الفصل السادس
سارة
١
قضيتُ شهرًا أو شهرَين أتنقَّل بين نصوص دراما القرن الثامن عشر، حتى تمكَّنتُ من
تحديد النوع الأدبي الذي تنتمي إليه مسرحية «سكان الحدود» مع مقارنتها بمسرحياتِ روبرت
سذي وكولريدج مثل الندم وسقوط روبيسبير ومسرحية اللصوص للكاتب الألماني شيلر التي
أثَّرَت في الشعراء الإنجليز، وانتهزتُ فرصة انشغال الإنجليز باحتفالاتِ عيد الميلاد
ورأس السنة فانغمستُ في الكتابة، ثم وصلَني خطاب من نهاد تحدِّد لي فيه موعد عَودتِها
فاستقبلتُها في المطار ولم تكن تتحدَّث في طريق العودة إلى لندن هذه المرة إلا عن
الموظَّفين في مصر وتعذُّر مغادرة البلد، رغم أن عبد الناصر رحمه الله كان قد بدأ يسمح
بالهجرة لمن يريد، وجاءت معها بصحيفة الأهرام وفيها قرأتُ أن عدد الذين هاجروا من مصر
عام ١٩٦٨م بلغ ٣٣ ألفًا، وارتفع الرقم إلى ٩٠ ألفًا عام ١٩٦٩م، ولم يكن أحد يدري عددَ
من سافروا أو هاجروا عام ١٩٧٠م (ربما لأن الإحصاءات لم تكن قد اكتملَت) ومعنى ذلك على
أي حال هو أنه أصبح من المُمكِن مغادرة مصر.
وناقشَتني نهاد مناقشةً صريحة في موضوع الإنجاب؛ فهي على مشارف الخامسة والعشرين
والأطباء ينصحون بعدم التأخُّر عن هذا السن، وكان أهل مصر قد تساءلوا ولا شك عن سر
المنع؛ ومن ثم اتفَقنا في يناير ١٩٧١م على ألا نتعمَّد المنع؛ فنحن نسكن شقة تسمحُ
بوجود الأطفال، ولن يعترض أحدٌ على وجودهم، بعد التشتُّت والتنقُّل في لندن، وقَصَّت
عليَّ نهاد تفاصيل الأحوال في مصر، خصوصًا على المستوى الشخصي، فعلِمتُ أن فاروق
عبد الوهاب سافر أخيرًا إلى أمريكا بعد حصوله على الماجستير من مصر، وأن سمير سرحان
وعبد العزيز حمودة أصبحا مدرِّسَين في القِسم، وأن سمير يكتُب النقد المسرحي في «صباح
الخير»، وحكت لي أخبار زواج (أو إعلان زواج) رشاد رشدي، وكان يُخفِي زواجه من السيدة
ثريا أثناء وجودنا في مصر، وعندما تم الطلاق بينه وبين الدكتورة لطيفة الزيات وصلَني
منه خطابٌ قصير يقول إنه طلَّقها بناءً على رغبتها. كما علمتُ كيف تَوالَى على رئاسة
تحرير مجلة المسرح صلاح عبد الصبور وعبد القادر القط قبل أن يتوقَّف صدورها؛ فالبلد
رسميًّا في حالة حرب، والشعار الرسمي الآن هو الكفاح من أجل «إزالة آثار
العدوان».
وحكَت لي نهاد عن ولادة حاتم أكبر أبناء سمير
سرحان يوم ٥ يناير ١٩٧١م، وكيف زارت سميَّتَها نهاد جاد في المستشفى، وحملَت الطفل
الجميل وقبَّلَته، وقلتُ لها إننا نتمنى طفلة، وقالت ليتنا نُرزق حقًّا بطفلة، وفي مارس
أكَّد لها الطبيب أنها حامل، وحدَّد لها أواسط ديسمبر موعدًا للولادة، ولا أذكُر من كان
أوَّل من اقتَرح تسميةَ الطفلة (إن كان المولود أنثى) بسارة، ولكننا لم نكن نختلف حول
ذلك الاسم الجميل، وفي أبريل زارني أخي مصطفى (الدكتور مصطفى الآن) الذي كان في طريق
عودته من موسكو إلى القاهرة، وأذكُر حادثةً طريفة تؤكِّد ما ذهبتُ إليه من اختلاف بين
الثقافتَين العربية والأوروبية.
كنا في القطار عائدَين من لندن إلى ردنج حين
وجدنا في المقصورة قبالتَنا فتاتَين إنجليزيتَين تتحدثان بلهجة سكان الريف في مقاطعة
باركشير Berkshire (وتُنطق في الجنوب إما بارْكْ
شَرْ أو بارْكْ شير واختصارها باركْسْ) وهمس لي أخي ولم يكن قد بلغ الثامنة والعشرين
بعدُ، إن أهم ما يميِّز الإنجليزيات عن الروسيات هو الرشاقة، بل كان إذا رأى امرأةً
ضخمةً مربَّعة في لندن قال إنها روسية! وفهمتُ أنه بُهر برشاقة الفتاتَين، في حين أنني
كنتُ معتادًا على هذا الشكل، فلم أجد فيه ما يستلفتُ النظر، وأحسستُ أنه يريد تزجية
الوقت بالحديث معهما، فقلتُ لهما باللهجة الجنوبية «المثقَّفة» إن أخي وصل لتَوِّه من
موسكو وهو يدهَش لرشاقة الإنجليزيات! فضحكَت إحداهما وقالت: «ولكن وزني زاد رطلَين منذ
أن بدأتُ العمل في هنتلي أند
بلمرز (Huntley and Palmers) (وهو مصنع للبسكوت يُطالِع القادم من لندن إلى ردنج بمبانيه
الضخمة).» ومن ثَم بدأنا الحوار عن البسكوت؛ إذ أكَّدَت الثانية أنها لم «تَسمن» إلا
بعد أن تزوَّجَت، وقالت ضاحكة: «ولكن جودي Judy (أي
صاحبتها) لديها استعدادٌ وراثي للسمنة.» وقالت لمصطفى: «لو رأيتَ والدتها لظننتَ أنها
روسية!» وضحكنا، ثم قلتُ لهما إن المصريين يفضِّلون الجسم الممتلئ واللون الأسمر
(كذبًا) فأسرعَت تقول: «جودي ليست شقراء فهي تصبغ شعرها.» فردت جودي: «بل هو لونه
الطبيعي.» واستمر الحوار الضاحك حتى وصلنا إلى مشارف ردنج، ولاحت مباني مصنع البسكوت،
فأشرتُ إليه وقلتُ للأولى: «العودة إلى العمل؟» فقالت: «لا لا! إنه يوم عطلة لي.»
وأومأتُ إلى صاحبتها فقالت جودي: «لا! لم تعُد تعمل بعد أن تزوَّجَت!» وعندما غادرنا
القطار تبادلنا الوداع وانصرفنا.
ودُهش مصطفى لأننا تحادثنا ببساطة وانصرفنا ببساطة؛ أي دون معرفةٍ سابقة ودون وعد
بمعرفةٍ لاحقة! وهذه من الفروق الأساسية بين الثقافتَين، وللقارئ أن يُدرِك مدى دهشتي
أنا عندما عُدتُ إلى مصر بعد عشر سنوات فوجدتُ اختلاف «العلامات» واضحًا جليًّا؛
فالإنجليزية حين تبتسم فإنها لا تُعبِّر ببسمتها عن الدعوة للحديث أو التواصل، وهي
تبتسم بطريقةٍ تلقائية لا تُعبِّر عن رضًى أو سعادة، وما أكثَر المصريين الذين فسَّروا
البسمات تفسيرًا مصريًّا! وأذكُر أن أحدَهم استجاب للبسمة استجابةً مصرية فقالت له
الفتاة: «هل من خدمة أؤديها لك؟» وتملَّكَه الحرج ولم يعرف ماذا يقول ﻓ «اخترع» قصةً
لكي يُبرِّر سوء فهمه للبسمة. وللقارئ أن يُدرِك دهشتي أيضًا حين وجدتُ أن التجهُّم في
مصر هو القاعدة، وكان عليَّ أن أعيد تفسير «العلامات» — والبسمة إحداها، وغيرها
كثير.
واكتمل الفصل الثالث من الرسالة في أول يوليو فقدَّمتُه للمشرف، ولم يَعترِض هذه
المرة على شيء بل اقترح أن أَعمِد بعد انتهائي من الدكتوراه إلى نشر النص الأول
للمسرحية في مقابل النص المعدَّل (إذ قام الشاعر بتعديله وتغيير أسماء الأبطال) ولكن
الحياة في مصر ابتلعَتْني وإن كنتُ نشرتُ مخطوطًا آخر للشاعر، ولكنني أستبق الأحداث
هنا؛ فالمهم أنني قد استعدتُ توازُني وأصبحتُ أعتاد الجمع بين الدراسة في المكتبة في
أيام الأسبوع وبين العمل بالترجمة في نهاية الأسبوع!
