوات، وفي يناير ١٩٦٧، ونحن ما نزال نرشف من جمال ألحان عبد الوهاب في أغنيته الأخيرة لأم كلثوم («أمل حياتي») طلَع علينا بليغ حمدي بتُحفةٍ لا مثيلَ لها وهي «فات الميعاد». وشُغِلنا في الغربة بالطرب الحزين، وبدأ العرب من حولي يردِّدون: «ياما كنت أتمنى أقابلك بابتسامة» و«عايزنا نرجع زي زمان/قل للزمان ارجع يا زمان!» وذات صباحٍ بارد كنت في طريقي إلى العمل حين لمحتُ حشدًا من العرب أمام مبنى الإذاعة القريب، فدفعَني الفضول إلى التساؤل عما حدث، فلم أجد من الواقفين إلا إجاباتٍ مقتضبة مفادها أن أحد الزملاء واسمه «قيس» قد تُوفِّي، وأنهم سيتجهون للمشاركة في جنازته؛ فليس له أهل ولا أصحاب سواهم. ومن كان قيس؟
كان الوجوم الذي علا الوجوه في ذلك الصباح ذا جذورٍ عميقة، وكان العرب في لندن يشعرون بأنهم لا حَول لهم ولا طَول، وأن دمَ قيس المهدَر رمزٌ لما أهدروه حين اختاروا الحياة في الغربة، وكانت المناقشات تميل أحيانًا إلى العنف، وذات يومٍ كنت في مكتب ترجمة الخطابات، وكنتُ أقنعتُ سامي أبو طالب بأن يتقدَّم للوظيفة الشاغرة فتقدَّم وحصل عليها وكان يجلس مكان إفادات كيبرون، فسألتُه عن رأيه في مقتل قيس فقال بهدوء هزَّني هزًّا: «على من يقبل الحضارة المادية أن يتحمَّل النتائج!» فسكتُّ وعُدتُ إلى العمل، وعندما جاء عزت أبو هندية (وكان من عادته التأخر) وسأل عن سبب وجومنا وقلتُ له السبب قال بلهجته الدمياطية: «الإنجليزيات يدفعن إلى الجنون! وهذا سبب إحجامي عن الزواج!» ثم التفت إليَّ وقال لي: «لقد أحسنتَ بالزواج من مصرية، فسوف تعود معها إلى مصر .. إنها صمام الأمان.» ولم أفهم جميع دلالاتِ قول سامي وقول عزت إلا بعد سنواتٍ طويلة في الغربة.
٢
كان خالي الدكتور كمال (وهذا اسم شهرته) يزورنا كثيرًا في منزل الطلاب مع زوجته وكنا نتردَّد عليه كثيرًا؛ إذ كان يقيم قريبًا منا، وكان يتابع أخبارنا ويخرج معنا في رحلات نادي الطلاب العرب، فزرنا بعض المدن الساحلية والشمالية، وقمنا بنزهاتٍ كثيرة، ولكن رفع المصاريف الدراسية في الجامعات جعل نهاد تُصمِّم على الحصول على عمل؛ فدون الدخل الإضافي لن تتمكَّن من الالتحاق بالجامعة للدراسة (الماجستير مثلًا أو الدكتوراه) وذات يومٍ قادتني خطاي عَبْر الحديقة إلى الجانب الآخر منها، حيث رأيتُ سفارة السودان، وكنتُ أعلم أنهم يحتاجون إلى موظَّف في قسم العلاقات الثقافية الذي كان يرأسه حسن عباس (وقد علمتُ أخيرًا أنه تُوفِّي) فدخلتُ وسلَّمتُ وطرقتُ باب قسم العلاقات الثقافية فوجدتُ اثنتَين إحداهما في مقتبل العمر وسمراء، والأخرى في منتصف العمر وبيضاء تُسمَّى مسز مويلان (وهي أيرلندية) وحادثت الكبيرة عن الوظيفة، وقلت لها إن زوجتي تريد أن تتقدَّم لها وإنها مصرية. فسألَتني سؤالًا واحدًا: هل تعرف الإنجليزية؟ وقلتُ لها بل تعرفها خيرًا مني. فقالت لي أرسلها لي غدًا صباحًا. وفي الصباح ذهبتُ مع نهاد، وبعد دقائقَ معدودة قضتها في مناقشةٍ سريعةٍ خرجَت نهاد لتقول لي: اذهب أنت .. سأبدأ العمل اليوم!
