قصة الأسد والوحوش والأرنب
زعموا أن أسدًا كان في أرض مخصبة كثيرة الوحوش والماء والمرعى، وكان لا ينفعهن ما هنَّ فيه من خوفهنَّ من الأسد، فائتمرن فيما بينهن وأتينه فقلن له: إنك لا تصيب منَّا الدابة إلا بعد تعَب ونصَب، وقد اجتمعنا على أمر لنا ولك فيه راحة إن أنت أمَّنتنا ولم تُخفنا.
فقال: أنا فاعل. فقلن: نرسل إليك لغدائك كل يوم دابَّة منَّا.
فرضي بذلك وصالحهن عليه. ووفَّى لهنَّ بما أعطاهنَّ من نفسه، ووفين له به.
ثم إن أرنبًا أصابتها القرعة، فقالت لهنَّ: أي شيء يضركن إن أنتن رفقتُنَّ بي فيما لا يضرُّكن، وأريحكنَّ من الأسد؟ فقلن لها: وما ذلك؟ قالت: تأمرن من يذهب معي ألَّا يتبعني لعلِّي أبطئ على الأسد حتى يتأخر غداؤه فيغضب لذلك. ففعلن بها ما ذكرته.
وانطلقت متَّئِدَةً حتى جاءت الساعة التي كان يتغدى فيها، فجاع الأسد وغضب، وقام من مَربِضه يمشي وينظر. فلما رآها قال: من أين جئت، وأين الوحوش؟ فقالت: من عندهن جئت وهنَّ قريب، وقد بعثن معي بأرنب، فلما كنت قريبًا منك، عرض لي أسد فانتزعها مني، فقلت: إنها طعام الملك فلا تغضبنَّه. فشتمك، وقال: أنا أحق بهذه الأرض وما فيها منه. فأتيتك لأخبرك.
فقال: انطلقي معي فأرينيه. فانطلقت به إلى جُبٍّ صافي الماء، فقالت: هذا مكانه، وهو فيه وأنا أفرَق منه، فاحملني في صدرك. فحملها في صدره، ونظر في الجب فإذا هو بظلِّها وظلِّه، فوضع الأرنب من صدره، ووثب لقتال الأسد في الجب وطلبه فغرق.
وانفلتت منه الأرنب ورجعت إلى سائر الوحوش فأعلمتهن بخبره.
هذه هي القصة، ولكن جلال الدين أخذها فتصرف فيها، وتوسل بها إلى الإبانة عن آرائه كدأبه في كثير من القصص، يجعلها وسيلة إلى الإبانة عن مذهبه، ويستطرد، ويُغفل القصة حتى تضيع في الاستطراد، ثم يعود إليها.
وقد ترجمتها منثورة، وجعلت كل سجعتين مكان القافيتين في البيت المترجم.
ودققت في الترجمة فلم أحِد عن الأصل، ولم أزِد أو أنقص إلا حين يقتضي هذا البيانُ العربيُّ، وحين أشعر أن كلمة وضعها الشاعر أو حذفها لضرورة الوزن أو القافية؛ فأتصرف التصرف الذي أحسب الشاعر كان يذهب إليه، لولا الضرورة الملجئة.
وأنبه القارئ إلى ما في هذا الفصل من آراء قيّمة لجلال الدين في الجبر والاختيار خاصة، فهو رأيُ عظيمٍ من أئمة الصوفية، في أمر اختلفت فيه عباراتهم، وغمضت فيه مسالكهم.
القصة
طائفة من الصيد في وادٍ ذي رواء، كانت من الأسد في عناء. كم بغتها ففتك فيها، ونغَّص عليها مراعي واديها. فاحتالت واقترحت عليهْ، أن تكفيه بوظيفة تُرسَلُ إليه. على ألَّا يصطاد غير الوظيفة ولا يطغى، حتى لا يُمِرَّ عليها هذا المرعى.
رُبَّ هارب من بلاء إلى بلاء مبين، وفارٍّ من الثعبان إلى التنين.
كم احتال الإنسان فإذا حيلته شبكة، وإذا الذي ظنه رُوحًا تهلُكة. أغلق الباب والعدو في الدار، قد احتال فرعون على هذا الغرار. قتَل هذا الحقود آلاف الأطفال، والذي يطلب في داره غيرَ مبال.
كم علة في بصرنا المُريب، فهلم أفْنِ بصرك في بصر الحبيب.
إن بصره من أبصارنا نعم العوض، وإنك لواجد في بصره كل الغرض. الطفل إن لم يُعمِل يديه ورجليه، لا مركب له إلا عنق أبويه. فإذا صار فضوليًّا يُعمل الرجل واليد، وقع في عناء دائم وكبد. كانت الأرواح قبل الجوارح طاهرة، من الوفاء إلى الصفاء طائرة.