وفي يوم السبت ١٠ يوليو خرجنا أنا ونهاد لنرى إحدى المسرحيات في لندن، وقابلنا في
قطار العودة زميلةً لها في العمل تُدعى جون
بولارد Joan Pollard كانت تمتاز عن الجميع بذاكرتها القوية وذكائها الحاد، وتفوقُ
كل العاملين في المكتبة في معرفتها باللغات الأوروبية، ولم تكن متزوجةً بل كان لها
صديقٌ بولندي تُحادِثه باللغة البولندية، وعندما وصلنا كان والدها في انتظارها بسيارته
لتوصيلها إلى المنزل، وعرضَت علينا توصيلنا؛ إذ كانت الساعة قد تجاوزَت الحادية عشرة
والنصف مساء، وكانت جون غير جميلة وممتلئة الجسم، والسيجارة لا تفارقُ فمها، وكانت
مشهورةً بأنها ذات رائحةٍ غير زكية؛ فحاسة الشم ضعيفةٌ لديها وهي مثل الكثيرين من
الإنجليز غيرُ مولَعة بالاستحمام، وفي السيارة سألتُ والدها، وكان المسئول عن الاستقبال
اللاسلكي لوكالات الأنباء الأجنبية بكل اللغات، سألتُه عن الأخبار فقال دون أي اهتمام:
«طلبوا منا تلقي وكالة الأنباء المغربية «ماب» Maroc Arab
Presse بسبب الانقلاب الذي وقع في المغرب!» انقلاب في المغرب؟
واستزدتُه فلم يزِد، وما إن وصلتُ إلى المنزل حتى أدرتُ مؤشِّر الراديو الرائع الذي
كنتُ اشتريتُه وهو من ماركة «هاكر» (وما يزال لديَّ) على صوت العرب، وسمعتُ أخبار
القاهرة (موجز الثانية بعد منتصف الليل، الثانية عشرة في إنجلترا) فقال المذيع: «هناك
أنباءٌ متضاربة عن وقوع انقلابٍ في المغرب، وتقول وكالات الأنباء …» فعلمتُ أن الانقلاب
قد فشِل.
وفي السابعة صباحًا كنتُ أول من يدخل المبنى، فقالت المشرفة وكان اسمها مسز هوايت:
«كنتُ أعلَم أنكَ سمعتَ النبأ!» وعلى الفور بدأنا الاستماع إلى إذاعة الرباط، فإذا
بالموسيقى العسكرية، والمذيع يقول: «سوف يتحدث الملك الحسن الثاني إلى الشعب بعد قليل.»
وقلتُ في نفسي: «هذه أخبارٌ غير متوقَّعة يوم الأحد، وسوف يكون سبقًا صحفيًّا.» وأحضرتُ
الآلة الكاتبة، وما إن بدأ الملك الحسن حديثه (رحمه الله) حتى انطلقتُ في الترجمة،
فأرسلتُ الأخبار الموجَزة أولًا لإذاعتها في نشرات الصباح نقلًا عن مصدرها الأصلي from the horse’s mouth ثم ترجمتُ
الخطاب كله. وتابعنا بعد ذلك تفاصيل المحاولة الفاشلة، وإعدام المشاركين فيها يوم ١٣
يوليو، ولم أكن أعمل في ذلك يوم (الثلاثاء) ولكن الله قدَّر لي أن أعمل في الأسبوع
التالي؛ إذ كنتُ في لندن طُول اليوم، وعندما عُدتُ وجدتُ رسالةً تقول: وقع انقلاب في
السودان ونريدك للترجمة! واتصلتُ تليفونيًّا بالعمل فقيل لي إن عليَّ أن أقضي نوبةً
ليلية؛ أي من الثانية عشرة حتى الصباح، وعندما وصلتُ قال لي المشرف:
you’re in clover يعني «يا بختك يا عم!» فسألتُه أن
يشرح ما يعني فقال إن إذاعة أم درمان انقطعَت عن الإرسال ولا تُوجَد مادةٌ للترجمة. وما
العمل؟ فقال لي هامسًا: «هذا كلامٌ غير رسمي. off the
record اذهب فنم في غرفة التليفزيون حتى تعود الإذاعة إلى الإرسال،
وسوف يوقظك المهندس!» وعملتُ بنصيحته. وفي الرابعة صباحًا كانت المفاجأة!
لقد اعترض القذافي الطائرة التي كانت تُقِل زعماء الانقلاب الشيوعي (هاشم العطا
وعبد الخالق محجوب وغيرهم) وأرغمَها على الهبوط في ليبيا، فكان أن تمكَّنَت القوات
الموالية لجعفر النميري الرئيس السوداني آنذاك من إحباط الانقلاب، وسرعان ما عاد إلى
السلطة، وأعلنَت إذاعة أم درمان أنه سيوجِّه خطابًا إلى الأمة (مزيد من الترجمة)، وفي
يوليو ٢٣ يوليو أُعدِم أربعة من زعماء الانقلاب! عيد ثورتنا! وخطاب آخر للسادات .. مزيد
من الترجمة!
خطابٌ آخر؟ أين الخطاب الأول؟ كان ذلك يوم الجمعة ١٤ مايو فيما يُسمَّى بثورة
التصحيح. وكانت ترجمته عسيرة؛ فهو يستخدم تعبيراتٍ عامية، ويتحدَّث لغةً لم نعتدها في
الترجمة السياسية: «عايزين يهبشوا رئيس الجمهورية» (to get at
…) «اتنين لواءات بوليس قلت أحطُّهم في السجن.» وكانت الأزمة قد
بدأَت يوم الثلاثاء حين استقال شعراوي جمعة وزير الداخلية، وتصاعدَت حتى تغيَّر شكل
الحكومة تمامًا، لكنني كنتُ في المكتبة ولم أطَّلِع على التفاصيل إلا من الصحيفة في
صبيحة يوم الأربعاء، وقرأتُ المزيد يوم الخميس ثم بدأتُ الترجمة يوم ١٤ واستَمرَّت ليوم
١٥ مايو ١٩٧١م!
أما خطاب يوليو فكان تقليديًّا، ولم تكن فيه صعوبات، وعندما عُدتُ إلى المنزل وجدتُ
خطابًا من سمير سرحان يقول إنه قادم مع زوجته نهاد جاد إلى لندن في الشهر القادم!
وحجزتُ لهما غرفةً كبيرة في بيت الطلاب القديم (جنيه واحد في الليلة) فالطلاب يتركون
البيت في الصيف والإنجليز يؤجِّرون الغرف الخالية لمعارف الطلاب أو الطلاب السابقين
بأسعارٍ زهيدة، وجاء سمير ونهاد إلى لندن وقضينا معهما أيامًا سعيدة، فذهبنا إلى المسرح
وشاهدنا مسرحية أيام زمان Old Times لهارولد بنتر،
وغيرها، وذهبنا إلى برايتون، المدينة الساحلية الجميلة، وكانت نهاد زوجتي قد بدا عليها
الحمل، ولكنها كانت تتنقَّل معنا أينما ذهبنا، وعندما رحلا أحسسنا أن الصيف قد
انقضى.
وفي سبتمبر كانت عزة صليحة أخت نهاد قد أتت إلى لندن وفقًا لنظام العمل لتعلُّم
الإنجليزية، وكانت تُقيم مع أُسرة في لندن، لكنها لم تكن مُسترِيحة، وبعد شهرٍ تقريبًا
جاءت للإقامة معنا فكانت نسمةً بليلةً من مصر، خصوصًا ونهاد تُوشِك أن تضع المولود،
وتوثَّقَت علاقتنا وأحسسنا بأن آلام الغربة قد زالت أو كادت. وكانت عزة قد تخرَّجَت في
قسم اللغة الإنجليزية بجامعة عين شمس، وأعتقد أننا قمنا آنذاك بأول محاولةٍ لتصنيف
الكتب لدينا وإن لم تكتمل. وكانت نهاد تتردَّد بانتظام على عيادة الحوامل prenatal clinic وأخبرها الأطباء أن وليدها
معكوسُ الوضع؛ أي إن رأسه ليست «تحت» حتى تخرج أولًا، وقالوا إنهم لا بد أن ينتظروا حتى
الشهر الثامن (نوفمبر) فربما يعتدل الوليد من تلقاء ذاته، وإلا اضطُروا إلى إجراء
عملية، فهذا الوضع (breech presentation) يتسبَّب في
عُسر الولادة وله أخطاره. وفي أوائل الشهر التاسع قرَّر الأطباء إجراء عمليةٍ قيصرية،
فدخلَت نهاد مستشفى باركشير الملكي، وبعد محاولاتٍ عديدة لتوليدها دون عملية، قرَّر
الأطباء إجراء العملية يوم ٩ ديسمبر ١٩٧١م، وبلغَني وأنا في المستشفى نبأ ولادة الطفلة،
فذهبتُ لأطمئن على نهاد، فوجدتُها تُفيق من المخدِّر ثم تعود للنوم، فقلتُ لها لقد
رزقنا ببنت — هل نُسمِّيها «أمل»؟ ورفضَت، فعُدتُ إلى المنزل وأبلغتُ عزة بالنبأ
السعيد. وكانت عزة هي التي حسمَت موضوع تسمية المولود، فأصبحَت تدعوها سارة، غير عابئة
بأية اقتراحات قد نقدِّمها.
ومكثَت نهاد أسبوعًا في المستشفى — وهي من أحسن مستشفيات إنجلترا — وتتمتَّع بالرعاية
الصحية الكاملة، وتعلَّمَت إرضاع الطفلة، ودرَّبَتها الممرِّضات على كل شيء، وطبعًا دون
أن نتكلَّف بنسًا واحدًا، وكانت غرفة نهاد في المستشفى تُشبِه غرف الفنادق الفاخرة، ولن
أغفر لنفسي أنني كنتُ أفرض عليها قراءة الروايات التي أُحبها، وكنتُ أيامها مولَعًا
بجورج أورويل فقرأَت جميع أعماله، وما زالت نهاد تعاتبني على إصراري أن تقرأ ما قرأَت
آنذاك.