ولذلك فعندما تجمَّعَت سُحب التوتُّر والحرب في سماء الشرق الأوسط وجد فيها الصحفيون فرصة لتحويل الأنظار عن فيتنام، ووجَد فيها رجال الإعلام اليهود بصفةٍ خاصة فرصة لشغل الرأي العام بقضيةٍ أخرى أقرب إلى اهتمامات الإنجليز المباشرة، خصوصًا لأن الكثيرين من كبار السن في بريطانيا كانوا قد شاركوا في الحروب الاستعمارية القديمة، أو هم يذكُرونها بوضوح، وكانت منطقة الشرق الأوسط تمثِّل للكثيرين «مسارح شباب»؛ فالبعض حارب في الحرب العالمية الأولى، والبعض في الثانية، وكانت العراق وبيداء الشام وفلسطين والصحراء الغربية المصرية مناطقَ ذات ذكرياتٍ حية في نفوسهم، وكنتُ ما أزال أذكُر المستر بيفن وهو شيخٌ في أرذل العمر، يعيش في منزلٍ ضخمٍ ذي حديقةٍ فسيحة، وكان سامي أبو طالب قد أخذني لزيارته ذات يوم؛ لأنه كان يقيم في المنزل قبل الانتقال إلى فنزبري بارك، وكان أطرف ما حدَّثني به سامي عنه هو أنه كان يعتمد تمامًا على عجوزٍ ترافقه ليلَ نهار حتى تصوَّر سامي أنها زوجته، وعندما ذكَر سامي ذلك له هالَ المستر بيفن ما يسمع، وقال له ما معناه «حاشا لله أن تكون زوجتي. إنها ترعاني فحسب!» وكنتُ حين زرتُه مع سامي قد أيقظتُ حواسي كلها لالتهام ألفاظ ذلك الهَرِم، وكان يتحدَّث مثل الشخصيات المسرحية التي يصوِّرها الكتاب (وكان قد ذكَّرني بشخصية سبونر في مسرحية «العزلة» لهارولد بنز) فهو يتكلم في عباراتٍ متوالية مثل طلقات المدفع ثم يردفها بسؤال إلى سامعه، دون أن يتوقع في الواقع إجابةً أو تجاوبًا، وانطلَق في ذلك اليوم يتحدث عن ذكرياته في العراق إبَّان الحرب العالمية الأولى، فأسهَب وأطال، وعندما أتت المرأة بالشاي ونحن نستمتع بدفء ذلك النهار، لاحظَت أن بيفن قد شردَت به الذكريات فقالت له مؤنِّبة: «يكفي ذلك يا كريس! تعلم أن ذلك مُضِر لك.» ولم أفهم ما تعني إلا بعد أن شرحَت لنا العجوز أنه كان ينسى نفسه حين يسترسل في ذكرياته ويتوقَّف عند حادثة أَسْره في شمال العراق، ثم يعاني من الكوابيس التي تأتيه ليلًا فيُصدِر أصواتًا مزعجة ويوقظها بصُراخه وعويله!
تذكَّرتُ تلك الحادثةَ بوضوح، ثم ذكرتُ أن مشرف النظافة في بيت الطلاب نفسه كان دائمًا يقول لي إنه حارب في مصر، وكان يستوقفني بعد عودتي أو إذا صادفَني واقفًا في الرَّدْهة ليُحدِّثني عن قناة السويس، وكذلك كان أحد البوابين — وكان فارعًا ذهب شعر رأسه ويلبس نظارةً طبيةً سميكة — وكان منظره يُوحي بالأستاذية والاحترام، وكان كثيرًا ما يُسِرُّ إليَّ بأخبار الطلاب، ويَهوَى الغمز واللمز، ولم أكن في البداية أفهم كلامه، ثم علمتُ منه فيما بعدُ أنه كان يعمل في سلاح التموين بالجيش البريطاني في فلسطين، وكان يمارس هواية تقديم الخدمات الغرامية للضباط (ويبدو أنه احترفها فيما بعدُ) إذ كان يتحدث بخبرة العارف المحيط ببواطن الأمور عن «الفتيات اليهوديات» ومزاياهن. ويبدو أنه كان حزينًا عندما اضطُر إلى الرحيل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشوب الحرب بين العرب وإسرائيل في عام ١٩٤٨م، وكنتُ أشعر من حديثه أنه يندم على تحويل الفندق إلى بيتٍ للطلاب؛ إذ كان يستطيع في الأيام الخوالي أن يواصل هوايتَه الخبيثة، وكان أسلوبه في الحديث يؤكِّد إتقانه لهذه الهواية (أو الحرفة) فقد كان يُحب الهمس والحديث الملتوي، ولكن دون حركات الأيدي، وكان ذلك هو أهم ما يفرق بينه وبين الطائفة التي ينتمي إليها أمثالُه في مصر.
هؤلاء الإنجليز الذين يقرءون الصحف يريدون أخبارًا عما يعرفونه، وهذا هو ما انتبه إليه رجال الإعلام فحوَّلوا دفة التركيز من فيتنام إلى الشرق الأوسط، خصوصًا وأنهم لم ينسوا هزيمة «إيدن» في عام ١٩٥٦م، والانتصار المعنوي الكبير الذي حقَّقه العرب على أطراف العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل)، كما استغل الإعلام عداء الحكومة البريطانية لجمال عبد الناصر باعتباره الزعيم الذي ساهم في تقويض الإمبراطورية البريطانية، وكان ما يزال يعمل على مناهضة النفوذ الغربي في الشرق الأوسط، بل ويحارب ذلك النفوذ عمليًّا في الجزيرة العربية، فكان اسمه رمزًا لما يُحب الإنجليز أن يحاربوه، وكان اسمه هو الراية التي يجتمع العرب في ظلها في كل مكان؛ فلقد كان «المعنى» الجديد والهُوية الجديدة للكيان العربي، وكنا نرفع الرأس في كل مكان فنحن من بلد ناصر، وكان الكثيرون يُحادِثوننا بتعاطُف المؤمن بالوجود العربي، وبالتاريخ العربي، وكانت أنباء التوتُّر في الشرق العربي باختصار موضوعًا حيًّا، يضمن لقُراء الصحف مادةً ساخنة.