فلما صارت «بأمر اهبطوا» مقيَّدهْ، صارت في حبس الحرص والغم والكدح مصفَّدةْ.٦
نحن رضَّع وعيال للإله، قال الرسول الخلق عيال الله. إن الذي ينزل المطر بحكمته، قادر على أن يرزق الخبز برحمته.
لتهز الريح الأغصان كل لحظة، فيسَّاقط عليك النقل والزاد كل لمحة. الجبر نوم بين قُطَّاع الطرق، أينجو الطائر بغير جناح يخفُق. وإن شمخت على إشاراته بأنفك، فقد جهلت ولم تعرف قدرك. وما أوتيت من العقل يذهب، وما الرأس بلا عقل إلَّا ذَنَب. إن كفر النعمة (شؤم وشنار)، يذهب بالجاحد إلى قعر النار. إن كنت متوكلًا فاعمل، ازرع وعلى الجبار توكل.٨
•••
جاء١١ رجل وقت الغداء عجلان، يعدو إلى دار سليمان. وقد اصفرّ وجهه وازرقت شفتاه، فسأله سليمان ما دهاه؟ قال نظر إليَّ عزرائيل، نظرة غضبان ذي غليل. قال سليمان: سَل ما بدا لك، قال تأمر الريح أيها الملك. أن تحملني إلى هندستان، لعل روحي تصيب الأمان. (كذلك يفر من الفقر الناس، وهم طُعمة الحرص والوسواس. خوف الفقر كهذا الفزع، والهند هي الجهد والطمع)١٢ فأمر الريح أن تحمله على الماء، إلى أرض الهند في مضاء. وفي الغد ساعة الديوان، قال لعزرائيل سليمان: لقد أفزعت الرجل بالنظر الحديد، فهجر وطنه إلى بلد بعيد. نظرت إليه نظرة غاضبةْ، فإذا روحه من الهلع ذاهبةْ. عجبًا أتفعل هذا به، لتخرجه من داره وأهله؟ قال: يا ملك العالم المنقطع المثال، لقد أخطأ الرجل وأضلَّه الخيال. ما نظرت إليه من غضب، ولكن ملَكني إذ رأيتُه العجَب. فقد أمرني الحق الديان، أن أقبض روحه اليوم في هندستان.فقلت: لو أن له ألف جناح، ما استطاع إلى الهند الرواح. فلما بلغت الهند بأمر الدَّيَّان، قبضت روحه في ذلك المكان.
فقس أمور للناس على هذا المثال، وأنْعِم النظر ودع الخيال. ممن نفرُّ؟ من أنفسنا؟ أيُّ محال! وممن نهرب؟ من الحق؟ أيُّ وبال!
إنما المكر الحق ما صدع سجنك، والمكر الباطل ما سَدَّ منفذك. الدنيا سجن ونحن السجناء، فاهدم السجن واخلُص من العناء. ما الدنيا؟ هي الغفلة عن الله الصمد، لا الرياش والفضة والزوج والولد. إن المال تحمله من أجل الدين، سماه المالَ الصالح خيرُ المرسلين.١٤ الماء في السفينة لها هلاك، والماء تحت السفينة لها مِلاك. نَفَى المالَ والمُلكَ من قلبه سليمان، فلم يعدَّ نفسه إلا مسكينًا في ذلك السلطان. إن الإبريق المفدَّم يسير على الماء، طافيا يملأ قلبه الهواء. فإذا حوى الفقير في باطنه الخلاء، سار فوق هذه الدأماء. ولو كان مُلك العالم في يده، لم يكن الملك شيئًا في قلبه١٥ فاربط على القلب وعليه اختمن، واملأه هواء كِبرٍ من لَدُن.١٦
وساق الأسد البراهين على هذا النسق حتى عجز هؤلاء الجبريون عن الجواب. فترك الثعلب والأرنب والغزال، الجدل في الجبر والقيل والقال. وعاهدوا الأسد الهصور، ألَّا يناله من هذه البيعة محذور. وليأتينه نصيبه كل يوم بغير طلب وجهد. فكانوا كلَّما نالت القرعة واحدًا منها ذهب إلى الأسد مسارعًا. فلما دارت على الأرنب هذه الكاس صاحت: إلام هذا الجور؟
مُعجَب أنت أو أتيح لنا القضاء، وإلا فكيف يليق بمثلك هذا الهُراء.
فالذي أوحاه إلى النحل الحقُّ الصمد، لم يُتَح لحمار الوحش ولا الأسد.
ملأت بيوتًا من الشُّهد عجابًا، إذ فتح الله لها من العلم بابًا. وهل اهتدى الفيل الكبير، إلى ما علَّم الحقُّ دودَ الحرير. وتعلَّم آدم الترابيُّ من الخلَّاق، فأنار علمه السبع الطباق. وغض آدم من قَدْر المَلَك، لقد عَمِيَ من هو من الحق في شك.