وعُدنا إلى المنزل في منتصف ديسمبر تقريبًا، وكانت عزة بمثابة أمٍّ ثانية لسارة،
وكان
لاحتفالات عيد الميلاد ورأس السنة مذاقٌ فريد في ذلك العام. لقد أصبحَت لي أُسرة، وكلمة
family قد تعني الأولاد فحسب بالإنجليزية.
ووصلَني خطاب من هيئة الشئون الاجتماعية
التابعة للمجلس المحلي بالمدينة، وأنا لا أُحب التعامل مع الحكومة أبدًا في أي مكان،
وقد تكون التعقيدات البيروقراطية التي ورثناها من الإنجليز (أو ما يُسمَّى بالروتين
red tape) قد أورثَتني نفورًا من أي تعامُل مع
الموظفين، وكنتُ حين يصلني خطاب دون طابعِ بريد أستريب به وأخشى أن أفُضَّه، وأنا لا
أُرحِّب حتى الآن بمثل هذه الخطابات المرسَلة في مظاريفَ مصنوعة من ورقٍ غليظ ذي لونٍ
بني، حتى لو كان يحمل لي نبأً سارًّا؛ ولذلك أسرعتُ لمقابلة الموظَّفة في الموعد
المحدَّد، وبدأَت تسألُني أسئلةً غريبة عن ظروفِ زواجي، وفي أي «مسجد» عُقِد القِران،
وبعد أن أبديتُ من الصبر ما استطعتُ أن أُبديَه سألتُ إحداهما (وكانتا فتاتَين في مقتبل
العمر، الأولى هي التي تسأل والثانية تُسجِّل ما يُقال) عن السبب في ذلك كله، فقالت
إننا نخشى أن تكون تزوَّجتَها رغم أنفها؛ فكثيرٌ من الأغراب (المسلمين) يفعلون ذلك،
وخصوصًا من باكستان. وأكَّدتُ لها أن زوجتي تزوَّجَتني طائعة مختارة، وأن مصر تختلف عن
باكستان في ذلك، وبدا عليهما الاقتناع، فقالت «الرئيسة»: إذن نكتُب لك الشيك! شيك؟ نعم.
هدية من البلدية للطفلة وقيمتها ٢٥ جنيهًا! وعُدتُ إلى نهاد أزفُّ إليها النبأ السعيد،
وفي أعماقنا تتردَّد المقولات المصرية التقليدية من أن الطفلة رزقُها واسع.
٢
أصبحَت سارة مِحوَر حياتنا، وكانت نهاد تتبع إرشادات الدكتور سبوك في كتابه المشهور
«رعاية الطفل والرضيع»، ولم نلبَث أن شعرنا بأن الشقة لم تعُد كافية، فقدَّمنا طلبًا
لاستئجار منزلٍ مستقل في نفس الموقع، وفعلًا انتقلنا إلى المنزل رقم ٢١، وكانت تستأجره
زميلةٌ لنا وتقيم فيه مع زوجها كبير المهندسين في العمل، وكان كلاهما قد تقدَّمَت به
السن، ولكنها كانت تُحافِظ على رشاقتها أو قل إنها كانت محتفظةً بقوامها well-preserved، وكانت تُقيم علاقةً حميمة مع
شخصٍ من أوروبا الشرقية، وزوجُها يعاني من التجاهُل ويشكو للأصدقاء، ثم أشفقَتْ على
حاله امرأة من زميلات زوجته اسمها بتي Betty، وكانت
تتميَّز بالمرح والبسمة الدائمة، مما كان يُخفي عيوب الهرَم، فالعطار لا يُصلِح ما
أفسده الدهر، ولكن المرح يُخفيه، وكثيرًا ما كنتُ أعجَب للغضون التي تكسو ملامحها ثم
لا
تكسبها مظهر المسنين! ووجد الزوج المهجور أنيسًا شفيقًا في تلك المرأة، فكانا يختفيان
في فسحة الظهيرة، ثم يظهران وقد تورَّدَت الخدود وانبسطَت الأسارير، وسرعان ما استقال
كلٌّ منهما من العمل واختفيا إلى الأبد.
وأذكُر أنني كنتُ أُشاهِد المنزل مع مستأجرته السابقة قبل الموافقة على الانتقال
إليه، وبعد الاتفاق عرضَت توصيلي إلى العمل بسيارتها فوافَقتُ وقالت لي ونحن في بعض
الطريق: هل تعلم أن «بتي» قد استقالَت فقلتُ لها: «خسارة!»
(Pity!) فقالت “Is
it?” فتساءلتُ عما تعني فأوضحَت Is it a
Pity? فقلتُ لها إن بتي سيدةٌ ظريفة (“such a nice
girl”) فقالت لي كأنما لتُفضي إليَّ بسرٍّ لا يعرفه أحد:
“It is my belief that it was her who took away my
husband.”
أي إنها تعتقد أنها هي التي «اختطفَت» زوجها، ولم أشأ أن أُشير إلى ذلك الشخص (وكان
من تشيكوسلوفاكيا) الذي كانت تُصاحِبه علنًا، فغمغمتُ وتظاهرتُ بالدهشة، فعادت تقول:
«الرجال يُصابون بالجنون بعد الخمسين، ويتوقَّعون من الزوجة أن تظل أُمًّا لهم حتى في
شيخوختهم.»
وعندما وصلنا وتم الاتفاق أبلغتُ نهاد، ثم اتصلتُ بالمشرف على المساكن caretaker وهو السيد بنديلو Bendelow كي نبدأ الانتقال، وبعد يومٍ واحد حضر سائق يعمل في محل عملنا
واسمه ديريك وإن كنا نناديه بلقب جنجر Ginger؛ لأنه
أحمر الشعر، والاسم يعني (الزنجبيل) (الجنزبيل بالعامية) وبدأنا تحميل السيارة بالكتب
مثلما حمَّلْناها عند الرحيل من لندن، ثم بقِطَع الأثاث مفردة، وتم الانتقال في يومٍ
واحد، وكانت عزة نعم المُعين في هذا الجهد، وما لبثَ التليفون أن رنَّ، وكان المتحدث
فتاةً من شركة التليفونات تسألُني إذا كنت أريد إدراج اسمي في دليل التليفونات المحلي
فلم أعترض، واشترينا غسالةَ ملابسَ أوتوماتيكية ماركة إنديسيت الإيطالية، توفيرًا لجهد
غسيل اللفَف، وما تزال الغسالة موجودةً لدى بعض أفراد الأسرة حتى اليوم!
كان للمنزل حديقةٌ خلفية بها شُجيرات ورود، وحديقةٌ أمامية تقتصر على مساحةٍ مزروعة
بالكلأ، وكان الحفاظ على هندام الحديقة يقتضي شراء آلةٍ لقطع الحشيش، فاشتريتُها بثلاثة
جنيهات، وكانت يدوية؛ أي يدفعها الإنسان دفعًا لتقُص ما طال من الحشائش، وقد حلَّت الآن
محلها آلاتٌ ذواتُ محرِّكاتٍ كهربائية. وكانت الحدائق الخلفية للمنازل متجاورةً لا يفصل
بينها سوى سور من النباتات المنخفضة (نحو مترٍ واحد) فكان الجيران يتبادلون التحية
عَبْر السور، ولما انقضَت إجازة الوضع عادت نهاد إلى العمل، ولكنها لم تستطع الجمع بين
العمل ورعاية سارة، فاستقالت، وأصبحتُ أُنفِق وقتي بين الدراسة والعمل — ورعاية
الطفلة!
كانت أهم الأحداث السياسية التي فُوجئ بها العالم ما يُسمَّى بالانفراج الدولي detente؛ إذ دخلَت الصين الأمم المتحدة،
والْتقى زعماء أمريكا والاتحاد السوفييتي، وبدا أن التوازُن الذي كان قائمًا في الحرب
الباردة بين المعسكرَين (الشرقي والغربي) قد يختلُّ، فإذا اتفقَت الدولتان العُظميان
على شيء أصبح من المتعذَّر على الدول الأخرى أن تُعارِضه، مما كان يُنذِر بعواقبَ
«مجهولة» في أفضل الحالات، و«وخيمة» في أَسوئِها، وكانت سياسة مصر تتجه إلى اكتساب
التأييد الأوروبي، خصوصًا دول غرب أوروبا ذات النفوذ والثراء، وكانت أنباء زيارة
نيكسون، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، للصين في فبراير ثم اجتماعه مع بريجينيف، الرئيس
السوفييتي في مايو ١٩٧٢م من الأنباء التي هزَّت العالم، وإن كان الهدف الواضح هو محاولة
إنهاء حرب فيتنام بأي طريقة، بعد أن اتضح أن التورط الأمريكي قد تجاوَز الحدود «المسموح
بها» وأن الخسائر في الأرواح أصبحَت تقُضُّ مضاجع المواطنين العاديين.