وتحوَّل كل اهتمامي باللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي إلى تساؤلات عن مدى الكذب الذي يَعمِد إليه أصحاب الصحف. إنه كذب من نوعٍ غريب؛ فهو لا يقدِّم ما هو «غير حقيقي» بل يَعمِد إلى اختيار عناصرَ بعينها من الصورة فيلقي الضوء عليها، ويُغفِل عامدًا غيرها من العناصر، وبعض الكُتَّاب قد يكون لهم العذر بسبب الجهل مثلًا، وإن كان الجهل عذرًا قبيحًا، ولكن الغالبية لا يعانون من الجهل بل يعملون لما أصبح يُسمَّى «مصلحة البلد» وهو تعبيرٌ خبيث لا يُقصَد به في الحقيقة إلا المصالحُ الماديةُ البحتة لفئة من المنتفعين بالنظام؛ فقد تكون تلك المصالح مصالحَ حزبيةً محضة ومن ثَم فهي مصالح الفئة الحاكمة، وقد تكون مصالحَ اقتصاديةً أساسًا، ولكنها في النهاية تُنسَب في لغة السياسة إلى «البلد». لم أكن مهمومًا بسبب ما تقوله الصحف؛ فأنا واثق من عدالة قضيتنا ومما أعرف أنه يتفق مع المُثل العليا للأخلاق حتى في بريطانيا (بل وفي كل مكان)، سواء أكان مردُّها إلى البيوريتانية أم إلى النزعة التجارية. كنت ما أزال أثق في الإنصاف وفي الحق، وأثق قبل ذلك كله في نقاء نية زعيمنا، والجميع يشاركُني في ذلك، ولا أستطيع أن أكتُب عما لم أكن أعرفُه من ملابسات وأسرار، فأنا في الغربة أسمع ما يُقال وأقرأ ما يُكتب فحسب، وسموم الدعاية الإنجليزية لا تُقلِق بالي، بل تدفعني إلى التفكير فحسب.
وعندما تصاعدَت الأزمة لجأتُ إلى أحد زملائنا وهو الدكتور مسعد حجازي الذي عمل بعض الوقت ضابطًا وشارك في حرب اليمن، فبَثَّ في نفسي قدْرًا كبيرًا من الاطمئنان، ولكنني كنتُ في حاجة إلى أن أستمع إلى إذاعة القاهرة، فأتى محمد مصطفى رضوان بجهاز الراديو الضخم الذي يملكُه إلى غرفتنا وكان قادرًا على التقاط بث إذاعة مصر، واستمعنا في يوم الأحد ٤ يونيو إلى المؤتمر الصحفي الذي تحدَّث فيه عبد الناصر، وكان شامخًا مهيبًا، وجاءت أنباء الصلح مع الملك حسين، واستعداد الدول العربية الأخرى للوقوف إلى جانب مصر إذا نشبَت الحرب، فازداد اطمئنانُ الجميع، وأوَيْنا إلى مخادعنا هانئين.
ويعلم الله كيف قضَينا تلك الليلة، وفي الصباح الباكر خرجَت الصحف جميعًا وعلى صَدْر صفحاتها خرائطُ وصورٌ فوتوغرافية، وتصريحاتٌ لا نهاية لها، وتعليقات، وكنتُ أُترجم ما أقرأ والعرب حولي يستمعون حتى حل المساء فانصرفوا، وفي صبيحة اليوم الثالث (الأربعاء) سمعتُ جلال معوض يقول إن تحوُّلًا قد وقع في سير المعارك؛ إذ تدخَّلَت طائراتٌ أجنبية فتأكدنا أنه يعني الطائرات البريطانية والفرنسية؛ ومن ثم أرسلتُ استقالتي إلى ماري بيرتون فمن المُحال أن أعمل في جهةٍ معادية، ولو كانت رسميًّا مستقلةً عن الحكومة، وانتابني مرضٌ غريبٌ لا أعرف وصفًا له حتى الآن؛ إذ كنتُ في شبه غيبوبة، فاستدعت نهاد الطبيب، وعندما فحصني بدت عليه علامات الحَيرة، وقال إنها إنفلونزا مصحوبةٌ بارتفاعٍ مفاجئ في الضغط، ووصف عدة أدوية خرجَت نهاد فأحضرتها، ومكثتُ في قبضة ذلك المرض أكثر من أربعٍ وعشرين ساعة، ونهاد يعتصُرها القلَق ولا تُفارِقني، حتى تماثلتُ للشفاء واطمأنَّت، وأعلن الراديو قَبول قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، وقال إن عبد الناصر سوف يوجِّه حديثًا إلى الأمة في المساء.
واجتمع العرب في نحو الخامسة مساءً في غرفة سيدةٍ أردنية كانت حاملًا ولديها مِذياعٌ ممتاز يمكن الاستماعُ فيه إلى معظم المحطات العربية، وفي نحو الخامسة والنصف بدأ عبد الناصر حديثه فروى الخُدعة التي تعرَّض لها، ويبدو أنني لم أكن منتبهًا لدلالة ما يرمي إليه، ولم أنتبه إلا إلى السيدة وهي تصرُخ وتَلطِم وتقول: «لا لا يا عبد الناصر! لا تتركنا!» وكان لم يُعلِن بعدُ عن القرار الذي قرَّر أن يتخذه ولكنها أحسَّت بفطرتها بما يرمي إليه، فبدأ بكاءٌ وعويلٌ غريب؛ ومن ثم اصطحبتُ نهاد وخرجنا من المبنى وطفِقنا نسير ونسير كأنما لنستوعب ما حدث، هل نصدِّق ما تقوله الصحف البريطانية؟ هل وصل اليهود فعلًا إلى قناة السويس؟ وفي ثلاثة أيام؟ ألم نُحارِب حقًّا؟ هل دُمِّرَ سلاح الطيران المصري؟ وأهم من ذلك كله، هل فقدْنا عبد الناصر؟
ولم نعُد إلا في ساعة متأخرة، ولم نستغرق في النوم إلا همًّا وكمدًا، وفي التاسعة صباحًا طرَق أحدهم على الباب فقلتُ له تفضل فإذا به محمد مصطفى رضوان يقول لي إن الجماهير في القاهرة قد خرجَت في مظاهرات تُطالِب عبد الناصر بالعدول عن قرار التَّنحي. ولم تغرُب شمسُ يوم الجمعة حتى قَبِل عبد الناصر أن يعود وإن استمرَّت الجماهير في الإعراب عن حبها وتأييدها له في اليوم التالي، وتنفَّسْنا الصعداء، وإن كنا ما نزال نتابع أخبار الحرب على الجبهة السورية، وكانت أنباء ضياع القدس قاتلةً، وضياع الضفة الغربية، وما إن حل الأسبوع الجديد حتى توقَّف إطلاق النار على جميع الجبهات، ستة أيام عصفَت بنا قبل أن تعصف بالجميع؛ فنحن نعيش وسط الأعداء، وكان موقف العرب الذين يعملون في الإذاعة لا يُحسَدون عليه، وكان الهنود يسألونني لماذا لم تُطلِقوا الصواريخ؟ وكان معظم الإنجليز لا يدرون حقيقةَ ما جرى رغم كَم الألفاظ الهائل المنهال عليهم ليلًا ونهارًا، وكان خالي الدكتور كمال يعتصِره القلَق على أسرته في الإسكندرية، فقَّرر الرحيل مع زوجته وقطع فترة عمله في لندن، وظل يتردَّد على شركات الطيران حتى وجد مكانَين على إحدى الطائرات بصعوبةٍ بالغة، وبتنا وحدَنا نُواجه صيف النكسة.