ولزاهدِ ستمائة ألف سنة، صنعَ كمامة كالعجول المرسنة١٨ لئلا يرضع من علم الدين السديد، ولا يُطيف بهذا القصر المشيد.
هذه الكمامة علوم أهل الحس الوضيع، تمنعهم أن يرضعوا ذلك العلم الرفيع.
قد منحَ الحقُّ قطرةَ القلب جوهرَا، لم يعطه السموات والأبحرَا.١٩
يا عابد الصورة حتامَ بها تُغَر، لم تخلُص روحك المسكينة من الصوَر.
لو كان الإنسان آدميًّا بالشكل، لكان سواءً أحمد وأبو جهل. إن النقش على الجدار كالآدميِّ، انظر ماذا ينقص من الشكل السويِّ؟ تعوز الروحُ هذا التصويرَ الناضر، هلم فاطلب ذلك الجوهر النادر.
إن كلب أصحاب الكهف حين سُعِد، أقرَّ له في العالم كلُّ أسد. ما عابه هذا الشكل الحقير، إذ غرقت روحه في بحر النور.
وما عُنيتْ بوصف الصور الأقلام، بل وصفت الكتبُ العدولَ والأعلام. في العالم والعادل كل المعنى، لا تجده حيثما سرت من الدنيا. يهبط على الجسم من عالم اللامكان، إنَّ شمسَ الروح تضيق بالفلك والأكوان. لا نهاية لهذا الكلام المعجب، أرجِع الفكر إلى قصة الأرنب.
بع أذن الحمار واشتر أذنًا أخرى، فلن تعي أذن الحمار هذه النجوى.٢٠
اذهب اذهب فانظر لعب الأرنب، كيف خرَّ لمكرها الأسد المعجَب.
خاتم مُلك سليمان العلم، العلم روح والعالم جسم. ذل للإنسان بهذا الكمال، خَلْق البحار والصحاري والجبال.
فالنمر والأسد من هيبته كالفار، وفي فزع واضطراب منه تنِّين البحار. وقد تجنَّبه العفريت والجنِّي، فأوى كلٌّ إلى مكان خفيِّ.
وكم للإنسان من عدو مستتر، فإنما الآدمي العاقل مَن حَذِر. هذه الخفايا أخيارًا وأشرارًا، تضرب على قلب الإنسان أسرارًا. تذهب للاغتسال في النهر، فيصيبك من الشوك في الماء ضرر. هو وإن لم تدركه عيناك، يخزك فتعلم أنه هناك.٢١
وهناك أشواك الأغراء والوسواس، من آلاف لا واحد من الناس.
فاصبر حتى يتبدل حسك، لترى هذه الخفايا ويسهل صعبك.
وتعلم مَن كلامه رددت؟ ومن على نفسك سوَّدت؟
إن المشورة تهب الإدراك والرشَد. وكل عقل هو للعقل مدَد. قال الرسول: يا ذا الرأي الحسن، استشر فالمستشار مؤتمن.
أخفت الأرنب تدبيرها، ولم يتبين القوم تفكيرها.
مكر الأرنب بالأسد
تأخرت ساعة في المسير، ثم مثلت عند الأسد الهصور. وكان الأسد بما أبطأت في الذهاب، يزأر ويثير ببراثنه التراب.
ردَّتني وسوستهم دون الحمار، كم يخدعني هذا الدهر الغرَّار!
ما أعجز الأمير ذا اللحية الحمقاء، حين يشتبه عليه الأمام والوراء.
الطريق سويٌّ وتحته حبالة، واللفظ مونق وفي المعنى جهالة.
الألفاظ والكتب كالشِّباك لنا، واللفظ الحلو كالرمل لماء عمرنا.٢٣
والرمل الذي ينبجس الماء منه، جِدُّ نادر فاطلبه واسأل عنه.
ذلك الرمل يا بنيَّ رجل الله، انفصل عن نفسه واتصل بالإله.
يجيش منه للدين عذب الماء، فللطالبين به حياة ونماء.
وغير هذا رمل ظمآن، يشرب ماء حياتك كلَّ آن.
اطلب الحكمة أيها الحكيم، فإنما أنت بها بصير وعليم.
يصير منبعًا للحكمة من لها طلب، ويفرغ من تحصيل السبب.
يصير — وهو اللوح الحافظ — لوحًا محفوظًا، ويصير عقله من الروح محظوظًا. كان العقل له معلِّمًا، فصار تلميذًا متعلمًا.
فالعقل كجبريل يقول: يا أحمد معذرة، أحترق إن تقدمت أنملة.
