الفصل الثاني
انقضت عدة شهور على المقابلة التي جرت لي مع اللجنة، تناوبتني خلالها مشاعر اليأس والرجاء؛ فكنت أستيقظ في الصباح بثقة مطلقة في أن قرارها سيكون لصالحي، ولا تمضي ساعات إلا ويكون الشك قد راودني، فأسترجع وقائع المقابَلة لحظةً بلحظة، وعندئذٍ يستولي عليَّ هبوط بالغ، أو أقع فريسةً ليأس مُطبق.
لم تكُن هناك وسيلة لتلمُّس موقف اللجنة مني، أو الاتجاه الذي تمضي فيه مداولاتها بشأني. حقًّا إنه قد خطر لي أن أسعى للقاء العانس، عضو اللجنة، لكني تصوَّرت أنها ليست من البَلَه بحيث تُفضي إليَّ على الفور بما أريد، ولا بد أن أبذل جهدًا خاصًّا لأبلغ هذه الغاية. على أني كلما تذكَّرت وجهها الشاحب، تلاشت رغبتي في لقائها. فرغم أني تورَّطت في بضعة أشياء تتناقض بدرجة أو أخرى مع مبادئي، منها على الأقل قَبولي للمهانة التي تعرَّضت لها على «يد» اللجنة، إلا أني لم أهبِط بعدُ إلى الدَّرَك الذي أتودَّد فيه إلى امرأة تودُّدًا مصطنعًا. وليس الأمر قرارًا عقليًّا بقدر ما هو استعداد نفسي في الأساس. وحتى لو استطعت، فماذا يضمن لي ألَّا أضطر للمُضي حتى النهاية. ومعنى هذا أن يتطوَّر الموقف إلى كارثة، بالنظر إلى سوابقي في هذا الشأن، والتي كانت موضوعًا للعبث بي أمام اللجنة.
لم يبقَ أمامي غير الانتظار، فلزمت البيت لا أُغادره إلا لِمامًا كي لا تفوتني إشارة من اللجنة تبلغني فيه بقرارها، إن سلبًا أو إيجابًا، أو تستدعيني أمامها لهذا الغرض.
وكنت أهُم بتناول عشائي ذات مساء، عندما وصلتني منها برقية أثارت حيرتي؛ فبدلًا من دعوة للحضور، أو بلاغ وجيز بالقرار النهائي، طالعتني هذه الكلمات: «ننتظر دراسةً عن ألمع شخصية عربية معاصرة».
كانت المعلومات القليلة التي تجمَّعت لديَّ عن إجراءات اللجنة تؤكِّد أني أمام إجراء غريب ليس له سابقة؛ فقد جرت اللجنة على أن تبت في أمر من يسوقه حظه للمثول أمامها، من خلال لقاء وحيد لا يتكرَّر.
ولم يكُن من سبيل لتعليل هذا التحوُّل الغريب في تقاليدها إلا بافتراض حدوث انقسام في الرأي بشأني بين أعضائها؛ ومعنى هذا أن قوة مركزي هي الدافع لهذا القرار، الذي أرادت به اللجنة — ولا شك — إرضاء المعترضين عليَّ (وبينهم بالتأكيد ذلك القصير قبيح الوجه)، وإعطائي فرصةً جديدةً لتبيان مواهبي.
رفع هذا التأويل من معنوياتي إلى أن تبيَّنت الوجه الآخر من الأمر؛ فماذا يمنع أن يكون ضعف مركزي، على العكس، هو الذي جعل اللجنة تحاول إرضاء من تصدَّى للوقوف بجانبي، بمنحي فرصةً ثانية؟ ومعنى هذا — في الغالب — أن المهمة المطروحة ليست لها قيمة كبيرة، وإنما هي ذريعة لتأجيل القرار الذي تحدَّد جوهره بالفعل.
وقبل أن أهوي إلى قرار اليأس، تراءى لي احتمال ثالث، هو أن تكون اللجنة قد أدخلت بعض التطوير على إجراءاتها. ومن الطبيعي أني لم أسمع بالنبأ منذ كانت الصحف لا تخوض في شئونها من قريب أو بعيد.
ساعد على مَيلي للأخذ بهذا التفسير أن الدراسة المطلوبة ستكشف عن مدى تمكُّني من لغة اللجنة، حيث إنها ستقدَّم إليها مكتوبةً كما يُفهم من ثنايا البرقية. ولم تكُن تهتم في السابق بهذا الجانب من قدرات الماثلين أمامها.
اتجه اهتمامي بعد ذلك إلى دراسة البرقية بحثًا عن الفخاخ التي اشتُهرت اللجنة بها، فوجدتها حافلةً بالعديد منها؛ فهي أولًا لم تحدِّد زمنًا لهذه الدراسة ولا حجمًا لها، فلا أعرف إذا كان المطلوب هو عُجالة سريعة مثل ما يُنشر بالصحف، أو بحثًا أكاديميًّا في مئات الصفحات. كما أنها لم تحدِّد المقصود باللمعان، أهو الشهرة؟ أم تحقيق إنجازات مُعيَّنة؟ وأي نوع من الإنجازات؟ وعلى أي مستوى؛ فردي أم عام؟ وفي أي مجال؟
لم يكُن من الممكن الاستفسار من اللجنة عن هذه الأمور؛ لأن هذا من شأنه — إذا فرضنا أنه تيسَّر — أن يُظهرني بمظهر العاجز، ويقضي على كل فُرصي منذ كانت اللجنة تُعوِّل كثيرًا على طريقة تفسير أسئلتها؛ لهذا لم يكُن أمامي سوى الاعتماد على نفسي.