٣
في سبتمبر رنَّ جرس التليفون، وسمعت صوتًا يتحدث بلهجةٍ إسكندرانيةٍ بها مَسْحة لا تكاد تبين من اللهجة غير المصرية، وقال إنه يحمل رسالةً لي من خالي الدكتور كمال، فهبطتُ إليه وقدَّمتُه إلى المديرة فحَجزَت له غرفةً مستقلة، وكان اسمه الدكتور محمد صدِّيق نوح، وكان طبيبًا يدرُس للحصول على الزمالة، وهو مولود في الإسكندرية من أمٍّ سَكندرية، وزوجته «فتان» سَكندرية، ولكن أباه سعودي؛ ولذلك كان يحمل الجنسية السعودية. وسرعان ما توثَّقَت عرى الصداقة بينه وبيني وبين نهاد، وعندما علم أننا نعتزم الانتقال إلى بيت طلابٍ جديد، قرَّر الانتقال معنا، وانتقل محمد مصطفى رضوان إلى غرفة في منزلٍ قريبٍ من المنزل القديم، وكان الأصدقاء السوريون قد رحَلوا بعد أن حصلوا على الدبلوم، وكذلك رحل الليبي عيسى موسى، بعد أن أنجب طفلًا لم يُسمِّه محمدًا، وتفرَّق الشمل، وكشَّر عام النكسة عن أنيابه، ولم تنقطع صلتُنا بالدكتور نوح حتى هذه اللحظة (١٩٩٩م)؛ فهو حتى بعد أن استقر في الرياض يتابع أخبارنا تليفونيًّا ونتابع أخباره ونحضُر أفراح أنجاله. أما محمد مصطفى رضوان فما يزال يتصل بنا تليفونيًّا من هولندا؛ حيث هاجر واستقَر، وأصبح من كبار أساتذة الهندسة الجوية (المساحة الجوية) في العالم، وبعد أن تزوَّج وأنجب ثم انفصل وتزوَّج، لكنه ما إن يشاهد أحدنا (أنا أو نهاد) في التليفزيون مثلًا حتى يتصل تليفونيًّا، وقد قال لي في العام الماضي على التليفون إنه عندما يسترجع الماضي يجدُ لحظات نورٍ لا تنطفئ أبدًا عرفَها معي ومع نهاد.
وفي سبتمبر ١٩٦٧م، هبَّت نسمةٌ منعشةٌ من نسمات مصر فأتت إليَّ في لندن بأستاذ شكري عياد، ولم أكن أتوقَّع مثل هذه المفاجأة الرائعة فاندفَعتُ في شوقٍ للقائه، وانطلَقنا نسير في شوارع لندن، ونستأنف حديثنا في الأدب الذي لم ينقطع من عشر سنوات مضت! كان يسأل وأُجيب، وأسأل ويُجيب، وعلى كَثرة ما سألنا وأجبنا لم نتطرق مطلقًا للسياسة، مما أعاد إليَّ بعض الثقة التي كانت قد اهتزَّت، كانت ثقة في النفس وفي مصر، وتنوَّعَت نُزهاتنا الثقافية فذهبنا إلى المسرح عدة مرات، وإلى السينما حيث شاهدنا فيلم «رجل لكل العصور» المأخوذ عن مسرحية روبرت بولت، وفيلم «ترويض السَّليطة» المبني على مسرحية شيكسبير، وشاهدنا مسرحياتٍ لتشيخوف وبرنارد شو وأوسكار وايلد، وكان دائمًا يتحمَّل تكاليف التذاكر، ويبدأ حديثه التليفوني بعد السلام بقولةٍ شهيرة هي: «أنا أدعوك.» فإذا عارضتُ قال لي «إنها دراهمُ معدودة!» وعندما حان موعدُ رحيله سألني عن موعد انتهائي من الدكتوراه فقلت له إنني ما زلتُ أعمل في الماجستير، فقال لي إنه يبدو من مناقشاتنا أنني أُسرِف في قراءة كُتبٍ خارج الرسالة، وقال لي بلهجة الجِد «كفاية صَرْمَحَة بين الكتب وخلَّص رسالتك!» وحاولتُ أن أعمل بنصيحته بعد رحيله لكنني لم أستطع! كانت زيارتُه كالحُلم، وأفقتُ في أكتوبر على واقعٍ يصعُب الفِرار منه، والكُتب المنوَّعة المتاحة بقروشٍ زهيدة لا يمكن مقاومة إغرائها.