فدعني هنا وتقدَّمْ ولا جُناحْ، ذاك حدِّي يا سلطان الأرواحْ.٢٤
كل من أعجزه الضعف عن الشكر والصبر، توهم أن قيدَ رجله الجبر، ومن تعلَّل بالجبر أمرض نفسه، حتى يُورده المرض رمسه.
قال النبي: إن التمارض، يُمرض حتى يهلك المتمارض.٢٥
ما الجبر؟ ربط على المكسور، ووصل العرق المبتور.٢٦
ما رجلك في هذا الطريق كسيرة، فعلى من تضحك بهذه الجبيرة؟
إن الذي انكسرت رجله في النصَب، جاء إليه البراق فركب
كان حامل الدين فصار محمولًا، وكان قابل الأمر فصار مقبولًا.
كان يتلقى الأمر من الملك، وهو بعد على الجنود يملك.
كان للكوكب فيه تأثير، وهو بعدُ على الكوكب أمير.
إن يشكل عليك في هذا النظر، فقد شككت إذًا في «انشق القمر».٢٧
فجدد إيمانك باللسان، يا من جدَّد هواه في الكتمان.
لا ينضر الإيمان والهوى نضير، ما الهوى إلا قفل هذا الباب الكبير.
قد أوَّلتَ بنفسك الحرفَ البِكْر، أوِّل نفسَك لا تؤوِّل الذِّكْر.٢٨
إنك تؤوِّل القرآن بالهوى، فقد عوَّجت وحقَّرت سَنيَّ المعنى.
مَثَلك مثَل هذا الذباب، الذي ملكه بنفسه الإعجاب.٢٩
سكران مُهتاج بغير الصهباء، يخال ذرة ذاته شمس السماء.
وقد سمع وصف الصقور والبيزان، فقال: أنا لا ريب عنقاء الزمان.
ركب هذا الذباب تِبْنة في بول حمار، ورفع رأسه كربَّان البحار.
قال: قرأتُ عن السفينة والبحر، وقد لبثتُ دهرًا في هذا الفكر.
فهأنذا والبحر وإحدى السفن، وأنا الرُبَّان البصير الفطن.
وساق في البحر هذا العَمَد، ورأى في هذا مجالًا لا يُحَد.٣٠
غيرُ محدود عنده هذا القذَر، فصدِّق منه هذا النظر.
هذا عالمه وهذا بصره، وهذه عينه وذاك بحره.
كالذباب صاحبُ التأويل الواهم، وهَمُه بول الحمار والتبن العائم.
فلو ترك الذباب التأويل بالهوى، صيَّره الجَدُّ سعيدًا كالُهما.٣١
ولم يكن صاحب هذه العبرة، ولم تبقَ روحه على قدر الصورة.
مِثلُ هذه الأرنب التي غلبت الأسد، ولم تكن روحها بمقدار الجسد.
هياج الأسد من تأخر الأرنب
كان الأسد يقول من الحدة والغضب، حين تأخرت الأرنب: أغمض عيني هذا العدوّ، عن الجهاد المرجوّ. مكر هؤلاء الجبريِّين قيَّدني، وسيفهم الخشبيُّ أوهى بدني.
لا أسمع من بعدُ لهذا البهتان، إنه صوت الشياطين والغيلان.
مزِّقهن أيها القلب وأقدم كالأسود، واسلخ جلودهن فما هنَّ إلا جلود.
هذا الكلام كالقشر واللُباب معناه، هذا الكلام كالصورة والروح مغزاه.
القشر يُخفِي من اللب الرديء العيب، وهو للُّبِّ الحسن ستر من الغيب.
إن كان القلم من الهواء والورق من الماء، فكل ما تكتب سريع الفناء.
وإن طمعت أن يبقى نقش الماء لديك، رجعت عاضًّا على يدَيك.
ما أجمل رسالات الرحمن، التي تثبت كلها على الحِدْثان.
أسماء الملوك من الدراهم تُمحى، ولكنَّ اسم أحمد أبدًا يَبقى.
وأسماء الأنبياء جميعًا في اسم أحمد، كما تتضمن المائة العقودَ في العدد.
هذا القول يا بنيَّ لا يُحدّ، نعود إلى قصة الأرنب والأسد.
بيان مكر الأرنب وتأخرها في الذهاب
أخَّرت الأرنب سيرها، وأحكمت في نفسها مكرها. ثم سارت بعد تلبُّث طويل، لتُسِرَّ إلى الأسد بعض القيل.
أيُّ عوالم يتضمنها العقل الباهر، وأي سعة في بحر العقل الزاخر.
عقل البشر بحر لا يحدُّ خِضَم، لا بد يا بني من غواص لهذا اليم.
وصورتنا في هذا البحر العذب، كالآنية على الماء تذهب.