وفي غمرة انشغالنا بترجمة ردود الفعل العربية وقع في آخر مايو حادثٌ كانت له عواقبُ
«إعلامية» كبيرة؛ إذ قام ثلاثةٌ من اليابانيين المسلَّحين بإطلاق النار في مطار اللُّد
الدولي في تل أبيب على المسافرين والمستقبلين في المطار فقتلوا ٢٥ شخصًا وجرحوا ٧٢
آخرين، وذلك بمجرَّد هبوط المسلَّحين من طائرةٍ تابعةٍ لشركة إير فرانس، وقُتل أحد
المسلَّحين، وانتحر الثاني، وقُبِض على الثالث وكان اسمه «كوزو أوكا موتو» وقال إنه
ينتمي لجيش النجم الأحمر، وهي منظَّمةٌ يساريةٌ يابانية تُناصِر الفدائيين العرب. أما
ردود الفعل فكانت متناقضة؛ إذ قالت منظمة التحرير الفلسطينية إنها مسئولة عن الحادثة،
وقال الياباني في محاكمته التي استمرت حتى ١٧ يوليو (وحُكم عليه بالسجن عشر سنوات) إنه
يمثل ضمير العالم الذي أقلقَه الوفاق الدولي، وشُغلَت الصحف بالحديث عن الإرهاب العربي،
وجعل حزب المحافظين الذي كان قد تولَّى السلطة قبل ذلك بعامٍ يتحدث عن مغبة تأييد مَن
«يلوِّثون أيديهم بدماء الأبرياء» كأنما كان اليابانيون عربًا!
٣
كان من الواضح أن حياتي لم تكن تسير في الطريق الذي رُسِمَ لها؛ إذ أصبح لي مجتمعٌ
كامل من الأصدقاء والمعارف، في الجامعة والعمل، وبدأتُ أتذوَّق لطائف اللغة الإنجليزية
التي ألتقطُها بشغفٍ من أفواه هؤلاء وهؤلاء، كما اكتسبتُ عادةً ما زلتُ أمارسها وهي
إرهاف السمع لما يدور حولي من أحاديث، حتى ولو كانت عابرة — في الأتوبيس أو في الدكاكين
أو في الطريق العام — استِكْناهًا لدلالة هذا التعبير أو ذاك، وأصبح من مصادر متعتي أن
أسير ساعةً أو بعض ساعة بعد الخروج من الكلية أو من العمل، فأتأمَّل الطبيعة من حولي،
وأرقُب الناس والأشياء، وقد أتجوَّل في الأسواق، ثم أقفل راجعًا راكبًا.
كانت الحاسة الأولى هي حاسة السمع؛ إذ اكتسبتُ من الحياة الإنجليزية تحاشي «البحلقة»
(الحملقة؟ staring) التي تُعتبَر عيبًا اجتماعيًّا
شائنًا، فكانت عيني تلمح الأشخاص أو الشخص بسرعة وتستوعب التفاصيل، ثم تتابع أذني
الحوار أو الحديث المتقطِّع، وكان أقرب منهل لهذه الأحاديث الدكاكين الصغيرة؛ حيث تأتي
العجائز اللائي يعانين من الوحدة للحديث بعضهن مع بعض، أو لمخاطبة البائع والحديث معه
في شتى شئون الحياة، وكنتُ أتظاهر بالانشغال بانتقاء حبات الطماطم مثلًا وأذني تُتابِع
ما يدور؛ فالريف في إنجلترا ذو إيقاعٍ هادئ، ويسمح بالوقوف والتأمُّل والاستماع.
وكثيرًا ما كنتُ أستغرق أثناء تلك الجولات في تأمل ما قرأتُ واسترجاع ما فهمتُه؛ إذ
كنتُ أحيانًا أعاني مما كان عبد اللطيف الجمَّال يعاني منه، ألا وهو تشتُّت الأفكار
بسبب تنوُّع مصادرها وعدم تناغُمها؛ فالذي يقرأ في موضوعٍ واحد يستطيع التركيز وتنسيق
الأفكار، أما الذي لا يقف عند حدود البحث الذي كَلَّف نفسه به، فهو يحتاج إلى فتراتٍ
يلمُّ فيها شعثَ أفكاره، بل ويلمُّ شتات نفسه أيضًا.
كنتُ أتصوَّر أنني أستطيع أن أنتهي من الرسالة في الصيف، ولكن الفصل الرابع يدور
حول
أساليب المواويل الغربية (البالادات) وكان يقتضي البحث ساعاتٍ طويلة في المكتبة، خصوصًا
في غرفة الكتب المخزونة (stack room)؛ حيث تُوجَد بعض
النصوص الأصلية، وبعض الطبعات القديمة التي أصبحَت ذات قيمةٍ تاريخية لنُدرتها ولم يكن
يُسمَح لأحد بالاطلاع عليها إلا بعد إذنٍ خاص، ولا يُسمَح بتصوير أي صفحاتٍ منها إلا
بترخيص، وعلى ألا تتجاوز الصفحات فصلًا واحدًا، وكانت آلة التصوير (زيروكس) اختراعًا
جديدًا وتكاليفُه باهظة.
وفي أوائل يونيو ١٩٧٢م وصلني خطاب من إدارة البعثات يقول إن مصر قد أوقفَت صرف
مرتَّبي؛ لأنني استوفيتُ الحد الأقصى للبعثة وهو سبع سنوات، وكان معنى ذلك هو الارتباك
الشديد في أحوالي المالية؛ فأنا لا أقتصد في الإنفاق ولا أدخر شيئًا من دخلي (وهذا
معيبٌ في إنجلترا) بل أُنفِق كل ما يأتيني سواء أكان ذلك في شراء الكتب أو شرائط
الموسيقى أو في الذهاب إلى المسرح، وقرَّرتُ أن أذهب إلى لندن لمخاطبة رئيس المكتب في
الموضوع، فذهبتُ في الصباح الباكر، وما إن دخلتُ المكتب حتى سمعتُ صوتًا مألوفًا
يناديني، والتفتُّ فوجدتُ وجهًا مصريًّا يُطالِعني ببسمة، وخُيِّل إليَّ أنه أحد
أقاربي، لولا أنه ناداني بعناني! وعندما اقتربتُ تسمرَّتُ في مكاني: كان «عبده»! وبعد
الترحيب وبعد التغلُّب على الدهشة الصاعقة، صحبتُه إلى الطابق الأول حيث قابلتُ رئيس
المكتب، وتأكَّد لي استحالة مد البعثة؛ ومن ثَم هبطنا وخرجنا معًا حتى دون أن أسألَه
إن
كان قد انتهى مما جاء من أجله، وعند ناصية كيرزون (Curzon) ستريت وجدنا مقهًى دخلناه دون كلامٍ وجئنا بالقهوة، وانخرطنا
في الحديث حتى نسينا الزمن!
كانت قصتي قصيرةً وكان يعرفها، ولكن قصَّته
كانت طويلة، وكنتُ أتلهَّف على سماعها! وعندما بدأ الحديث كان يفترض أنني أعرف الخطوط
الرئيسية على الأقل، فكان يشير إلى بعض الأسماء والأماكن متوقعًا مني الاستجابة، ولكنني
قد ابتعدتُ تمامًا عن عالمه، فألححتُ عليه أن يبدأ من حيث توقَّفنا؛ أي منذ ما يقرب من
ست سنوات! فقال «عبده»:
«رحلَت كاثلين في أغسطس (١٩٦٦م)، وقضيتُ شهر سبتمبر كله وحيدًا أحاول أن أعتاد الوحدة
والوحشة، وآمل في كل يوم أن أراها عائدةً إلى الكلية؛ فكانت ما تزال مُسجِّلة
للدكتوراه، ولكن الشهور مضت دون أن ألمحَ لها أثرًا، ولم أتقدَّم تقدُّمًا يُذكَر في
دراستي؛ إذ وجدتُ أنني قد تغيَّرتُ في أعماقي وأصبحتُ أريد كاثلين بأي طريقة! وصادقتُ
بعض الفتيات في تلك الآونة، ولكن صورة حبيبتي كانت ماثلةً دائمًا أمام عينَي، وعندما
سألتُ عنك وعرفتُ أنك تزوَّجتَ من مصرية قرَّرتُ ألا أُرهقَك بمتاعبي، وأدرك المشرف
أنني أمُرُّ بمحنة؛ فقد انتهى زملائي من الدكتوراه وتركوا الكلية، لكنني لم أكن قد
انتهيتُ حتى من الجانب العملي الذي قد يأتي لي بالنتائج اللازمة للرسالة! وقال لي ذات
يومٍ إنه يريد أن يراني، فذهبتُ إليه وسمعتُ منه بلهجة الإنجليز العملية ما يشبه الحكم
بالإعدام! إذ نظر إليَّ طويلًا وقال: «أنا
قلقٌ عليك.» (I’m worried about you) وكِدتُ أنهار لكنني تماسكتُ وقلت له إن لديَّ همومًا
مؤقَّتة، وهي عابرة ولا شك، إلى آخر ذلك الكلام، دون أن يبدو عليه أدنى اقتناع، وبعد
مناقشةٍ تفصيلية للعمل الذي كنتُ أقوم به قال لي: «إنك تحتاج إلى راحة. هل استشرتَ
طبيبًا نفسيًّا؟» تخيَّل! لقد ظن أنني مختل ولا أقول مجنونًا! ربما بدا له أنني أعاني
من اكتئاب أو من انهيارٍ نفسي ولكن كيف يسألُني هذا السؤال؟! على أي حالٍ لم يلبث أن
ابتسم وقال: «اذهب إلى مصر لزيارة الأُسرة حتى يهدأ بالك! لا تتردَّد في الذهاب، وهذا
خطابٌ كتبتُه إلى مدير مكتب البعثات، سلِّمه له وسوف يسمح لك بالإجازة!» وتناولتُ
الخطاب ووضعتُه في جيبي وخرَجْت.