كان أهم تأثير تركَه شكري عياد في نفسي هو السؤال المحيِّر «وبعدين؟» أي وماذا بعد أن ندرُس الأدب واللغة؟ وماذا بعد أن نقرأ إبداعاتِ الخيال وتصاويرَ الواقع؟ كان شكري عياد يطرح الأسئلة التي أُثيرَت بعد ذلك بعشرين عامًا في مؤتمر كيمبريدج عام ١٩٨٧م، حين انهمكَ فريقُ الأساتذة الإنجليز في تحليل معنى «الأدب الإنجليزي» أو ما يمكن تسميتُه ﺑ «فكرة الأدب الإنجليزي»؛ إذ اكتشفتُ آنذاك صِدقَ ما دعا إليه شكري عياد من إعادة النظر فيما يُسمَّى ﺑ «أدبية الأدب» وهي التي كان أصحاب البنيوية يَدْعُون إليها بل ويكادون يفرضونها فرضًا في فرنسا، وكنتُ مؤمنًا بها بحكم دراستي للنقد الجديد، وهو ما أتت به المدرسة الأنجلوأمريكية، وكان الإنجليز يُبْدون تحفظاتهم على كل جديد، ويستريبون بكلِّ ما من شأنه التشكيك فيما درجوا على اعتباره «صُلب» المنهج الأدبي، ولم أكتشِف إلا بعد عشرين عامًا ما وراء ذلك كلِّه، ولكنني لن أستبِق الأحداث فأعود إلى أكتوبر ١٩٦٧م.
كنتُ أشعر أن السياسة قد فُرضَت عليَّ فرضًا، وأن اهتماماتي اللغوية والأدبية لن تنفصل بعد اليوم عما يجري في العالم، وأن قدَري في الغربة أن أعيش — كما يقول التعبير الإنجليزي — «فوق قمة الأحداث» لا داخلها؛ فالذي يعيش في بلده يعرف أنه واحد من ملايين، وأنه لا طاقةَ له على تغيير مسارها، أما في الغربة فالمرء يتصوَّر أنه يعرف أكثر من أهل البلد، ويتحدَّث في الشئون العامة حديث من يُعتد برأيه حتى ولو لم يملك القدرة على تغييرها، وكنتُ قد استمعتُ إلى خطاب ألقاه عبد الناصر قبل عشرة أيام تقريبًا يوجِّه فيه أصابع الاتهام إلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويؤكِّد دورها في الحرب، ولا شك أن أحاديث الرئيس الأمريكي جونسون آنذاك كانت تشي بمعرفة ما لا يعرفه إلا أهل الاستخبارات، وكانت الصحف الإنجليزية تنقلُ عن الصحف الأمريكية بعض المعلومات التي تُعَد في مصر من الأسرار العسكرية، فعرضتُ على المجتمعين وجهة نظري وهي أن الهجوم الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن يمثِّل محاولةً من الغرب لإيقاف مسيرة النهضة، وأن له أبعادَه الثقافية التي لا تنفصل عن الأبعاد الاقتصادية والسياسية، ودفعَني الحماس إلى أن أقول إن أمام العرب حربَ بقاء، وإن بذل الروح في سبيلها يَهُون، ويبدو أنني انفعلتُ وتهدَّج صوتي فأشرتُ إلى أحد الأنباء الصحفية التي تقول إن رونالد ريجان حاكم كاليفورنيا آنذاك نصح جونسون بالتلويح باستخدام القنبلة الذرية في فيتنام، وقلتُ للحاضرين كيف تقبلون الحديث عما تُسمُّونه «محرقة» اليهود في ألمانيا النازية وتَنسَون محرقة الفيتناميين؟
٤
كان المشرف دائم السؤال عن الرسالة، ولم يستطع أن يُدرِك أبدًا أن النكسة السياسية قد تسبَّبَت في نكسةٍ عامة أصابت المصريين جميعًا، وكنا نُتابِع أخبار الوطن على البُعد، ونُحاوِل أن نعزل أنفسنا فلا نستطيع، لكننا بذلنا جهدًا كبيرًا في سبيل ذلك؛ إذ تركَت نهاد العمل، وعُدتُ للرسالة أُحاوِل تعويضَ ما فات، لكن التغيُّر في موقفي من الحياة الإنجليزية — خصوصًا على المستوى العام — كان قد بدأ يتضِح في سلوكي وفي قراءاتي، فأصبحتُ لا أصدق كل ما أقرأ، وتحديدًا في أجهزة الإعلام، وأصبحتُ أومن بضرورة إعادة النظر في كل ما كنتُ قد بُهِرتُ به في عامي الأول، وكانت تلك عمليةَ مراجعةٍ مستمرة لم تتوقَّف حتى الآن، وقد مر بي حادثٌ تركَ أثَره العميق في نفسي، وأكد على ضرورة التريُّث والتمهُّل قبل تصديق أي شيء، ولو كان ذلك يتخذ صورة «نتائج علمية» وبخاصة في العلوم الإنسانية.
وتوالت الأصداء حتى اكتسبَت أبعاد الأزمة حين طالب بعض الصحفيين بعزل ذلك الأستاذ وإدانته علنًا، وإذا بمجلس أمناء الجامعة يُصدِر حكمًا بتبرئته من كل شيء، وقال في حكمه: «إنه إذا كانت بعض الأرقام التي وضَعَها الأستاذ غير مستقاة من الواقع، فهي لا تتنافى مع الواقع، وهي منطقيةٌ وتتفق في مجملها مع ما توصَّل إليه غيره من الباحثين وما توصل هو إليه نفسه من استقراء الوقائع الثابتة.» ومن ثَم قرَّر مجلس الجامعة تثبيته في منصبه، واعتبار اعترافه بمثابة أداةِ غفران، وصكِّ اعتذار عن ذلك البحث، مما يؤكِّد أن سائر بحوثه صادقة وهي تؤهِّله لشَغْل منصب الأستاذية.