لجأت إلى معاجم اللغة فوجدت أن للَّمَعانِ في لغة اللجنة معنًى واحدًا يقتصر على خاصية عكس الضوء. أمَّا العرب فقد أضفَوا على الكلمة معاني متعدِّدة فاستخدموها بمعنى البرق والإضاءة، وبمعنى السرقة عندما قالوا: لمع بالشيء؛ أي ذهب به واختلسه. كما قالوا إن الأنثى ألمعت؛ أي ظهر حَمْلها وتحرَّك الجنين في بطنها. وقالوا أيضًا إن الألمع هو الذكي المتوقِّد. أمَّا ألمع الناس فهو أكثرهم كذبًا. ويبدو أن المعنى الأخير هو الذي اشتُق منه التعبير الشعبي المعاصر «أبو لمعة الأصلي»، الذي عُرف في البداية كاسم تجاري لأجود أنواع الطلاءات المستخدمة في تلميع الأحذية، ثم أصبح مع الوقت علَمًا على كل من أدمن الكذب والمبالغة والادعاء.
ولكم أن تتخيَّلوا حيرتي؛ فأي هذه المعاني التي تعرفها اللجنة هو المقصود؟ وعمَّ أبحث بين مئات الشخصيات التي تُحدث ضجيجًا لا ينتهي في كل بلد عربي على حِدة، وعلى نطاق العالم العربي ككل؟!
قلَّبت الأمر في رأسي مدةً دون أن أصل إلى رأي، وأخيرًا قرَّرت أن أستعرض الأسماء المعروفة في المنطقة من مختلِف المجالات، دون أن أتقيَّد بمقياس مُعيَّن لهذه المعرفة. ومن خلال استبعاد الواحد منها بعد الآخر، أحصُر البحث في عدد محدود من الأسماء والمعايير، ثم أتخذ قرارًا بشأن المعيار النهائي في اختيار أحدها.
بدأت بالزعماء السياسيين والحكام؛ فليس هناك من هم أكثر إحداثًا للضجيج منهم، ولا أقوى، لكني لم ألبَث أن تبيَّنتُ المشاكل التي ستترتَّب على اختيار أحدهم؛ فالمعروف أن الجدل يثور كثيرًا حولهم، ومن شأن دراسة كالتي أنا مُقدِم عليها أن تتعرَّض لتقويم الشخصية المختارة. وفي هذه الحالة تكون ثمة فرصة — قد لا تتوفَّر في حالات أخرى — لأن أتَّخذ وجهة نظر تتعارض مع تلك التي تتبناها اللجنة.
استقرَّ رأيي على استبعاد الساسة والحُكام، وأتبعتهم بالقادة العسكريين عندما لم تُسعفني ذاكرتي باسم واحد منهم. ثم أسقطت الشعراء من حسابي لأني لا أستسيغ — ربما عن خطأ — كلماتهم الفضفاضة ومعانيهم المبهمة؛ وبذلك فأنا من البداية مُتحيِّز ضدهم، وهو أمر يُخل بالموضوعية الكاملة التي لا بد أن تتوفَّر في دراسة كالتي أنا بصددها.
دوَّنتُ أسماء عددٍ من الكُتَّاب البارزين. وعندما أخذت في تحليل وَضْع كل منهم، وجدت أن ما نالوه من مكانة يعود إلى الأفكار والمبادئ التي دعَوا إليها في وقت ما. وبمزيد من التحليل تبيَّنت أنهم أصبحوا فريقَين؛ الأول الْتزم الصمت، سواء عن رهبة أو قنوط، رغم أنه يعرف أكثر من غيره حقيقة ما يجري، والفريق الآخر تراجع بسهولة ويُسر عن دعاويه السابقة، بل وتنكَّر لها.
وبحثت عبثًا عن قاضٍ واحد ارتبط اسمه بوقفة مجيدة إلى جانب الحق. ومن هذه الزاوية أيضًا أمكنني أن أتخلَّص من الصحفيين وزعماء العُمَّال، وسرعان ما ألحقتُ بهم مَن يُدعَون بنُوَّاب الشعب.
واكتشفت أن أغلب العلماء والأطباء والفنانين والمهندسين والمدرِّسين وأساتذة الجامعات كانوا مشغولين بجمع الثروات عن القيام بعمل واحد من شأنه أن يضعهم في دائرة الضوء، أو بالقرب منها. حقًّا إن صَيت بعض من هاجر منهم طبق الآفاق بما حقَّقه من كشف أو ابتكار في مجاله (رغم شكي أن الأمر في كثير من الحالات لا يتعدَّى الدعاية المفتعلة). لكنه فَعَل ذلك في الخارج، بعد أن نشأ وتعلَّم بين ظهرانينا، ووُضعت ابتكاراته وكشوفه على الفور لخدمة البلاد الأجنبية وأهلها. فأي علاقة صارت تربطه بموطن نشأته؟!