هي ما لم تمتلئ كالطست على الماء يُزجيه، فإن امتلأ الطست رسب فيه.
عالم ظاهر والعقل خفيّ، صورتنا موج أو قطرة من هذا اللجِّيّ.
كل ما اتخذته الصورة وسيلة، رماه البحر بعيدًا بهذه الحيلة.
إذا لم ير القلبُ مُوحِيَ الأسرار، ولم ير السهمُ الراميَ المغوار.
يفتقد فرسه هذا الفارس ويصيحُ، وفرسه يجري به كالريح.
يعدو في صياح ونشدان، سائلًا طالبًا في كل مكان:
من سرق حصاني؟ وأين السارق؟ فما الذي تحتك أيها السيد الحاذق؟ أجل هذا حصان ولكن أين الحصان؟ ارجع إلى نفسك أيها الفارس الحيران.
إنك لا ترى الأحمر والأخضر، قبل أن ترى النور الأظهر.
ولكن ضلَّ في الألوان العِيان، فحالت بينك وبين النور الألوان.
فإذا حجب الليلُ الألوان عن الظهور، علمت أن رؤية الألوان بالنور.
لا يُرى اللون بغير النور الخارجي، فكذلك لون الخيال الباطني.
نور العين من نور القلوب يَبين، فنور القلب نورُ نورِ العيون.
ثم نورُ نورِ القلب نور الله، منزهًا عن نور الحسِّ والعقل تراه.
إن ذهب النور لم تر اللون في الحلَك، فالنور بالضد يظهر لك.
رؤية الألوان إذًا من رؤية النور، بضد النور تعرفه دون تأخير.
وقد خلق الله الغمَّ والألم، ليتبيَّن السرورُ في الأمم.
فالخفايا بأضدادها تظهر، والحق لا ضد له فهو مضمر.
فقد عرفت أنت النور بضد النور، فالضد من ضده في ظهور.
الصورة من المعنى كالأسد من الغابة، وكأصوات الكلام من الفكر وثَّابة.
هذا الصوت والكلم من الفكر صدر، وأنت لا تعلم بحر الفكر أين زخر.
ولكنك حين ترى موج الكلام لطيفًا، تعرف بحره كذلك شريفًا.
فلما اضطرب عن العلم موج الفِكَر، فاتخذ من الصوت والكلام الصُوَر.
ولدت من الكلام الصورة ثم فنيت، وذهبت الأمواج إلى البحر فارتمت.
فالصورة ظهرت من غير الصورة للعيون، ثم رجعت «إنَّا إليه راجعون».
لك كل لحظة موت ورجعة، قال المصطفى: الدنيا ساعة …
فكرنا سهم من «هو» في الهواء، يرجع إلى الله ما له في الهواء بقاء.
فالدنيا كل نفَس تتجدد، ونحن في غفلة بالبقاء عن التجدد.
والعمر كالنهر كل حين يُجَد، ويبدو استمراره في الجسد.
تحرك يدك القصبة المشتعلة، فتبدو للنظر نارًا متصلة.
هذا الاتصال والمدة من السرعة، فهما يمثلان السرعة في الصنعة.
وصول الأرنب إلى الأسد
بينما الأسد في نار وغضب شديد، رأى الأرنب مقبلة من بعيد.
تجرى جريئة مقدمة، مسرعة غاضبة متجهمة.
إن في الانكسار تهمة مُريبة، وفي الجرأة دفع كل ريبة. فلما قاربت الصف، صاح الأسد: أيها المخلِف!
أنا الذي مزقت الفِيَلة وتركت الأسود أذلَّة. فما نصف أرنب عندنا، لتضرب بالأرض أمرنا.
دعي نوم الأرنب وغفلتها، واسمعي من الأُسْد زأرتها.
أنت طائرٌ مُخلِف فليقطع رأسك بالحق، يجب ألَّا يسمع عذر الأحمق.٤٣
عذر الأحمق أقبح من الجرم، وعذر الجاهل لكلِّ معرفة سُم.
عذرك أيتها الأرنب من المعرفة خليّ، لستُ أرنبًا فتسيغيه في أذنَيّ.٤٤
أدِّ زكاة جاهك وصولتك، ولا تطرد الضالَّ من حضرتك.
إن البحر الذي يمدُّ الأنهار بالماء، يحمل على رأسه ووجهه كل غُثاء.
ولن يَنقص البحرَ هذا الجود، لا ينقص البحر بالكرم ولا يزيد.
كان معي أرنب للملك الجليل، قرينَين كنَّا ورفيقي سبيل.
فقصد أسد إليَّ على الطريق، وكذلك قصد إلى ذاك الرفيق.
قلت: نحن عبيد ملك الملوك، وكلٌّ في هذه السُّدَّة مملوك.