كنا في أواخر مايو ١٩٦٧م، وأنت تذكُر ما حدث بعدها للمصريين جميعًا، أما ما حدث لي
أنا فأغرب من الخيال! لم أذهب طبعًا إلى مكتب البعثات، وظَللتُ أحتفظ بالخطاب في جيبي
أسبوعًا، ثم سألتُ عنك فقيل لي إنك مريض، فسألتُ كل يومٍ حتى تأكد لي أنك شُفيت،
فقرَّرتُ أن أزورك يوم ١٠ يونيو، للحديث في السياسة وغيرها، وكنتُ أريدك أن تقول لي ما
أفعل بالخطاب؛ لأنني كنتُ ما أزال أفكر في الذهاب إلى مصر، ولو لزيارةٍ عابرة، بعد أن
تلبَّد ذهني تمامًا، وفي الصباح مَرَّ عليَّ سامي الكاشف ليطمئن عليَّ فقلتُ له ما
أفكِّر فيه، وأريتُه الخطاب، فإذا به يفُضُّه، ويقدِّم إليَّ ورقة — إلى جانب الخطاب
الرسمي — بل قل مجرد قصاصة عليها عنوان كاثلين وأرقام تليفوناتها! كنتُ أعرف أن سامي
الكاشف يعرف القصة تمامًا هو وإبراهيم الدويني كما قلتُ لك، فلم أُعِرْ لذلك أهميةً
لكنني كنتُ أرتعدُ أمام الاحتمالات الكثيرة؛ تُرى هل أعطتها عمدًا للمشرف أم نسِيَها
المشرف في ثنايا الرسالة؟ وهل يعرف المشرف القصة؟ وقلتُ في نفسي: «يا داهية
دُقِّي!»
لن أُطيل عليك فقد اتضح أن المشرف بريء، وأن القصاصة لم تكن في المظروف، بل أتى بها
سامي من إبراهيم الذي قال إنه عرف من زميلةٍ لها عنوانها وأرقام تليفوناتها، ولكنني
كنتُ أجهل ذلك، وكنتُ أصدِّق كل ما يقوله سامي، فأحسستُ بغمامة أمام عيني، وأن الأرض
تميد بي، فاقترح سامي أن نتصل بكاثي ونسألها، وكنتُ رغم الفرحة الغامرة أرتعدُ في
أعماقي مما أسمعُه عن مصير مَن يخدعُ فتاة أو مَن يَعِدها بالزواج ثم يُخلِف وعده؛
فعقوبة إخلاف
الوعد breach of
promise رهيبة، وربما لن تقف في حالة الأجانب عند مجرد «الترحيل» من
إنجلترا، بل ربما صدَر حكم يتضمن الغرامة والحبس أو إحدى هاتَين العقوبتَين كما يقولون!
وسألتُ سامي ضارعًا: ماذا عليَّ أن أفعل مع المشرف؟ فضحك ضحكًا شديدًا وصارحَني
بالحقيقة، ثم تركني وخرج!
وعلمتُ فيما بعد أنه أتى خصوصًا لإعطائي تلك المعلومات، وكانت لعبة دس الورقة مع
الخطاب دُعابةً من دعاباته، ولكنني كنتُ ما أزال منهارًا؛ فالوطن في محنة وأنا في محنة،
لكنني تغلَّبتُ على مخاوفي واتصلتُ بالرقم الذي وجدتُه مطبوعًا على الورقة، فردَّت
عليَّ فتاة رقيقة الصوت تسألُني عما أريد، فقلتُ لها هل كاثلين موجودة؟ فقالت لي انتظر
لحظة، وبعد ثوانٍ سمعتُ صوتَ كاثي! ولم أعرف ماذا أقول، ولكن ربنا يلهمنا في هذه
الحالات، فقلت لها اسمي، وعجبتُ من ردِّها العملي المُفزِع «أي خدمة؟ أنا الآن مشغولة،
كلمني فيما بعدُ .. باي باي.» معقول؟ وبعد ساعةٍ كنتُ في القطار المتجه إلى سَرِي Surrey ولم تمضِ ساعةٌ حتى كنت أطرق باب المصنع!
لن أُزعِجكَ بالتفاصيل ولكننا تزوَّجنا بعد أسبوع، وقرَّرتُ أن يكون زواجًا مدنيًّا؛
فهي تتصور أنني مسلم، وجواز السفر لا ينص على دين حامله، وهي لا تستبعد أن يكون اسمي
القبطي من أسماء المسلمين، أو هكذا كنتُ أظن! إذ لم تكن تنقضي مراسم الزواج حتى قالت:
«نريد أن نحتفل بزواجنا في كنيسة البلدة!» ووجمتُ فضحكَت، وقالت: «لقد كنتُ أُتابِع
أخبارك منذ رحيلي يومًا بيوم، وعندما عرفتُ الحقيقة بدأتُ العمل!» وقضينا ليلة الزفاف
في المنزل الذي اشتراه والدها لنا، وكنتُ أُحِس أنني قد انتقلتُ إلى عالمٍ آخر؛ فالبلدة
ريفيةٌ جميلة، ولا تستغرق المسافة أكثر من نصف ساعة بالقطار (لوسط لندن) ومصنع والدها
ضخم وشاسع، وبه سيارات وشاحنات ومركباتٌ منوَّعة، وعمال وعاملات وموظَّفون وموظَّفات
—
شيء رائع!
ولكن أروع ما في ذلك كله كانت كاثلين نفسها، لم أكن أتصور أن في الدنيا نساءً بهذا
الوصف، كانت تُعامِلني وما تزال كأنني محور الوجود، كأنني مركز الكون بل وسر الحياة.
أرجوك لا تضحك يا عناني فأنا جاد، وقد تعلَّمتُ في هذه السنوات القليلة معنى الزواج
الحقيقي، معنى الصفاء والتفاهُم في كل شيء، ولأضرب لك مثلًا واحدًا على ذلك.
كانت كاثلين منذ أن تزوَّجنا تعاملني معاملةَ مَن يخشى أن يضيع صاحبه من يده، فأحسستُ
كأنني جوهرةٌ ثمينة، وكانت تقول لي دائمًا إنني حُر في أن أتركها في أي وقتٍ إذا
أرَدْت، وكانت تقول لي حذارِ أن تتجاهل عملَك في الدكتوراه، وإذا كنتَ تريد العودة إلى
لندن فسأعود معك، وإذا قرَّرتَ أن ترجع إلى مصر فسوف أرجع معك، وأعيش بالمستوى الذي
تريده. ألا تظن أنني أستطيع أن أحصل على عملٍ مثل بقية النساء العاملات في مصر؟ وكانت
كاثلين جادة في كل شيء، فلم يحدُث أن كذبت عليَّ أو تظاهَرَت بغير الواقع. أما المثل
الذي أريد أن أضربه لك فهو علاقتها مع أحد أصدقاء الصبا، وكنتُ قد اكتشفتُ هذه العلاقة
بعد نحو عامٍ من زواجنا ووجدتُ الدم الصعيدي يغلي في عروقي، وعندما خلدتُ إلى الصمت
أولًا حزنًا وكمدًا عند اكتشافي الأمر وجدتُها تُهرع إليَّ وتسرد القصة من البداية إلى
النهاية، بكل التفاصيل التي لا أجرؤ حتى على البَوْح بها إليك، وبما لا تستطيع الأفلام
السينمائية تصويره!
كانت مثل الذي يعترف للكاهن بالخطيَّة، رغم أنها لم تُخطئ، ولكن منبع إحساسها بالذنب
هو أنها لم تُفصِح عن تلك القصة، وأغفلَتها تمامًا، وعندما قلتُ لها ذلك قالت إنها لم
تتعمد إخفاءها لكن ذلك «الولد» كان قد خرج من حياتها إلى الأبد، ولم يعُد له من الوجود
ما يقتضي ذكره، على عكسِ علاقتها مع النيجيري، فقد قصَّتها عليَّ منذ البداية؛ لأنه كان
أول من يدخُل جنتها.
ولم يتغير سلوك كاثلين مطلقًا — لا قبل ذلك ولا بعده — وما تزال تحافظ على أسلوبها
الرائع في تصحيح أخطائي اللغوية، فهي تتعمَّد تكرار ما قلتُه بعد تصويبه حتى تفتح عيني
على الخطأ، مهما يكن الخطأ تافهًا — سواء في النطق أو النحو أو اختيار الألفاظ. وإذا
كنتُ أرسم لك صورة زوجةٍ مثالية، مدفوعًا بحبي لها، فالحقيقة أن الطابع المثالي كان
طابع الزواج لا المرأة؛ فالمثالية هنا هي التوافُق بل والتقارُب إلى حد التطابُق في
النظر والإحساس والفكر، وكنتُ أشعر أنها تبذلُ في ذلك جهدًا كبيرًا، وكثيرًا ما كانت
تُعبِّر عن مشاعري الدفينة بلغتِها حين نرى فتاةً جميلة أو شابًّا وسيمًا، وكثيرًا ما
كنا نتبادل الأسرار همسًا فيما يخصُّنا وحدنا، وأهم من ذلك كله أنني كنتُ لا أشعر
لوالدَيها بوجود في حياتنا، وكانت كثيرًا ما تقول لي: لماذا لا تدعو أفراد أُسرتك
لزيارتنا؟ أو تُلِح عليَّ أن أكتُب إليهم خطاباتٍ أُطمئِنهم فيها على أحوالي، وكنت
أكذبُ عليها وأزعُم أنني فعلتُ ذلك وأفعلُه، وهي لا تكذِّبني أبدًا مهما قُلت. تصوَّر
ماذا يقول هؤلاء الصعايدة لو شاهدوا حماتي وهي تضع المساحيق والأصباغ أو ترتدي الشورت
والميني جيب!»