توقَّفت طويلًا عند عدد من المغنين والمغنيات الذين يتمتَّعون بشعبية واسعة بين جميع العرب، وتُتابعهم الآذان بشغف من فوق قمم الجبال، وفي متاهات الصحراء، ومراكز المدن، لكن الكلمات المبتذلة والألحان الرخيصة التي يُردِّدونها نفَّرتني منهم. وكنتُ أميل إلى صوت أحد كبارهم، الذي استطاع بعبقرية من نوع خاص أن يبقى فوق القمة أكثر من نصف قرن، طافيًا فوق سطح الأحداث التي عصفت بهذه الأمة. لكني كنت أعرف، بحكم ظروف عرضت لي، المصدر الأصلي لأغلب الألحان التي نسبها لنفسه، كما كنت أعرف أيضًا أنه يُقدِّم ما يشبه الرواتب الشهرية لعديد من الشخصيات الإعلامية التي تعمل على حراسة مجده، وأنه يحارب بلا هوادة أية أصوات جديدة منافسة.
وقضيت وقتًا مماثلًا أدرس موقف تلك الدُّمى التي تملأ فراغ الشاشتَين الكبيرة والصغيرة على السواء، فلم أجد لديَّ حماسًا لتقَصي أمر أحدها. فبالرغم من دقة وضعي، وحاجتي الشديدة لرضاء اللجنة، فاني آليت على نفسي في كل أموري ألَّا أقوم بعمل من الأعمال إلا ويكون له صدًى في نفسي، ويستجيب لشيء عميق أو أصيل في داخلي.
لم يتبقَّ غير الراقصات اللاتي تظهر صورهن في الصحف كل يوم، ويأتي للاستمتاع بمشاهدتهن في الملاهي المتناثرة تحت سفح الأهرامات العتيدة، آلاف المبعوثين المتعطِّشين إلى المعرفة من مختلِف أركان الوطن العربي.
وكان ثمة ما يُغري بالبحث والتقصي بشأنهن، وأقصد بذلك بُعدهن عن الأمور الأيديولوجية والسياسية؛ ممَّا يضمن منذ البداية عدم الاصطدام باللجنة.
اتجه ذهني على الفور إلى واحدة منهن، دأبت الصحف على نشر أخبارها. وكنت قد شاهدتها بعينَي في مرة وحيدة قادتني فيها الصدف إلى الملهى الذي ترقص به، وأعجبني يومها جسدها الفارع الطويل الذي تلاعبت بدلة الرقصة اللامعة بتفاصيله الرائعة بين الكشف والإخفاء، رغم ما اتسمت به حركاتها من مبالغة. ولاحظت أنها تجد صعوبةً في إيداع الهبات التي انهالت عليها، بين نهدَيها المكتنزَين. وكان من الواضح أن بدلة الرقص لا تترك في هذا الموضع مكانًا كافيًا للأوراق العريضة من الجنيهات العشر التي كانت الهبات تتألَّف منها، وهو أمر تنبَّهَت إليه الدولة أخيرًا عندما أصدرت أوراقًا من فئة المائة جنيه في أحجام صغيرة ملائمة، ممَّا يقطع بمدى ما لصاحبتنا من ثقل.
فكَّرت طويلًا في الأمر، وقد استمالني أني سأقضي — بحكم الدراسة المقترحة — بعض الوقت بالقرب منها، قد تسمح لي خلاله بارتياد الأماكن المطروقة جيدًا من فنها العظيم.
إلا أني لم ألبث أن تخلَّيت عن هذه الفكرة آسفًا، عندما تصوَّرت المقاومة العنيفة التي ستواجهني من عضوات اللجنة، والتي ستحظى — دون شك — ببعض المساندة، ولو ظاهريًّا، من بقية الأعضاء.
عندئذٍ انتابني شعور بالغ بالإحباط والعجز، ورأيت أني مُشرف على الإفلاس والفشل، ولُمت نفسي على أني انسقت منذ البداية وراء سراب من الطموح، قادتني إليه ثقة مبالغة بمواهبي، فوضعت نفسي في طريق اللجنة، متعرِّضًا بذلك لمحن متتابعة.
كان هذا منحى تفكيري ذات صباح، وأنا أمر ببصري في غير مبالاة على عناوين الصحف، متوقِّفًا عند بعضها لأقرأ التفاصيل بشعور المرارة الذي يَفيض بي عادةً عندما أفعل.
لفتت نظري صورة كبيرة بعرض الصفحة الأخيرة، تمثِّل إعلانًا عن بنك أمريكي-عربي جديد، ظهر بها جانب من حفل افتتاحه، وعدد من كبار المؤسِّسين وجُلهم من الشخصيات البارزة.
والذي اجتذب انتباهي على وجه التحديد هو البدلة اللامعة لأحد الذين ظهروا في الصورة. ولم أتعرَّف عليه في البداية بسبب التمويه الذي تتميَّز به هذه الصور عادة، إلا أني تمكَّنت من ذلك بعد أن قرأت أسماء الواقفين بالترتيب.
كان لاسمه الكامل وَقْع غريب في أذني؛ لأنه كان معروفًا لي وللكثيرين بلقب «الدكتور» وحسب. ومع أن بلادنا تعج بالآلاف الذين يحملون هذا اللقب العلمي الرفيع، فإن مجرَّد ذِكر اللقب وحده كان كافيًا للدلالة عليه دون سواه.