كان أيزينك قلقًا؛ لأن العالم المتَّهَم قد أدرج معايير «تاريخية» و«دينية» تتضمَّن إدانةً للجنس اليهودي؛ ولذلك فإن استبعادَه بسب «تزوير الإحصاءات» سوف يضمَن عدم المساس باليهود وإنكار القول بأنهم طائفةٌ تتسم بصفاتٍ نفسيةٍ معيَّنة مما قد يلقي بالشك على أبحاث أيزينك نفسه! ونادى أصحاب هذا التفسير بنشر بحث الأستاذ المتَّهَم (ولم يكن قد نشَره إلا في مجلةٍ متخصصة لم تُطبع منها سوى مائةِ نُسخة) وتوزيعه على نطاقٍ واسع حتى يستطيع العلماء أن يستبعدوا الإحصاءات المزوَّرة ويدرُسوا المنهج «التاريخي» و«الديني» الذي اتَّبَعه في التحليل.
وفي خِضمِّ المناقشات نشرت الصحف حادثة الدكتور أشرفي، وهو رجل من أفغانستان، وصَفُوه بأنه شعلة من ذكاء، جاء قبل عشر سنوات بشهادةٍ مزوَّرة من جامعة كابول تقول بأنه حصل على البكالوريوس في الطب النفسي، وسمَحَت له السلطات الطبية بممارسة المهنة، فبزغ نجمُه فيها وذاع صيتُه، واغتَنى وفتح لنفسه عيادةً كبيرة يعمل فيها كثيرٌ من الأطباء الإنجليز، وتزخر بالممرضات والأثاث الفاخر والأدوية والكُتب، ولم يعُد أحدٌ يتساءل عن تخصُّصه، لا سيما بعد أن أصبحَت عيادته كعبةً يحجُّ إليها أبناء الطبقة الراقية، بل وأصبح الأجانب يَؤُمُّونه، وخصوصًا ذوات الثراء الفاحش من الأمريكيات اللائي عَجزنَ عن شفاء أنفسهن في أمريكا!
كان المجلس الطبي البريطاني في حَيرة من أمره؛ فقد حكَم بشطب اسمه من سجل الأطباء بسبب عدم حصوله على درجةٍ علميةٍ تؤهِّله للعمل، وطالَب بترحيله إلى بلاده، ولكن وزارة الداخلية ترفُض ذلك لأنه تزوَّج من إنجليزية، وتجنَّس بالجنسية الإنجليزية، ولم يعُد لها سلطانٌ عليه! ومما زاد الطين بِلَّةً أن الأطباء الذين يعملون معه شَهِدوا له بمهارة لا تتوفَّر في كبار الأساتذة، وكتَبوا عريضةً ضمُّوها إلى طلب استئناف الحُكْم الذي أصدَره المجلس، وانقسَم الصحفيون ما بين مؤيد ومعارض للترحيل، وظهر أيزينك في التليفزيون البريطاني ليُعلِن إدانتَه الشديدة لذلك المزوِّر، وليشرح أسباب اعتقاده باستحالة نبوغ رجلٍ من أفغانستان، حتى من باب الاستثناء، مما أثار كثيرًا من المشاهدين.
وفي غضون ذلك تُوفِّي الأستاذ الذي كان قد اعتَرف بالتزوير، وفجأةً توقَّفَت أنباء المنافسات العلمية، وحلَّ في الصحف محلَّها نبأ هجوم رأس السنة الذي شنَّته قوات الفيت كونج على الأمريكيين، وإصدار الرئيس جونسون أمرًا بتكليف قرابة خمسة عشر ألفًا بالذهاب إلى فيتنام، ولم نعُد نعرف ماذا حدث للدكتور أشرفي، ولا ما انتهت إليه قضيةُ ترحيله، وكأنما الأرض ابتلعَتْه!
وفي غِمار ذلك كله، وكنا في يناير ١٩٦٨م، قمتُ مع الدكتور نوح بزيارة رماح البرعي! كان رماح — وهو سَكندريٌّ سمينٌ ضَحوك — طالبًا مُجدًّا في كلية الطب، ثم اكتشف بعد تخرُّجه أن فرصة عمله بالجراحة محدودة، وهي عِشقُه الأول والأخير، وكان قد خطب فتاةً صغيرة (بطريقة الخاطبة) لكنه شعر بأنه لن يستطيع تحقيق حُلمِه إلا إذا سافر، فقبل وظيفة جرَّاحٍ مبتدئ بإحدى مستشفيات الكويت، ودأَب على الدراسة استعدادًا لدخول امتحان الزمالة، ونجح في الجزء الأول، لكنه ظل يرسل المال إلى أهله والهدايا إلى خطيبته في مصر، وتصادف أن مرض أحد أمراء البحرين فجاء إلى العلاج في الكويت، وأجرى له رماح عمليةً ناجحة، فما كان من الأمير إلا أن بنى له مستشفًى خاصًّا، وفتح له أبواب الممارسة الجراحية على مِصراعَيها، وتمكَّن في أثناء ذلك من اجتياز الجزء الثاني من امتحان الزمالة في إنجلترا، فعرضَت المستشفى عليه وظيفةَ استشاري! وكان على رماح أن يقرِّر ما يفعل؛ إذ ارتبط قلبُه في الغربة بحب فتاةٍ كويتية، وخطيبتُه في مصر قد بلغَت الخامسة والعشرين وما تزال تنتظره، ولم يتردَّد رماح طويلًا بل ذهب إلى الإسكندرية، وزار أهل خطيبته وصارحَهم بالموقف، وعرض عليهم أي تعويضٍ ماليٍّ يطلبونه، وطلبوا ثلاثين ألف جنيه فلم يعترض، وأودَع لهم المال في البنك، وعندما أحسَّ بالرضا عاد إلى الكويت. وهنا عرض على حبيبته الزواج بشرط الإقامة الدائمة معه في لندن، فوافقَت وسافر العروسان!