وكنتُ على اهتمامي بما أسمع، أشتاق إلى معرفة موقفه الدراسي، وموقف أهله في مصر؛
فالمُوجَز الذي رويتُه في صفحات استغرق منه ساعات، ونهضنا نسير في الهايد بارك وهو
يُكثِر من استخدام اللغة الإنجليزية، ويتحدَّث بطلاقةٍ حين يروي حادثًا وقع بين
الإنجليز، مما أدهَشَني حقًّا، ولكنني كنتُ أعرف أن المصري حين يُضطَر إلى اكتساب اللغة
لن يتفوَّق عليه أحد! وأما الذي هزَّني هزًّا في ذلك الحديث فهو اللمسة الشاعرية التي
كان يُضفيها على الأشياء، فكان أحيانًا يقول: شوف يا عناني أنت في ردنج وأنا في
جيلفورد (Guildford) .. وبيننا طريق من الأشجار
لكننا لا نسير فيه ولا نلتقي! وعندما وصلنا إلى «ماربل آرتش» (Marble Arch) وهو أول شارع أوكسفورد أوقفتُه وطرحتُ عليه السؤال
المباشر فأجاب:
«الدكتوراه الدكتوراه! هذا هو جنون المصريين! الجميع يريد شهادة، لكنني أُنجِز في
بحوثي ما يفوقُ ألف دكتوراه! إننا نعمل في مشروعاتٍ رائعة تتصل مباشرةً بالسوق وبما
يحتاج إليه الناس، ونشعُر بالفائدة مباشرةً، فلا يُوجَد ما هو أمتع من الإنتاج!»
وقلتُ مستدركًا: «والمكسب المادي؟» فقال:
«طبعًا!» وأشار بيده إلى إحدى الصيدليات من سلسلة
Bootes وقال: «ما أجمل أن تعرف أن إنتاجك يُباع
هنا!» ثم دخلنا مطعم «فورتي» (Forte) الذي كان قد فتح
أبوابه لتوِّه، وجلسنا لتناوُل السلاطة، وأحس بما أريد أن أسأله فقال (دون سؤال): «لم
يحصُل أيُّنا على الدكتوراه! لم نشعُر بأننا في حاجة إليها، وكتابة الرسالة لُعبةٌ
سخيفة؛ فالنتائج يمكن إجمالها في صفحتَين، والباقي تفاصيل يعرفها كلُّ إنسان، ووصفٌ
للتجارِب أو للتجربة دون داعٍ؛ أيْ «حشو ورق وخلاص»!»
كان الحديث ممتعًا فأنساني ما جئتُ من أجله، بل أنساني أن أسألَه ما كان يفعل في مكتب
البعثات، وعندما سألتُه قال دون اكتراث: كنتُ أسدِّد القسط! وفهمتُ منه أنهم طالبوه
عندما أعلن عن رغبته في عدم العودة بأن يدفع تكاليف البعثة، فاتصل بأحد المحامين الذي
رفع دعوى على وزارة التعليم العالي، وكانت القضية ما تزال معلَّقة (أي لم يصدُر فيها
حكم نهائي) لكن تجديد جواز السفر كان يشترط الموافقة على دفع النفقات فاتفق مع الوزارة،
من باب إظهار حسن النوايا، على تقسيط المبلغ، وبدأ في سداده. (وقد علمتُ فيما بعدُ أنه
كسب القضية وإن لم يسترد الأقساط — بعدُ).
وبعد الغداء سرنا حتى لانكاستر جيت (Lancaster Gate)
في شارع بيزووتر (Bayswater) المحاذي للهايد بارك (Hyde Park)، وكان قد «تسلطَن» فأخذ يقُص عليَّ
مزايا الريف الإنجليزي، وجمال الإنجليزيات، وخلُوَّهُن من العُقَد (وكان يعني بها قواعد
السلوك الشرقية للفتيات — خصوصًا لديهم في الصعيد). وأسرف في الحديث عن محاسن بنات
الريف حتى بدأ الشك يخامرني فسألتُه على حذَر: «لكن أنت طبعًا لا …» وقال ببساطة: «أنا
«لا» إيه؟ أنا — رغم زواجي الناجح — لا أدَّعي القداسة! نحن بشر يا عم عناني! وكاثي
تُحبني مهما يكن من أمر!» وتحدَّثنا عن أطفالهما فقال إنهما أنجبا غلامًا وفتاة وهما
في
المدرسة الآن (أو روضة الأطفال — لا أذكر). وعندما تشعَّب الحديث سألتُه عن موقف أُسرته
فقال لي دون اكتراث: لقد أدرتُ ظهري للشرق! ولن تُصدِّق ما أعيشُ فيه من سعادة حتى
تزورني!
وأخذتُ القطار عائدًا إلى ردنج، بعد أن تبادلنا
العناوين وأرقام التليفونات، وكان اليوم يوم عملٍ لي فذهبتُ إلى المنزل للاطمئنان على
سارة ونهاد، وخرجتُ على الفور، وأجَّلْتُ حكاية «الحدوتة» لنهاد لليوم التالي. كانت قصة
«عبده» قصة الكثيرين الذين أداروا ظهورَهم للشرق، وعلمتُ فيما بعدُ أن أُسرته حاولت
الاتصال به مراتٍ عديدة فلم تُوفَّق، فكأنما تعمَّد أن يقطع كل ما كان يربطُه بالماضي،
وقد زرتُه عام ١٩٨١م، وعام ١٩٨٧م، وكنتُ كل مرة أُعجب ببراعة طفلَيه وقُدرتهما على فهم
اللغة العربية؛ إذ إن «عبده»، رغم استغراقه في الحياة الإنجليزية، «لا يشعر بكيانه» كما
يقول إلا عندما يتحدَّث العربية، وهو يصحب ابنه في حِلِّه وتِرحاله، وكان ابنه في عام
١٩٨٧م يدرُس الطب وأمامه كما يقول سنواتٌ طويلة، ويتحدث العربية بلكنةٍ إنجليزية بعض
الشيء، لكنها صحيحةٌ كل الصحة، وقد حدَّثتُه آنذاك عن فرص العمل الذي قد يقتضي استخدام
العربية.
٤
كانت قصة عبده لا تختلف عن قصص الآخرين إلا في أنني عاصرتُها وكنتُ شاهدًا على
أحداثها؛ ولذلك فعندما أتأمل العلاقة بينه وبين زوجته، وهذه المسافة الشاسعة التي
تفصلُني عنه زمنًا ومكانًا، أتخيل أنه «أحمد قادوم» آخر، زميلي الرشيدي الذي ذهب إلى
نبراسكا ليدرس المبيدات الحشرية فتزوَّج أمريكية واستقر به المقام وانقطعَت أخباره
تمامًا عن أُسرته، أو «وديع» آخر، أو «أحمد حسن» آخر، وغيرهم عشرات ممن أعرفُهم، وقد
يكون هناك المئات الذين لا أعرفهم؛ إذ جاء في تقرير إدارة البعثات الذي نُشِر في أوائل
السبعينيات أن ٤٠٪ فقط من المبعوثين للدراسة في الخارج يعودون إلى الوطن، والقضايا التي
ترفعُها الإدارة نادرًا ما تُحسَم، بل إن التهديد بسحب الجنسية لم يعُد من الأسلحة
الماضية بعد أن صدر قانون يعتبر ذلك «غير دستوري» فيما سمِعْت، وعندما كنا في لوس
أنجيليس عام ١٩٨١م، قال لي الدكتور شبايك (أمين عام اتحاد الجالية المصرية هناك) إن
ولاية كاليفورنيا وحدها يقيم فيها ربع مليون مصري، وعندما أبديتُ تشكُّكي في الرقم أخرج
لي كتابًا ضخمًا يضُم الأسماء والعناوين، وأنا أعرف منهم واحدًا على الأقل هو إبراهيم
كيرة — الشاعر وزميل الصبا في مدرسة الأورمان — الذي يقيم في سان فرانسيسكو بصفةٍ
دائمة.
إذا أطلقنا على حياة المصري خارج مصر صفةَ الحياة في الغربة فلن نكون على صواب؛
فالمصري يحمل مصر في قلبه ووجدانه مهما ابتعَد عنها، ولا أعتبر أن الدكتور شندي الذي
زرناه في منزله على ساحل المحيط الهادي (أنا وسمير سرحان ولويس عوض وصلاح عبد الصبور)
عام ١٩٨١م يعيش في غربة؛ فمنزلُه قطعةٌ من مصر، وأحاديثنا كانت تدور عن مصر، وأنا أضرب
المثال بأمريكا بسبب بُعدها، أما من يعيشون في إنجلترا فهم يُحِسُّون بأنهم أقربُ إلى
مصر بأكثر مما نتصوَّر، وقد شغلَني مفهوم الغربة في تلك الأيام؛ لأننا — أنا ونهاد —
لم
نشُكَّ يومًا ما في أننا سنعود إلى مصر، ولم يكن التوقُّف عن الإنتاج الأدبي يُقلِقني،
بل لم يكن يُقلِقني التأخُّر في كتابة الرسالة، أو حتى انقطاع مرتَّب البعثة؛ لأنني
كنتُ أستمتع بما أقرأ، وبما أرى، وبمن أُقابل وأُحادث، وكان العمل يقتضي مني إهمال
الدراسة أيامًا متوالية، فأنغمس في متابعة أحداث العالم، وأصبحتُ أجدُ متعة فيما
تتمتَّع به صياغتي للترجمة من تقدير، لكنني كنتُ في أعماقي أتأمَّل فكرة الغربة — ماذا
لو اشترينا منزلًا؟ لا .. لم تكن نهاد تقبل ذلك أبدًا؛ فشراء المنزل معناه ترسيخ جذورنا
— ماديًّا على الأقل — في تربةٍ أجنبية، وهو ما لم تكن ترضاه مطلقًا. لقد كانت نهاد بحق
— كما قال عزت أبو هندية — صِمَام الأمان.