ظلَّ كلٌّ من اسمه ولقبه يتردَّد في ذهني طول اليوم، ومعهما صورته بالبدلة اللامعة، وبعض الذكريات القديمة، ومنها المرة الوحيدة التي رأيته فيها رأي العين. وكان ذلك منذ خمس سنوات تقريبًا عندما توقَّفت بي سيارة أجرة أمام إشارة المرور في ميدان رمسيس، ورأيت الأنظار كلها تتجه إلى سيارة مرسيدس فخمة من أحدث طراز، استقرَّ صاحبنا في مؤخِّرتها ممسكًا بسمَّاعة تليفون. وكان ذلك أمرًا عجبًا حينئذ؛ لأننا كنا ما نزال قريبي العهد بحرب أكتوبر، ولم نكُن قد انفتحنا بعد، وبالإضافة إلى ذلك كانت أغلب التليفونات الثابتة في البلاد عاطلةً عن العمل، فما بالكم بواحد متحرِّك يعمل؟!
وبعد ذلك بعام أو نحوه حملتني الظروف إلى بغداد، وكنت أسير مع صديق عراقي في أحد الشوارع القريبة من وسط المدينة، عندما رأيت على الرصيف المقابل منزلًا مُكوَّنًا من طابقَين، تحيط به حديقة صغيرة، ويحرسه عدد من الجنود بالملابس المموَّهة والمدافع الرشاشة. سألت صديقي عن صاحب المنزل فإذا به ينهرني بصوتٍ خافت وقد أطرق برأسه إلى الأرض: «انظر أمامك ولا تتطلَّع إلى الناحية الأخرى.» فعلت كما أراد، وعندما ابتعدنا عن المنطقة قال لي: «أتريد أن تقضي علينا؟ هذا منزل «الدكتور»!» لم أجرؤ ساعتها على مزيد من الاستفسار؛ فلم أعرف حتى الآن ما إذا كان المقصود بذلك هو مواطني المعروف، أم شخص آخر، عراقي، ينازعه اللقب.
وإذ أعطيت الأمر الآن جانبًا من تفكيري رأيت أنه يستوي في الحالتَين؛ فلا يقلِّل من شأن مواطني أن يوجد منافس له في كل عاصمة عربية. وعلى العكس؛ فإن ذلك يُعطي فكرةً عن أوجه التشابه، إن لم يكن التطابق بين الاثنَين، ويؤكِّد من جديد خطورة شأن صاحبي وأهميته.
ولعلكم لمستم اهتمامي بأمره؛ فمع تداعي الذكريات والانطباعات، ازددت اقتناعًا بأني وجدت ضالتي أخيرًا. قد لا يكون «الدكتور» معروفًا بالقدر الذي يتمتَّع به المغنُّون والراقصات، إلا أنه بالتأكيد أكثر منهم فاعليةً وتأثيرًا، لا في حدود بلادي وحدها، وإنما على مستوى العالم العربي بأكمله. ولا شك في أنه يساهم بقدر كبير في صياغة الحاضر والمستقبل، فهل يكون ثمة من هو «ألمع» من ذلك؟
هكذا حزمت أمري على أن أجعله موضوعًا للدراسة المطلوبة مني.
وضعت خطةً بارعةً تتلخَّص في قراءة كل ما كُتب عنه من دراسات أو مقالات أو أنباء عابرة بالصحف، ثم مقابلته وتوجيه عدد من الأسئلة الذكية إليه أُعدُّها بعناية، بحيث تسد الفجوات التي ستقابلني في قراءاتي، وأستكمل بها معالم شخصيته التي أنوي رسمها بدقة وإحكام.
على أني اضطُررت إلى تعديل خطتي عندما لم أجِد كتابًا واحدًا عنه. ويبدو أن أحدًا غيري لم ينتبِه إلى أهميته، ولم يجِد فيه موضوعًا جذَّابًا، أو ربما كان الكُتَّاب ينتظرون موته لتكتمل بذلك سيرته.
وبقدر ما سعدت لأني أطرق موضوعًا بِكرًا لم يسبقني إليه أحد، شعرت بالصعوبات الناشئة عن ذلك؛ لهذا قرَّرت أن أبدأ بمقابلته؛ فقد يدلني على شيء كُتب عنه وفاتني العثور عليه، أو قد تكون لديه بعض المذكِّرات الشخصية التي لا يمانع في اطلاعي عليها.
ارتديت أفضل ملابسي، وحملت حقيبتي «السامسونايت» بعد أن أودعت بها مسجلةً يابانيةً صغيرة الحجم، وكراسًا جديدًا، وعدة أقلام، وورقةً صغيرة دوَّنت بها رءوس الموضوعات التي أبغي طرقها معه.
انطلقت إلى مقر إحدى المؤسَّسات التي ارتبطَت باسمه بعد أن حصلت على عنوانها من دفتر التليفون. وذكر لي موظف الاستعلامات أن «الدكتور» لا يتردَّد على مؤسَّسته في مواعيد محدَّدة. وعندما أوضحت له حاجتي الشديدة للقائه — دون أن أذكر له بالطبع السبب الحقيقي — أحالني إلى إحدى السكرتيرات بعد أن فتَّش حقيبتي للاطمئنان على خلوها من الأسلحة والمتفجِّرات.
عاملتني السكرتيرة بجفاء، مؤكِّدة استحالة الفوز بمقابلة «الدكتور» في موعد قريب؛ فهو أولًا لا يتواجد في مكتبه إلا نادرًا لأنه دائم التنقُّل بين العواصم العربية بحكم أشغاله، وهناك ثانيةً قائمة طويلة من المنتظرين، ولا بد لي ثالثًا من إيضاح مطلبي باستفاضة على ورقة مكتوبة بلغة سليمة تُقدَّم إليها لتحيلها بعد ذلك إلى مدير مكتبه. وعرفت منها أن مدير المكتب هو نفسه أحد أساتذة الجامعات المعروفين الذين لمعوا في الستينيات، وارتبطَت أسماؤهم بمشروعات طَموحَة للتصنيع الثقيل.