قال: مَن ملك الملوك، ألا تخجلين؟ أعندي اسم الأوباش تذكرين؟
أمزِّقك وأمزق مالكك، إن صدفت عن بابي أنت وصاحبك.
قلت: فدعني إلى مرة أخرى، لأرى الملك فأحْدِث عنك ذكرَا.
قال: فارهني إذًا رفيقك، وإلا فأرى تمزيقك.
وتضرعنا كثيرًا فما أجدى، أخذ رفيقي وتركني فردا.
وكان رفيقي ثلاثة أمثالي في السِمَن، وكذلك كان في اللطف والجمال والبدَن.
قُطِعت بهذا الأسد طريقنا، وقد أخبرناك وهذا أمرنا.
فايأس بعدُ من الوظيفة ولا تنتظر، الحق نقول لك (والحق مُرّ).
إن أردت الوظيفة فطهِّر الطريق، هلم فادفع عنَّا هذا الصفيق.
لأجزيه عن جرمه مائتين، وإن كنت كاذبة جعلت هذا جزاء المَين.
فتقدمت كالدليل أمامه، لتقوده إلى شرَكٍ قُدَّامه. إلى بئر عميقة قد أعلَمتْها، وشركًا لروحه جعلتها.
تقدم كلاهما حتى قاربا الجُبّ، كالماء تحت التبن هذه الأرنب.
يحمل الماء الغثاء إلى البيداء، فوا عجبًا كيف يحمل الجبلَ الماء.٤٦
كان مكرُهَا للأسد حِبالة، فأعجب من أرنب لأسد مغتالة.
استجرَّ فرعونَ وجنده الثقيل، موسًى واحدٌ إلى نهر النيل.٤٧
وقد شقت رأس نمرود الطمَّاح، بعوضة واحدة بنصف جناح.
ذاك حال من استمع للعدو اللدود، وجزاء من صادق الحسود.
وحالُ فرعونٍ أصاخ لهامان، وحال نمرودٍ أطاع الشيطان.٤٨
عدوٌّ وإن ادَّعى الحُب، وشبكة وإن حدَّثك عن الحَب.
إن أعطاك عسلًا فاعلمه سَمًّا، وإن أراك لطفًا فاعرفه قهرًا وغمًّا.
لا ترى غير الظاهر إذا حُمَّ القضاء، ولا تميز الأعداء من الأصدقاء.
فإذا نزل هذا فعليك الابتهال، والتضرع والصوم وتسبيح المتعال.
اضرع وقل يا علام يا ديَّان، لا تحطمنا بِرَحى الامتحان.
إن فَعلْنا فعل الكلاب يا خالق الآساد، فلا تجعل الأُسْد لنا بالمرصاد.
(يا كريم العفوِ ستارَ العيوب)، لا تؤاخذنا بأوقار الذنوب.
لا تعط صورة النار للماء اللطيف، ولا صورة الماء للهب المخيف.
إنك إن تُسكرنا بشراب القهر، صوَّرت المعدوم كالموجود للفكر.
ما السكر؟ أن تُحجَب العين عن البصر، فترى اللطيف كالخشن، والجوهر كالحجر.
ما السكر؟ أنّ الحِسَّ يُبَدّل، فإذا الطرفاء في النظر كالصندل.
إحجام الأرنب حينما اقتربت من الجب٤٩
وحينما اقترب من الجب الغَضَنفر، رأى الأرنب مُحجمة تتقهقر.
ألا ترى وجهي كالذهب أصفر، في لوني عن ضميري خبَر.
سمَّى الحقُّ السيما مُعرِّفَةً، فلعين العارف بالسيما مَعرِفة.٥٠
إن لون الوجه نمَّام كالجرس، ويُنبيك عن الفَرس صوت الفرس.
في صوت كل شيء عنه إعراب، لتعرف صوت الحمار من صوت البَاب.
قال الرسول لتمييز الإنسان: «المرء مخبوء تحت اللسان.»
لون الوجه يحدِّث بحال القلب، فارحمني وأشعِر قلبك الحب.
إنّ في حمرة الوجه صوتَ الشكر، وفي صفرة الوجه الجزع والنُّكر.
قد دهاني ما غلَّ رجلي ويدي، وذهب بلوني وسيماي وجَلَدي.
هذا الذي إن مسَّ شيئًا كسره، ويخلع من جذورها كل شجرة.
قد دهاني ذا الذي من هوله مات، الآدمي والحيوان والجماد والنبات.
دع هذه الأجزاء فالكليات، منه فاسدة الريح مصفرَّات.
فالعالم صابر حينًا وحينًا شاكر،٥١ والبستان حينًا ذابل وحينًا ناضر.
بل الشمس التي تطلع كالنار، تراها ساعة أخرى في اصفرار.