وعندما زرناه حانت فسحة القهوة، فإذا به يُخرِج من درج مكتبه رغيفًا ضخمًا (فينو) وشرع يأكل بعد أن دعانا إلى مشاركته، وكلانا مثله نُحب الطعام، ولكننا اعتذرنا، فقال شارحًا: «أصل مراتي ما تحبنيش أجوع.» وأظن ظنًّا أن الساندويتش كان يتضمن لحمًا وبعض شرائح الطماطم والخيار، وكان رماح قد انتهى لتوِّه من عدة عملياتٍ جراحية ناجحة، وانطلق يحدِّث الدكتور نوح عنها، وكنتُ أُتابع مناقشتَهما بدهشة وإعجاب!
٥
كان اللقاء مع رماح البرعي، على طرافته، بالغ الأثَر في نفسي، فإذا كان قد أعاد لي بعض الطمأنينة بتأكيد ذكاء العربي ومهارته، فلقد أكَّد لي أيضًا أهميةَ ما قاله شكري عياد عن «الدلالة»؛ فالمادة الإنسانية التي يشكِّلها الأديب لا تقلُّ دلالتُها عن الصور والأبنية الجمالية التي يُنشئها أو يُحاكيها أو يقتبِسها ويُعِدُّ لها. وسواء قصَصتُ قصة رماح ببراعة القاصِّ المحترف أم رويتُها عاريةً عن الأشكال الأدبية التقليدية أو المُبتكَرة، فسوف تظل المادة الإنسانية زاخرة بالدلالات، وسوف يكون تجاوبُ القارئ العربي معها بمثابة الإجابة على سؤال شكري عياد «وبعدين؟» نعم نحن نحتاج إلى الأدب لأننا نحتاج إلى أن نعرف رماحًا، ونحتاج إلى أن نزيد وعيَنا بالحياة! وعندما ركبنا الأتوبيس الذي سوف ينقلنا إلى أقرب محطة للمترو، لاحظ الدكتور نوح أنني كنتُ شاردَ اللُّب، فسألَني عن سبب شرودي فقلتُ له: «أبدًا .. بس مستغرب شوية.» فأدرك أنني أفكِّر في قصة رماح، فقال بلهجة ابن البلد الصادقة: «أُمَّال لو شفت الأجهزة اللي عندهم!» ولكنني لم أكن مبهورًا بنظافة المستشفى ونظامها، بل كان ما يشغلُني هو ذلك الهمُّ الذي كُتب عليَّ أن أحملَه مدى الحياة — ألا وهو التساؤل مع شكري عياد عن الدلالة!
وعُدتُ إلى الرسالة أتأمل ما قطعتُ فيها من أشواط، وما بقي من جهد لا أقوى على بذله، وتساءلتُ من جديد: تُرى أستطيع أن أُقلع عن «الصَّرمحة» بين الكتب، وأنتهي من الرسالة عملًا بنصيحة شكري عياد؟! وقرَّرتُ أن أُحاوِل من جديد، وإن كانت الضائقة المالية تتطلَّب البحث عن عمل، وكنتُ أرجو أن يكون هذا العمل ذا طابعٍ مُنتظِم حتى لا أُكابِد هذا العَناء، ولجأتُ من جديدٍ إلى أصدقائي في الإذاعة، فوجدتُ أن الجميع يؤكِّدون أن بريطانيا لم تشارك إسرائيل في العدوان على مصر، وقال بعضهم إنني أخطأتُ حين استقَلْت، وإنهم سوف يرحِّبون بعودتي، ولكنني لم أتحمَّس لموضوع الخطابات!
وعندما عُدتُ من الكلية في اليوم التالي وجدتُ خطابًا من منير عبد النور رئيس وحدة بحوث المستمعين يُخبِرني فيه أن قسم الاستماع بالإذاعة قد أعلَن عن مسابقةٍ للتعيين في وظيفة مُترجِمٍ للمواد الإذاعية التي تبثُّها المحطَّات العربية، خصوصًا نشرات الأخبار والتعليقات السياسية، وأنني يجب أن أُقدِّم طلبًا على وجه السرعة إن كنتُ أُحب هذا اللونَ من الترجمة! واتصلتُ تليفونيًّا بمنير عبد النور أسألُه عن التفاصيل فقال لي إنني أستطيع أن أعمل في عطلة نهاية الأسبوع وأتفرَّغ باقي الأيام للدراسة، وفرحتُ بذلك وقدَّمتُ الطلب، وتحدَّد يوم الامتحان، وذهبتُ إلى مبنى الإذاعة الرئيسي في لندن وكان الامتحان يستغرق ثلاثة أيام؛ الأول للترجمة التحريرية من العربية إلى الإنجليزية، والثاني للاستماع؛ نشرات عربية يستمع المتقدِّم إليها ويُترجِمها كتابةً فور سماعها، والثالث للمعلومات العامة بالإنجليزية. وكان عدد المتقدمين نحو عشرين من مختلف الأعمار والجنسيات، وكنتُ واثقًا من نجاحي.