وقعت في حيرة شديدة؛ فلم يكن في وسعي أن أذكر حقيقة علاقتي باللجنة. فبالرغم من خطورتها وسعة نفوذها، فإنها من الناحية الرسمية لا وجود لها، وأي محاولة للتمسُّح بها لن تُقابَل إلا بالاستغراب والسخرية. وإذا كان من الممكن أن يدور الحديث حول هذا الموضوع بيني وبين «الدكتور» نفسه، فمن المستحيل أن أُشير إليه في ورقة تأخذها السكرتيرة لتضعها أمام مدير المكتب. أمَّا إذا أغفلت دور اللجنة، فماذا يتبقَّى؟ أحد هُواة الكتابة المجهولين يبغي وضع كتاب عن شخصكم الكريم. وما الذي يضمن له أني لست سوى محتال يسعى للقائه طلبًا لوظيفة أو صدقة.
انصرفت مهمومًا لأدرس الأمر، ورأيت أن الوقت يمضي بسرعة دون أن أتوصَّل لشيء، وأن محاولة الالتقاء بالدكتور ستستغرق عدة أيام وربما أسابيع، وفي النهاية قد لا تُسفر عن شيء؛ لذلك غيَّرت خطتي مرةً ثانية، وعزمت على التفرُّغ فورًا لجمع كل ما نُشر عنه بالصحف.
مضيت إلى المبنى الضخم الذي يضم مكاتب أهم الصحف اليومية وأكثرها توزيعًا، وطلبت الاطلاع على أعدادها الصادرة منذ ربع قرن؛ فهذا هو التاريخ الذي رأيت أنه يصلح نقطة بدء لتتبُّع مسيرة «الدكتور» الحافلة.
اتخذت مكاني إلى إحدى الموائد في قاعة المكتبة، وأخرجت من حقيبتي الكراس الفارغ والقلم، بينما أحضر لي الموظف عدة مجلدات من الصحيفة يكسوها الغبار، فتناولت المجلَّد الأول، وفتحت غلافه، ثم بدأت أقلب الصفحات.
غصت على الفور في عالم غريب من الأحداث المثيرة، والرجال والنساء الذين ملئوا الأسماع والأصداء. وانبسطت أمامي الطموحات التي تأجَّجت يومًا في الصدور. استغرقتني صور الماضي، حتى إني كنت أنتزع عينَي بصعوبة من الصفحات المغبرة مذكِّرًا نفسي بالهدف الذي أسعى وراءه، فانتقلت إلى الصفحات التالية في تثاقل وكآبة، وأصبحت كمن يستعيد طفولته وصَدْر شبابه، ويتأمَّل ما داعبه ذات يوم من أحلام وآمال، ولا يلبث أن يشعر بالأسى عندما يتبيَّن ما صار إليه حاله.
اعتورني دُوار من جرَّاء تقليب الصفحات، ونقل البصر بين العناوين والصور، واستنشاق الغبار. وبدأت أشعر بهول المهمَّة التي وضعتُها لنفسي عندما لم أتمكَّن بعد ثلاث ساعات من استعراض أكثر من عشرة أعداد؛ عندئذٍ أصابني هبوط مألوف، وشعرت بحاجة ماسة إلى فنجان من القهوة أو كوب من البيرة، لكني لم أجِد الهمة الكافية لأن أطلب شيئًا من صبي المقصف الذي كان يُطل برأسه من مدخل القاعة كل حين.
وحسم موظَّف المكتبة الأمر عندما أبلغني بانتهاء موعد العمل فتنهَّدت في ارتياح، وأعدت أوراقي إلى الحقيبة، بيضاء من كل سوء، وحملت الحقيبة وغادرت القاعة.
قمت بعملية حسابية بسيطة فرأيت أن الأعداد التي أُريد الاطلاع عليها من هذه الصحيفة بالذات هي ٣٦٥ × ٢٥ سنة = ٩١٢٥ عددًا. وطبقًا لمعدَّل اليوم، وبفرض أني عملت كل يوم دون انقطاع ودون أن أمرض أو تؤخِّرني المواصلات أو يعوقني انقطاع الكهرباء أو المياه أو غير ذلك من الطوارئ المألوفة، أكون بحاجة إلى حوالي الألف يوم؛ أي ثلاث سنوات. هذا بالنسبة لصحيفة واحدة.
ولم يكُن بوسعي أن أعتمد على صحيفة واحدة فحسب؛ فرغم أن صحفنا القومية تنشر دومًا نفس الأخبار والتعليقات، بل ونفس الصور، إلا أن أركان الأخبار الخفيفة وأنباء النوادي والسهرات تتميَّز بشيء من التنوُّع. وهي التي عوَّلتُ عليها؛ فليس ثمة مكان لأنباء «الدكتور» على الصفحات الأولى، طالما أنه ليس بالشخصية السياسية أو السينمائية.
يُضاف إلى ذلك المجلات الأسبوعية والشهرية، والصحف والمجلات الصادرة في المشرق والمغرب. ومعنى هذا كله أني إذا أردت أن أكون أمينًا مع نفسي، فلا بد لي من التفرُّغ، تفرُّغًا كاملًا، لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو أربع، من أجل جمع مادة البحث فقط. وهناك بعد ذلك الوقت اللازم لدراستها وتحليلها، ثم صياغة النتائج التي سأتوصَّل إليها.