وتوالت أحداث صيف ١٩٧٢م مسرعةً لاهثة؛ إذ أمَر السادات بطرد الخبراء السوفييت من
مصر
في ١٨ يوليو، وظهر كبير المعلِّقين العسكريين للإذاعة البريطانية على شاشة التليفزيون
ليتحدَّث بثقة عن انهيار «مصداقية» الجيش المصري، وكان اسم المعلِّق جم بيدالف Jim Biddulf وكرِهتُه من أعماقي؛ إذ كان يمثِّل
العُنجُهية البريطانية ورُوح الاستعمار القديم، وتوالت ردود الأفعال، فأجرى التليفزيون
في الشبكة التجارية تحقيقًا مع موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلي، الذي قال إن إسرائيل
تستطيع احتلال العالم العربي كله في ساعات، وسألَه المذيع: «والمغرب؟» فضحك ديان وقال:
المغرب بعيدة! فعاد المذيع يسأله: «والسودان؟» فقال ديان: «وماذا نفعل
بالسودان؟»
كانت التَّعليقات مفزِعة، وجاءت في الوقت الذي كنَّا نتسلى فيه ببطولة العالم للشطرنج
بين روبرت (بوبي) فيشر الأمريكي وبوريس سباسكي (الروسي)، وكان سباسكي قد فاز في أول
دَور، وانسحب فيشر في الدور الثاني، ثم توالت انتصارات فيشر وجعل المعلِّقون يتحدثون
عن
براعة أبطال العالم في لعبة الشطرنج — من اليهود! ولم يكن ذلك الجانب قد خطَر لي من
قبلُ؛ فالواقع أن نسبةً كبيرة منهم من اليهود، ولكن ذلك لا يمكن الاستناد إليه في
التدليل على عبقريةٍ خاصة. وكان من الواضح أن ذلك الصيف ما يزال يحمل في أطوائه الكثير،
ومن الغريب أن تلتصق في ذاكرتي كلمةٌ وردَت في خطاب السادات، وحمِدتُ الله على أنني لم
يكن عليَّ أن أتولَّى ترجمتها؛ إذ ألقاه يوم الثلاثاء وهو يومُ دراسةٍ لي في المكتبة،
وهي كلمة «وقفة مع الصديق»! الصحف البريطانية ترجمَتْها (نقلًا عن زملائي بالتأكيد) على
أنها pause أي «لحظة توقُّف»، وما تزال جميع الترجمات
الرسمية وغير الرسمية للخطاب تتضمَّن هذه اللفظة، ولكنني كنتُ أراها غير دقيقةٍ ثم لا
أرى عنها بديلًا مُقنِعًا! فماذا كان يعني بالوقفة؟ هل كلمة
stand بمعناها المجازي تفي بالغرض؟ إنها ملائمةٌ
وحدها، ولكنها لن تُناسِب السياق لأنك لا تستطيع أن تقول to make a
stand وتُتبِعها بتعبير with a
friend وإلا كان المعنى هو العكس تمامًا! فإذا أبدلت
with بحرفٍ يفيد الضدية كان المعنى أقوى من المطلوب
(against مثلًا)؛ ولذلك تراني ما أفتأ أذكُرها،
وأستعرض البدائل مثل stand up to التي تعني يتصدَّى
لشيءٍ ما، وأضيقُ ذَرعًا بالصعوبة فأحاول النسيان!
وفي أغسطس وقعَت محاولةُ انقلابٍ أخرى في المغرب؛ إذ هاجمَت قوة من سلاح الطيران
من
قاعدة القنيطرة طائرة الملك الحسن الثاني لكنها لم تُصِبه بسوء، وتمكَّنَت القوات
الموالية للملك من قمع التمرُّد الذي كان يقوده الرائد قويرة قائد القاعدة الجوية،
وتحدَّث الجميع آنذاك عن استحالة المساس بالملك (أي إنه مِحَجِّبْ بالعامية المصرية).
ولما كانت الحادثة قد وقعَت في عطلة نهاية الأسبوع فقد انشغلتُ بترجمة أخبارها، ولم نكد
نُفيق من الصدمة حتى جاءتنا أنباء قتل ١١ من الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ
بألمانيا، أثناء الألعاب الأولمبية، وسرعان ما انقضَّت أجهزة الإعلام العالمية على
العرب، ووصَمَتهم بالإرهاب، وأصبحَت الصحف تتصيَّد الأنباء التي تُسيء إلى سمعة العرب
بصفةٍ خاصة، وبلَغ من تحمُّلها أن أبرزَت حوادث السرقات في المحلات التجارية
shop-lifting والتي كانت الإيرانيات يرتكبنها على
أنها أحداثٌ عربية! كانت الصحافة تُدين الشرق كله، بينما كان السادات يقول في خطاباته
إن عام ١٩٧٢م سيكون «عام الحسم» وهي كلمةٌ عسيرة الترجمة، تُرجمَتْ على أنها
year of decision) والصحافة تتندَّر بما يقول،
والموقف مُدلَهِم.
وفجأةً تلقت عزة أخت نهاد خطابًا من والدها يقول لها فيه إن خطاب التعيين في الحكومة
قد جاءها وإنها لا بد أن تحضُر لاستلام العمل، فسافرَت وتركَتْنا وحدنا، وكان على نهاد
أن تتحمل كل شيء لرعاية سارة وشئون المنزل، ويبدو أنني بدأتُ أشعر بالضيق من الحال التي
لا تبدو لها نهاية — سواء على المستوى العام أم المستوى الخاص — ولاحظَت نهاد ما أنا
فيه من توتُّر، وتحمَّلَته وعانت منه، حتى وصلَني ذات يومٍ خطابٌ من إدارة الجامعة ونحن
على أبواب العام الدراسي تعرض عليَّ فيه المشاركة في التدريس بقسم اللغة الإنجليزية
بالقطعة (الساعة بأجرٍ قدْره ٢٫٨ جنيه) ففَرِحنا؛ لأن ذلك سوف يُساهِم في تفريج الأزمة
المالية، وبدأتُ العمل فورًا، وكنتُ أعلم أن المشرف هو الذي رشَّحَني لهذه
المهمة.
كان عدد طلاب الفصل (أو tutorial) سبعة، وكانت مهمتي
هي أن أُشرف على تعليمهم مناهج النقد الرومانسي الذي كنتُ درسته في الماجستير، وكان
المتَّبَع هو أن أبدأ بمقدمةٍ عامة عن الناقد الذي سندرُسه (تشارلز لام مثلًا أو وليم
هازلت) ثم أكلِّف كلًّا منهم بقراءة أحد النصوص وكتابةِ تلخيصٍ وعرضٍ له، وكانت هذه
«المقالات» (essays) تُترك لي في خانة الخطابات
الخاصة بي في الكلية، فأجمعُها وأصحِّحها، وأرصُد درجاتها في دفترٍ خاص معي، ثم آتي بها
في المرة التالية، بعد أسبوعٍ أو أسبوعَين، فأُناقِشها معهم، وأُنبِّه كلًّا منهم إلى
أخطائه. وكان من متُعَي التي لم أُفصح عنها حتى اليوم أن أصحِّح الأخطاء اللغوية، كأنما
لأنتقم لنفسي من تصحيح المحرِّرين لأخطائي في بداية عملي بالترجمة، أو لأُثبِت أنني
أعرف الإنجليزية خيرًا منهم. وأنا أُثبِت ذلك الآن مدركًا أنه خطأ (ولا أقول نقيصة)
فالطلَّاب طلَّاب، وهم يخطئون ويتعلَّمون، وكان الأجدر بي وقد تخطَّيتُ الثالثة
والثلاثين أن أتخلى عن تلك المتع الصبيانية، أو دلائل الإحساس بالنقص، ولكنني أحيانًا
ما ألتمس العذر لنفسي؛ فأنا غريب أتعلم لغةً غريبة، وما أطولَ ما عانيتُ من معاملة
الإنجليز لي باعتباري غريبًا!
وفي أكتوبر ١٩٧٢ (لا أذكر اليوم) أعلنَت إذاعة الكويت نبأَ رفعِ سعر برميل البترول
سبعين سنتًا أي من ١٫٥٥ دولار إلى ٢٫٢٥ دولار، وترجمتُ الخبر وأرسلتُه إلى مكتب الأخبار
لإذاعته، وما إن أُذيع حتى هاجت الدنيا وماجت؛ إذ اتهمَني المشرف بأنني أخطأتُ سماع
النبأ، فلا يُعقل أن يرتفع السعر بما يقارب النصف! وأكَّدتُ له أن ذلك هو ما قاله
المذيع، فقال أريد أن أسمع، وكان يزعم المعرفة بالعربية، فسمع الخبر وصاح «ألم أقل لك؟
إنه يقول سبعة عشر!» وسمعتُه من جديد «سبعين» — وقلتُ له ماذا سمعت؟ قال بالعربية
«سبعين» — وأنت لم تسمع النون الأخيرة يا مستر عناني، وهناك فرق بين
Seventy وSeventeen
وضحكتُ فغضب، فقلتُ له هذا هو القاموس، ففتحه وتأكَّد له خطؤه ومضى.