وبعد نحو أسبوعَين وصلني خطابٌ يقول كلامًا غريبًا: «إننا مهتمون بالطلب الذي تقدَّمتَ به، وسوف نُعلِمُك بالنتيجة قريبًا، ونرجو أن تُخطِرنا إذا التحقت بعملٍ آخر في هذه الأثناء.» كنا في مارس وكنتُ قد بدأتُ العمل من جديد في الرسالة، ووصل نهاد خطابُ القَبول النهائي من جامعة ساسكس، وكان ما لدينا من المال لا يكفي للمصاريف الدراسية، ناهيكَ بمصاريف المواصلات وإيجار الشقة! ولم ينقضِ أسبوعٌ آخر حتى جاء خطاب القَبول من الإذاعة، ويتضمَّن سؤالًا عن الموعد الذي أُحب أن أبدأ العمل فيه. وذهبتُ إلى المشرف أسألُه ما أفعل، فقال إن كنت ستنتهي من الرسالة في مايو فابدأ العمل في يونيو. واتفقتُ مع نهاد على أن تكون لندن هي قاعدتنا التي ننطلق منها إلى برايتون وردنج، ومن ثم كتبتُ الرد المطلوب.
وكان «بيت الحديقة» يتكون من أربعِ شقق، نسكُن في إحداها وتتكوَّن من صالةٍ كبيرة وغرفة نوم وحمَّام ومطبخ، ولكنها كانت تتسم بالرطوبة مما كان يصيبني بالكحَّة كثيرًا دون أن أُدرِك السبب، وإلى جوارها على الطابق الأرضي أيضًا شقة مماثلة يقيم فيها سوداني يُدعى عبد الحليم عباس وزوجته نجاة نجار، وفي الطابق العلوي (الأول عندنا في مصر) شقتان يقيم في إحداهما سودانيٌّ آخر هو الطبيب الجزولي دفع الله العاقب وأُسرته، وفي الأخرى نيجيريٌّ عملاق وزوجته الأجنبية (الألمانية) ويصل بين الطابقَين درَج تتوسَّطه بسطةٌ فيها تليفون مشترك لجميع السكان. ورغم الشهور القليلة التي قضيناها في ذلك المنزل فقد كنا نشعُر أنه بيت الأُسرة حقًّا، وسرعان ما توطَّدَت العلاقة بيننا وبين جيران الطابق الأرضي، فكنا نتزاور، خصوصًا لأن عبد الحليم كان شقيق حسن عباس (المستشار الثقافي بالسفارة السودانية) وكانت زوجتُه تعمل فيها، ولم يكن عبد الحليم قد انتقل إلى المنزل عندما انتقلنا إليه، بل كان يقيم في الشقة دارس للعلوم يُسمَّى محمد علي، وسرعان ما رحل مع زوجته والرضيع الذي وُلد في لندن.
وفي يوم ٢٩ مايو ١٩٦٨م (يوم الأربعاء) وصلَتْني برقيةٌ من كافرشام تقول إنني يجب أن أذهب في الغد لتوقيع العقد والشروع في العمل، ورافقَتني نهاد في تلك الرحلة، فسَعِدَت أيَّما سعادةٍ بجو الريف، ودخلَت معي مبنى العمل، ولم يستغرق توقيعُ العقد دقائق، ثم تجوَّلنا في الريف المحيط بالمبنى، وعُدنا أدراجنا إلى المنزل في لندن، وقد توارت أحزانُ الصيف الأليم في العام السابق تمامًا، وبدأنا نُحِس أننا على أعتاب حياةٍ جديدة. كنا قد اتفَقنا على أن أعود للدراسة (الدكتوراه) بعد أن تنتهي هي من الماجستير، ومَن يدري؟ لعلنا ندرس معًا للدكتوراه! كان الأمل الذي يحملُه العمل هو وجود المال، وكان الافتقار إليه هو مصدر المتاعب الأول في حياتنا.
وعلمتُ منه أن موعد التقدُّم لامتحان هذا الفصل الدراسي قد فات، وأنه من الأفضل أن أنتظر إلى سبتمبر، خصوصًا حتى أستعدَّ للامتحان التحريري! ودهِشْت. أي امتحان؟! لم أكن أعلم أن هناك امتحانًا تحريريًّا في خلفية البحث (أي في القرن التاسع عشر كله) وأنني يجب أن أستعد له فلا يدري أحد من سيكون المصحِّح! وسألتُه عن الكتب التي يوصيني بقراءتها فوعدَني بإعداد قائمة، وفعلًا أرسل لي القائمة بالبريد، وكانت تزيد على ثلاثين كتابًا!
وفرحتُ فرحًا شديدًا إذ قال إنه سوف يتوقف في لندن ليراني وحتى نصل ما انقطع ولكنني أستبقُ الأحداث هنا؛ فلم يكن صيف ١٩٦٨م بأهدأ من صيف ١٩٦٧م، وإن كان في جبهاتٍ مختلفة، فلأعُدْ إلى أوائل يونيو وما كنا بصدَده في ذلك الشهر، بعد أن سمعنا عن احتكاك الاتحاد السوفيتي بالنظام في تشيكوسلوفاكيا بعد تولِّي دوبتشيك الذي كان يدعو للإصلاح السياسي مقاليدَ الحُكم في ذلك البلد، وبعد أن سمعنا إدوارد هيث، زعيم حزب المحافظين الذي كان يمهِّد لتولِّي السلطة في المستقبل بعد حزب العمال، وهو يتفاخر بأن القوات الأمريكية قتلَت عشرة آلاف فيتنامي في حملةٍ واحدة! كان العالم يتغير بسرعةٍ أكبرَ مما توقعت!