لم أكن قلقًا بشأن انقطاعي عن عملي الأصلي؛ إذ إن اللجنة توفِّر لمن يتقدَّم أمامها إجازةً مدفوعة الأجر من عمله إلى أن تنتهي من أمره، لكني كنت أجهل المدة المقرَّرة للبحث، وبالتالي لم يكُن بوسعي التورُّط في منهاج للعمل يتطلَّب وقتًا بهذا الطول.
بحثت بلا جدوى عن مَخرج إلى أن تذكَّرت أن إحدى الصحف اليومية الكبرى تحتفظ بأرشيف ضخم يضم معلومات تفصيليةً عن أهم الشخصيات العربية، يُعتبر من مفاخر مؤسِّسيها. وكان الهمس قد تردَّد في وقت من الأوقات، أن اللجنة حصلت منهم على صورة من هذا الأرشيف، وأنها تعتمد عليه في عملها إلى درجة كبيرة. وقدَّرت أن ما يضمه هذا الأرشيف من معلومات عن «الدكتور» سيكون ذا عون كبير لي.
على أن الاطلاع على هذا الأرشيف لم يكُن متاحًا لكل من هب ودبَّ من الناس. وتطلَّب الأمر بحثًا شاقًّا حتى اهتديت إلى مَن أوصى بي الموظَّف المسئول عنه، وسرعان ما كان الملف الموعود في متناول يدي.
لم يكُن بالضخامة التي توقعتها. وكان يحمل فوق غلافه شعار الدار، واسم «الدكتور» الكامل مكتوبًا بخط مزخرف في عناية.
فتحت الملف بأصابع مرتعشة من الانفعال، فطالعتني ورقة بيضاء في أعلاها تاريخ يعود إلى بداية الخمسينيات، ولا شيء عدا ذلك. وقلبت الورقة فرأيت الورقة التالية مثلها.
تصفَّحت أوراق الملف بسرعة فرأيتها كلها متشابهةً في خلوها من كل شيء عدا التاريخ. وما لبثت أن تبيَّنت في صدر كل ورقة أثر الصمغ الذي كان يُلصق به المقتطفات المنتزعة من الصحف والمجلات.
أبدى المسئول دهشته عندما عرضت عليه الملف، لكنه لم يكُن يملك شيئًا لي. وأوشكت أن أنصرف عندما خطر لي أن أسجِّل التواريخ المذكورة على رأس كل ورقة، ثم أرجع إلى الصحف والمجلات التي صدرت فيها، وبذلك أتوصَّل بمجهود بسيط إلى محتويات الملف.
هكذا فعلت، ثم انتقلت على الفور إلى قاعة مجاورة، حيث شرحت للموظَّف المشكلة، فأحضر لي المجلدات التي تتفق وأول التواريخ لدي. وإذا بي أُفاجأ بخلوها من أي شيء عن «الدكتور». وعندما دقَّقت البحث اكتشفت أن بالأعداد المقصودة فقرات قصيرةً منزوعةً بعنايةً بواسطة مُوسَى. ولاحظت أن بعضها في الصفحات المخصَّصة لأنباء الجرائم وأخبار السينما والتليفزيون.
انتابني الشك في أمر الفقرات المقتطعة، فقرَّرت أن أواصل البحث لأقطع الشك باليقين. وعندما عدت في اليوم التالي لهذا الغرض، فوجئت بصدور تعليمات تحظر استخدام المكتبة على غير العاملين بالصحيفة.
وتكرَّر الأمر معي بحذافيره في دُور الصحف الأخرى، بدءًا من الموسَى الخفي، إلى الأوامر التي تَحُول بيني والتردُّد على مكتباتها.
لجأت إلى دار الكتب، فقدَّمت إلى المختصين قائمةً بالأعداد التي أُريد الاطلاع عليها من الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية. وبعد عدة ساعات من الانتظار، أُبلغت بأن الأعداد التي طلبتها غير متوفِّرة في الوقت الحالي بسبب وجودها في قسم التجليد.
لم يعُد لديَّ شك في الأمر، فأعملتُ فكري إلى أن توصَّلت إلى حيلة ماكرة؛ فقد مضيت إلى مكاتب إحدى المجلات النسائية الأسبوعية، وطلبت الاطلاع على الأعداد الصادرة بعد أسبوع أو أسبوعَين من كل تاريخ لدي. وعندما سألني الموظَّف عن بُغيتي احتطت للأمر، فقلت إني أُعد بحثًا عن أشهر الجرائم في التاريخ العربي المعاصر؛ فقد كان من عادة هذه المجلة أن تغطِّي أهم أحداث الأسبوع، كما أنها أفردت ركنًا خاصًّا في كل عدد لأخبار الجرائم، وآخر لأخبار الفن.
عكفت على العمل بحماس أوقدته — في الغالب — الظواهر الغامضة التي صادفتني. وحالفني الحظ فعثرت في أحد الأعداد الصادرة حوالي أول تاريخ لدي، على صورة ﻟ «لدكتور» في شبابه، بصفته وجهًا جديدًا في ميدان الإنتاج السينمائي، وذلك بمناسبة نجاح فيلم كوميدي شارك في إنتاجه.
وبعد عدة أشهر من التاريخ الثاني لديَّ عثرت على مقال يسرد وقائع جريمة غريبة، اعتدى فيها أحد الشبان على «شخصية فنية معروفة»، وصفَتها المجلة بأنها «ذات تاريخ وطني حافل».