بل الكواكب التي تضيء الآفاق، تُبلَى في الحين بعد الحين لاحتراق.٥٢
والقمر الذي يفوق النجم في الجمال، يردُّه النَّصَب دقيقًا كالخيال.
وهذه الأرض الساكنة الطائعة، يجعلها الزلزال للحِمَى ضارعة.
وهذا الهواء وهو بالروح مقترن، إن جاء القضاء فهو وباء عفِن.
وأخو الروح الماءُ النمير، يُمر ويكدُر ويأسَن في الغدير.
والنار ذات الصلَف والكبرياء، تهب عليها ريح بالفناء.
ومن اضطراب البحر وزخيره، تدرك تغيُّرًا في شعوره.
والفلك الحائر الذي لا يفتُر، حاله كحال أولاده في تغيُّر.
فهو بين الحضيض والوسط والأوج، وفيه من النحس والسعد فوج بعد فوج.
أيها الجزئي المركب من الكليات! اعرف في نفسك حال المنبسطات.٥٣
للكليات نصَب وغم، فكيف يخلو جزؤها من الهم.
لا سيما جزئي من أضداد مُجتمِع، من ماء وتراب ونار وهواء جُمِع.
ليس عجبًا أن تفرَّ الشاة من الذيب، العجب أن يكون لها منه حبيب.
إنَّ الحياة من اصطلاح الأضداد، والموت أن يقع بينها تعاد.
لطف الحق قرَّب بين العدُوَّين، وألَّف بين الضِّدَّين.
فالعالم عليل سجين، والعليل بالفناء قمين.٥٤
سؤال الأسد عن سبب توقف الأرنب
ساقت الأرنب المواعظ للأسد، قالت أمسكتْ هذه القيودُ الرجل واليد.
(يؤثِر قعر الجب العاقل الأريب؛ لأن في الخلوة صفاء القلوب) ظلمة الجب خير من ظلمات الخلق، ومن استمسك بالخلق أرداه الحُمق.
لأستطيع بحمايتك يا معدن الكرم، أن أفتح عيني على الجب والظُّلَم.
نظر الأسد في الجب ورؤيته عكسه وعكس الأرنب
فلما حملها الأسد على صدره الرحب، أقبلت في حمايته إلى الجب.
فلما نظرا معًا في الماء، عكَس صورتهما الضياء.
رأى الأسد صورته في الماء فاعجَب، صورةَ أسد في حضنه أرنب.
رأى خصمه في الماء فملكه الغضب، فألقى الأرنب وفي البئر وثب.
وقع في البئر التي كان حفر، وحاق به ظلمه وما غدر.
الجب الظلم ظلم الظالمين، كذلك قال كل العالِمِين.
لا تنسِج على نفسك كدود الحرير، إنما تحفر لنفسك فاحفر بتقدير.
لا تظن الضعفاء بغير نصير تخشاه، واقرأ في القرآن: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ.
إذا التمس الضعيف على الأرض الأمان، ضَجَّ في السماء جُند الرحمن.
وإن أدميتَ الضعيف بأسنانك، وَجِعتْ أسنانك فانظر لشانك.
رأى الأسد نفسه في عتوّ، فلم يعرف نفسه من العدوّ.
حسب العدو صورة نفسه؛ فلا جرم سلَّ سيفه على رأسه.
كم من ظُلْمٍ تراه في غيرك، وإنما فيه صورة طبعك.
انعكس فيهم لا جرم كونُك، غرورك ونفاقك وظلمك.
هذا أنت فإنما لنفسك الطعنة، وعلى نفسك تنسج خيوط اللعنة.
وأنت لا ترى في نفسك هذا السُّوء، وإلا رأيت نفسك العدو المشنوء.
إنما تحمل على نفسك أيها الغافل، كما حمل على نفسه الأسد الجاهل.
فإذا بلغت قعر طبعك؛ علمتَ هذه الدناءة في خُلقك.
وقد تبين الأسد إذ القعر حواه، أن ما توهمه غيرَه كان إياه.
كل من أذل الضعيف الراغم، فهو كهذا الأسد الواهم.
(المؤمن مرآة أخيه)، خبرٌ عن الرسول نرويه.
وضعتَ على عينك زجاجة زرقاء، فازرقَّت أمامك الأرض والسماء.
إن يكن ازرقَّ زجاجُ كوَّتك، ازرقَّ ضوء الشمس في نظرك.
لا تَعْمَ فهذا اللون منك بَدَا، فالْحَ نفسك إذًا ولا تَلْحَ أحدَا.
ولك أنت بنار الله نظر، فلست تميزُ بين خير وشر.
سَلِّط النور على النار حينًا بعد حين، لتصير نارك نورًا أيها المسكين.