كان العمل بالتدريس عبئًا جديدًا، فتوقَّف عملي في الرسالة تمامًا، وبدأتُ في شتاء
ذلك العام أشعُر بالحَيْرة التامة؛ إذ كنتُ كمن يسير بقوة القصور الذاتي، وفي يناير
١٩٧٣م قالت نهاد إن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر. ولا بد لنا من وقفة!
٥
كانت الشهور الأولى من عام ١٩٧٣م شهورَ توتُّرٍ مستمر، لم تقتصر آثاره على العلاقة
بيني وبين نهاد، بل امتدَّت لتؤثِّر في علاقة كلٍّ منا بالعالم الخارجي. كانت نهاد
تبذلُ نفسها في رعاية سارة، وكان إخلاصها نادرًا وفريدًا، وكنتُ أَعجِز عن إدراك معنى
الأمومة في الغربة وبسبب الانقطاع عن حياة الأُسرة المصرية، ولكنني أقول الآن إنني مهما
عرفتُ عن الأمومة، ومهما تواصلتُ بحياة الأُسرة المصرية، فلن أجد مثالًا لإخلاص نهاد
المُطلَق، وقرأتُ آنذاك دراسةً عن الفرق بين الرجل والمرأة، تقول إن المرأة كائنٌ أسمى
من الرجل؛ لأنها تستطيع أن تعطي من ذاتها لغيرها، فهي تُعطِي للجنين دمها وغذاءها،
وتُعطي الوليد حبها الخالص الذي لا «غرض» فيه، ولا يمكن أن يكون له «غرض»؛ فهي تَكسِر
الأنانية المركَّبة في نفس الرجل والتي تدفعُه إلى المنافسة والغلَبة والنصر (أو إلى
طلب النصر فحسب) أي إنها بالفطرة «تخرج» من ذاتها إلى «الآخر»، وذلك ما لا يستطيعه
الرجل في الأحوال العادية.
لم أكن أستطيع أن أُدرِك ذلك؛ لأنني كنتُ مشغولًا بالعمل في عدة أماكن فأنا سعيد
بالتدريس في الجامعة، وبالترجمة، وبكتابة الرسالة، وإن لم أكن أكتب شيئًا الآن. وكانت
الشهور الأولى من عام ١٩٧٣م شهورَ توتُّرٍ مستمر كما قلت، وكانت تصلُنا أنباء مصر
فتزيدنا غَمًّا وهَمًّا، فقالت نهاد إنها يجب أن ترحل إلى مصر حتى تهيِّئ لي الجو
اللازم للكتابة؛ فلقد طال بعدُنا عن مصر فأمعَن في الطول. كنتُ أُحِس أن العام المنصرم
عامٌ ضائع، وأن العمل الإضافي، على أهميته، قد سلبَني الوقت الذي كان ينبغي أن أقضِيَه
في الدَّرس؛ ومن ثَم لم أعترض، وتصوَّرتُ أن أنتهي من الرسالة في أواخر العام.
وسافرَت نهاد وسارة إلى القاهرة في ١٥ أغسطس
١٩٧٣م، فأحسستُ بالوحشة القاتلة، ولكنني كنتُ قد استقلتُ من العمل بالترجمة والعمل
بالتدريس جميعًا، وقرَّرتُ التفرُّغ للكتابة حتى أنتهي من ذلك الكابوس. وكنتُ قد بدأتُ
أُعاني من طنين في الأُذنَين فذهبتُ إلى المستشفى وأُجريَت لي الفحوصات اللازمة، وقال
لي الدكتور إن جيوبي الأنفية ملتهبةٌ ويجب أن تعالَج بالكَي، وقال لي سوف نرسل لك
إخطارًا بالموعد. وكان يوم الكشف على جيوبي الأنفية غريبًا؛ فبعد أن وضع الطبيبُ
المخدِّر في أنفي (قِطعة من القطن في كل فتحة) جلستُ في الصالة، ولكنني ما إن جلستُ حتى
غبتُ عن الوعي ووقعتُ مغشيًّا عليَّ، وأفقتُ على يدٍ قويةٍ سمراءَ تحملني؛ إذ كانت
الممرضة زنجيةً ضخمةً كأنها عملاقة، ووجدتُني أمام الطبيب وإلى جواره شابٌّ قصير، أسمر
الوجه وعيناه خضراوان، حادثَني بالعربية وقال إن اسمه زكي (لا أذكر الاسم الآخر) وقال
إنه من مصر، ثم فهمتُ من الطبيب الكندي أنني أُصبتُ بالإغماء؛ لأن لديَّ حساسية ضد
الكوكايين، ولا يعاني من هذه الحساسية إلا واحد في المليون؛ ومن ثَم أتَوا لي بفنجان
من
القهوة القوية، وجلستُ نحو نصف ساعة حتى استطعتُ أن أقف على قدميَّ وخرَجْت. ولدى الباب
قابلتُ ويني دارتر Winny Darter زميلة نهاد في
المكتبة، فأقبلَت عليَّ دهشةً متسائلة، فأخبرتُها الخبر، فقالت دعني ألعب دور
الممرِّضة! وصاحبَتْني حتى باب المستشفى وافترقنا.
وقرَّرتُ عدم إجراء العملية، وإن كنتُ أعجَب ممن يتعاطَون الكوكايين بأنواعه — ماذا
لو كانوا يعانون من الحساسية؟! وبدأتُ الالتزام بالجدول الزمني الذي وضعتُه لنفسي، فلم
ينقضِ أغسطس حتى اكتمل الفصل الرابع، وأرسلتُه إلى المشرف الذي كان قد سافر إلى أمريكا
للتدريس فصلًا دراسيًّا كاملًا في جامعة بنسيلفانيا Pennsylvania، وعكفتُ على الفصل الخامس طوال سبتمبر، وكنتُ قد كلَّفتُ
نهاد باستئجار شقة والبحث عن عملٍ لها حتى أنتهي من الدكتوراه وأعود، وكنتُ قد أعطيتُها
٦٠٠ جنيه للنفقات العامة، وكان المتفق عليه أن نقضي الصيف (ما بقي منه) مع والدي
ووالدتي؛ لأن حسن أخي كان قد سافر بعد تعيينه ملحقًا دبلوماسيًّا، والشقة واسعة، ولكن
نهاد لم تمكُث معهما إلا أسبوعَين وانتقلَت في سبتمبر إلى منزل أُسرتها في شبرا، وكنا
نتراسل بانتظام، وفي يوم السبت ٦ أكتوبر ١٩٧٣م وصلَتني برقيةٌ تقول: «أحتاج للمال بصورة
عاجلة، المبلغ كله أُنفِق في الشقة.» (Need money urgently stop all money spent on flat) وعجبتُ من هذا الإسراف. كيف
تُنفِق ٦٠٠ جنيه في شقة؟ وذهبتُ إلى السوق لإصلاح المكنسة الكهربائية، وعُدتُ فاتصلت
تليفونيًّا بالدكتور نوح؛ لأنه كان سيسافر إلى مصر بعد أيام، وقلت له إنني أريد توصيل
بعض المال إلى نهاد فرحَّب، وكان يقيم في شمال إنجلترا، وبعد المحادثة عُدتُ إلى العمل،
وكانت الساعة قد قاربَت الواحدة (بتوقيت لندن).
ولم أكَد أبدأ الكتابة حتى رنَّ جرس التليفون، وكان المتحدث هو المشرف في قسم الأخبار
يوم السبت، وكان من تشيكوسلوفاكيا ويدعى سبوليار Spoliar وسألتُه ما الخبر؟ فقال بلهجةٍ مُطمْئِنة:
“There may be nothing in it, but an Arial battle has
taken place over the Gulf of Suez. Two Israeli planes have been shot
down.”
أي «ربما لا يكون الأمر مهمًّا، ولكنَّ معركةً جوية وقعَت فوق خليج السويس وأُسقِطَت
طائرتان إسرائيليتان.»
وسألتُه ثانيًا ماذا يريد، فقال «لا شيء .. أردتك أن تعلَم وحسب.» فأفهمتُه أننا في
رمضان، والناس صائمون ولا داعي لتصوُّرات من التي يُحبها مكتب الأخبار! وضحك ووضع
السماعة.
ولم تمضِ دقائقُ حتى رنَّ التليفون من جديد. وكان المتحدِّث هو نفسه. ولكنه كان واثقَ
النبرة هذه المرة؛ فبعد أن لخَّص لي الأنباء قال بثقة: «إننا ننتظر البلاغ العسكري
الثالث.» البلاغ العسكري؟ وقلتُ له دون تردُّد: «أرسِل السيارة من فضلك — سوف آتي
حالًا.» وضحك قائلًا: كنتُ أعرف. لقد أرسلتُها منذ دقائق!
ووضعتُ السماعة وجريت إلى الباب، وعندما فتحتُه
كان ديريك (جنجر) السائق في سيارته الفوكسهول يدخِّن! وفي لَمْح البَرق كنتُ في مكتب
الأخبار، ولم أجد من العرب سوى عراقيٍّ يُدعى ربيع الطائي يضع السمَّاعات على أُذنه
ويحاول الاستماع إلى إذاعة القاهرة؛ ومن ثَم جلستُ إلى المنضَدة الممدودة، وأحضرتُ
السمَّاعات، وجلسنا في انتظار الأخبار.