فهمت من ثنايا المقال أن هذه «الشخصية» كانت على علاقة بأخت المعتدِي. وذات يوم وُجدت الفتاة ميتةً في ظروف غامضة، فاتهمه أخوها بأنه السبب في وفاتها. ولم يعبأ أحد بهذا الاتهام؛ فما كان من الأخ إلا أن أطلق عليه الرصاص، فأحدث به إصابةً طفيفة.
وأغرب ما في الأمر أن المجني عليه اتَّهم الجاني في التحقيق بأنه عضو في منظمة يسارية، ثم تصالح معه وألحقه بوظيفة في الشركة التي يُديرها.
حدَّثني قلبي بالاسم الحقيقي لهذه الشخصية الفنية. وتأكَّد حَدْسي عندما عرضت المجلة لتاريخ صاحبها وذكرَت أنه كان قبل الثورة عضوًا في إحدى الجمعيات الوطنية المتطرِّفة التي قامت بدور بارز في الكفاح ضد الاستعمار الإنجليزي (فهي إحدى الحقائق المعروفة عن حياة «الدكتور»)، وأنه ترك دراسته عام ١٩٤٧م وسارع إلى فلسطين على رأس كتيبة من زملائه المتحمِّسين حيث اشترك في الحرب ضد العصابات الصهيونية التي كانت تقاتل باستماتة لإنشاء دولة إسرائيل. وفي أعقاب الثورة استكمل دراسته واتجه إلى ميدان الإنتاج السينمائي.
سَعِدت بهذا الاكتشاف، وواصلت العمل بنفس الأسلوب؛ فأمكنني أن أجمع بعض المعلومات القيمة، وإن استغرق مني ذلك وقتًا ليس بالقصير.
فقد عرفت أنه شارك في تكوين شركة لإنتاج المياه الغازية عشية العدوان الإنجليزي-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر، وأنه كان أحد الذين تقدَّموا لشراء الشركات الأجنبية بعد تمصيرها في أعقاب ذلك العدوان.
وعثرت على نص كلمة ألقاها في مؤتمر اقتصادي عُقد بدمشق غداة الوحدة المصرية-السورية، وصف فيها الوحدة العربية بأنها الرسالة الخالدة لكل عربي في هذا القرن، وهاجم الشيوعيين مُتَّهِمًا إياهم بالخيانة؛ لأنهم سبق أن وافقوا على التقسيم الصادر عام ١٩٤٨م، والذي كان يسمح بقيام دولتَين في فلسطين، واحدة للعرب وأخرى لليهود.
ووجدت بعض الأنباء المتفرِّقة قليلة الأهمية عنه في تلك الفترة. ثم خدمني الحظ الذي لا يعطي هباته إلا لمن يعمل بدأب؛ فعثرت بالصدفة على خبر صغير في باب الأخبار الاجتماعية يُشير إلى محاضرة ألقاها في أحد الأندية النسائية بالجزائر عن «المفهوم العربي للاشتراكية». وفي هذا الخبر وجدت اسمه، لأول مرة، مسبوقًا بلقب «الدكتور». وبعد ذلك بشهور وقعت على إعلان كبير في صفحة كاملة يتضمَّن تهنئةً من إحدى شركات المقاولات التابعة للقطاع العام لرئيس الدولة على ما حقَّقه من انتصارات، وأسفل الإعلان قرأت اسم «الدكتور» بصفته رئيسًا للشركة.
انقطعت أخباره بعد ذلك فترةً طويلة إلى أن عثرت بأحد الأعداد الصادرة في صيف عام ١٩٦٧م على إشارة إلى سلسلة من المقالات نشرتها له إحدى الصحف اليومية، يحلِّل فيها أسباب الهزيمة، ناسبًا إلى الاتحاد السوفيتي المسئولية الأساسية عنها.
ويبدو أنه تزوَّج في هذه الفترة للمرة الثالثة من ابنة أحد ملوك البترول العرب، المعروفة بنزواتها وشطحاتها الغريبة؛ إذ إن أنباءها سرعان ما طغت على أنبائه هو، وهو أمر طبيعي بحكم تخصُّص المجلة. ولم أجِد في أعداد السنوات التالية سوى إشارات مقتضبة إلى أعماله الواسعة، والمشروعات الضخمة التي يتعهَّدها بمختلِف أرجاء المنطقة، وخاصةً بعد حرب أكتوبر، ويقوم فيها بدور همزة الوصل بين الممولين الأجانب، والمستهلكين المحليين.
شعرت أن المجلة النسائية قد أدَّت دورها بالكامل، وأن الوقت قد حان للبحث في اتجاه آخر، فشكرت مدير المكتبة على ما قدَّمه لي من مساعدة، وعرَّفني الرجل بنفسه.
استولت عليَّ الدهشة لأنه كان اسمًا معروفًا بين كُتَّاب الصحف في أحد الأيام فغمغمت: «لكن كيف؟»
ردَّ على سؤالي المبتسر قائلًا: «اسأل من كنتَ تُفتِّش عن أخباره!»
انزعجت للغاية وسارعت أقول: «من تقصد؟»
ابتسم وقال: «لا تخَف، فلن أذكر شيئًا لأحد على الإطلاق.»
قلت: «لست خائفًا؛ فهناك جهات ذات نفوذ — لست في حِل من ذكرها — تدعمني.»
اتسعت ابتسامته وقال: «لن ألومك إذا خفت.»