مناجاة!
ماء البحار كلها طوعُ أمرك، والماء والنار مِلك يدك.
إن تشأ تَصِرِ النار ماء طيِّبًا، وإن تشأ صار الماء نفسه لهبًا.
وهذا الطلب فينا هو من صُنعك، والخلاص من الظلم من عدلك.
هذا الطلب بغير طلب منحت، وكنزَ الإحسان على الناس فتحت.
تبشير الأرنب الصيد بأن الأسد وقع في الجب
لما فرحت الأرنب بالنجاة، جرت تلقاء الصيد في الفلاة.
رأت الأسد في الجب هوَى، فعدت راقصة حتى المرعى.
صفقت بيديها حين أفلتت من الفناء، ناضرة راقصة كالورق والأغصان في الهواء.
خلصت من حبس الطين الأوراقُ والأغصان، فرفعت رءوسها فهي والريح سِيَّان.
لما شق الورق الأغصان وانتشر، وسارع إلى ذُرى الشجر.
تغنَّت بلسان «الشطء» حامدة، كل ورقة على حدة:
والأرواح المرتهنة بالطين والماء، جذلة القلب حين تخلص من العناء.
ترقص في نور عشق الحق، كالبدر منيرةً لا تُمحَق.
ترقص الأجسام والأرواح فلا تسلْ، كيف فرح الأرواح والجذَل!
رمت الأرنب الأسد بالعطب؛ خزيًا لأسد يعجز عن أرنب!
يا أسدًا في هذه البئر تردَّى! نفسُك كالأرنب لك منها ردى.
أرنبُ نفسك لها في المرعى مجال، وأنت ثاوٍ في بئر القيل والقال.
بشرى بشرى أيها الجمع المنعَّم! إن كلب جنهم عاد إلى جهنم.
بشرى بشرى فعدوُّ الأرواح المارق، حطم أنيابه قهرُ الخالق.
اجتماع الصيد حول الأرنب والثناء عليها
واجتمعت الوحوش كلها في زحام، في سرور وضحك وطرَب وهُيام.
تحلَّقن حولها وهي بينهُنَّ كالشمع، وسجدن وقلن لها أرعي السمع:
أجرى الحق هذا الماء في نَهرك.٦٤ مَرحى لعضدك! مرحى ليدك.
أبيني أبيني كيف مكرتِ به! هذا الجبَّار كيف بمكرك صرعتِه!
أبيني ففي القصة دواء الجِراح، أبيني إنها بَلسم الأرواح.
وهبني القوة وأنار قلبي، وأمدَّ نورُ القلب رجلي ويدي.
من عند الحق يأتي التفضيل، ثم من عند الحق يكون التبديل.
ويداول الحق هذا التأييد، بين أهل الرجاء والبصر السديد.
نصح الأرنب الصيد ألا يفرحوا بهذا فإنه مجرد عون الحق لا بقوتنا
الذي مُلكه فوق النوبة يُنظم، تضرب له النوبة فوق الأنجم.
أعلى من النوبة الملوك المخلدون، وهم مع الساقي أبدًا ينعمون.
إن تتركن هذا الشراب قليلًا، نعمت بشراب الخلد سلسبيلًا.
تفسير رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر
يا سادة قد قتلنا خصمَنا الظاهر، وشرٌّ منه خصم السرائر.
قتلُه ليس من عمل العقل والنظر، وليس في قدرة الأرنب هذا الأسد المضمَر.
نفسك جهنَّم، وجهنم تنِّين، لا يُنقَع بالبحار ولا يستكين.
تشرب سبعة الأبحر هذه المحرِقة، ولا تنقص بالبحار لها حُرقة.
يدخلها الأحجار والكفار، الذين قست قلوبهم كالأحجار.
ثم لا تسكن هذا الغذاء، حتى يأتيها من الحق النداء: هل امتلأتِ؟ فتقول: لا يا خلاق، هأنذا، وهذه الحرارة والإحراق.
التقمت عالمًا وبطنها يستزيد، صائحًا إيهِ (هل من مزيد؟)
فيضع عليها الحق القدم من (لا مكان)، فتسكن حينئذٍ بأمر (كن فكان).
ونفوسنا هذه جزء جهنم، وطبع الكل في الأجزاء لا جَرَم.
فاستقم كالسهم من القوس انطلَق، فغير المستقيم من القوس لا يُطْلق.
قد فرغت من حرب العلانية، فتوجهت إلى الحرب الخافية.
(قد رجعنا من الجهاد الأصغر)، مع النبي إلى الجهاد الأكبر.
أسأل الله القوة والتوفيق والإسعاف، لأقلع بالإبرة جبل قاف!
ليس أسدًا من على الصفوف هجَم، إنما الأسد من لنفسه حطَم.