سألته: «كيف عرفت؟»
أجاب: «منك؛ فعندما تجلس مكاني هذا عدة سنوات، يمكنك من النظرة الأولى أن تفهم هُوية الأشخاص الذين يتردَّدون على المكتبة لينقِّبوا بين صفحات الأعداد القديمة. وعندما لاحظت أنك تختلف عنهم، ثار فضولي، ولم يكن من الصعب أن أتتبَّع الصفحات التي تتوقَّف عندها، وأن أستنتج اهتمامك به.»
عدت أسأله: «وما الذي جعله مسئولًا عن انزوائك في هذا المكان؟»
قال: «مقال نشرته.»
تطلَّعت إليه متسائلًا فأضاف: «يمكنك أن ترجع إليه بسهولة.»
رويت له ما صادفني من صعوبات في البحث عن أخبار «الدكتور» بالصحف اليومية، فقاطعني قائلًا: «ستجد مقالي بالتأكيد لأن الصحيفة التي نشرته لا يهتم بها أحد، ثم إني لم أذكره بالاسم.»
أعطاني تاريخَ نشر المقال وتمنَّى لي التوفيق، فذهبت من فوري إلى دار الصحيفة التي نشرته، وهي يومية مسائية محدودة الانتشار؛ ولهذا السبب لم يتجه إليها اهتمامي في بادئ الأمر.
«من يخلع الأشجار؟»
وتحت هذا العنوان عرض الكاتب لظاهرة اختفاء الأشجار من شوارع القاهرة وحدائقها القليلة المتبقية، وقال إن الصورة المنظَّمة التي تتم بها عملية الاقتلاع توحي بأن ثمة أشخاصًا ذوي نفوذ خلفها. وتساءل عمَّا إذا كانت هنالك علاقة بين هذه الظاهرة وبين الأزمة المفتعلة في سوق الأخشاب، والتي رفعت أسعارها وأوجدت لها سوقًا سوداء.
نقلتُ محتويات المقال في كُرَّاسي، ثم خطَر لي أن أنتهز الفرصة لأواصل البحث في اتجاه جديد، فعكفت على مجلدات الصحيفة أُراجعها بسرعة في أماكن محدَّدة هي الإعلانات الاجتماعية والتجارية وأخبار الوفَيَات، حوالي نفس التواريخ التي استرشدت بها من قبل.
لم أكُن أتوقَّع كمَّ المعلومات التي عثرت عليها عن هذا الطريق؛ فمثلًا من خلال سلسلة من برقيات الشكر الموجَّهة منه إلى رئيس الدولة، والتهاني الموجَّهة إليه من عدد من الشخصيات الهامة، علمت أنه نجح في الانتخابات العامة وصار عضوًا في المجلس النيابي.
ومن نعي طويل لإحدى السيدات التي تَمُتُّ إليه بصلة القرابة، تبيَّنت الشبكة الواسعة من العلاقات التي تربطه بأشهر العائلات وأغناها، وبشخصيات تحتل أرفع المناصب في القضاء والشرطة والجيش والإدارة وعالم المال والأعمال.
وقادتني الإعلانات — تلك الوسيلة الناجحة للتواصل بين أبناء العصر — إلى اكتشافٍ آخر مثير.
فقد لفت نظري سلسلة منها ظهرت بكثرة في السنوات الأخيرة على الصفحة الأولى من الجريدة عن العطور الفرنسية والسجائر الأمريكية والأجهزة الصوتية اليابانية، وكانت مجرَّدةً من اسم المُعْلن، بينما جرت العادة في أمثال هذه الإعلانات على أن يُذكر اسم المستورد أو العميل — بلغة اللجنة — أي الوكيل المحلي.
وكان من شأن العمل المتواصل الذي قمت به في الآونة الأخيرة أن نشط ذهني، وأخذت أميل إلى التغلغل في أعماق الأمور التي تعرض لي، وأُحاول استنتاج ما قد يكون خلفها من دوافع، وما قد يربط بينها من علاقات. هكذا ثار فضولي، فمضيت إلى إدارة الإعلانات بالجريدة، وزعمت أني مراسل لإحدى المجلات الاقتصادية الأجنبية، وأني أُعد تحقيقًا واسعًا عن الدعاية التي تنشرها وسائل الإعلام العربية للسلع الأجنبية.
شُغل المسئولون في الإدارة بالترحيب بي عن التأكُّد من مزاعمي، خاصةً بعد أن أبديت إعجابي بالشعارات الناجحة التي ترفعها إعلانات العطور والسجائر، وتُردِّدها الجماهير في سلاسة تامة. واستطعت أن أكسب ودَّهم عندما مازحتهم متسائلًا عمَّن لم يذهب بعدُ منهم إلى الفلتر. وبذلك أصبح من السهل عليَّ أن أحصل على ما أشاء من معلومات.
لم أُدهش عندما علمت منهم أن الجهة المحلية التي تستورد السلع المذكورة هي مؤسَّسة يُديرها الابن الأكبر ﻟ «الدكتور» من زوجته الأولى؛ فقد توقَّعت شيئًا من هذا القبيل، لكني فوجئت حقيقة، حتى كدت أنفجر ضاحكًا، عندما أرَوني تصميمًا لإعلان صادر عن نفس المؤسَّسة، يعكفون على إعداده ليظهر قريبًا على الصفحات الأخيرة بكاملها من كافة الصحف القومية.
فلم يكُن هذا الإعلان يبشِّر المصريين بأكثر من عودة الكوكا-كولا الأصلية إليهم.