الفصل الرابع
جلست على حافة الفراش، وأشعلت سيجارةً بأصابع مرتعشة وأنا أحاول استيعاب التطوُّرات الأخيرة المتلاحقة. وأردت، قبل كل شيء، أن أفهم الوضع الجديد، فقلت للقصير الذي لم يُغادر مكانه خلف مكتبي: «إني أرحِّب بك في مسكني، أنت وبقية أعضاء اللجنة الموقَّرة، لكن ثمة ما أُريد أن أستوضحه، وأعني أن الوصول إلى قرار في هذا الأمر قد يستغرق بعض الوقت.»
أجاب: «خُذ من الوقت ما تشاء، لكن المهم أن تصل في النهاية إلى قرار.»
قلت في رِقة بالغة: «ربما تطلَّب ذلك عدة أيام.»
قال بحسم: «يجب أن تفهم جيدًا أني باقٍ هنا إلى أن تحزم أمرك، ولو بعد عام. والأفضل لك — بالطبع — أن تتمكَّن من ذلك في أقرب وقت.»
ران علينا الصمت بضع لحظات، تمعَّنت خلالها في كلماته وما تحمل من مدلولات، إلى أن استأنف الحديث: «ليس من حقي أن أتدخَّل في شأن قرارك، إلا أني على استعداد لمساعدتك بصفة شخصية.»
قلت: «أشكرك على هذه الروح، وما دمت تتحدَّث عن المساعدة، فماذا تقترح عليَّ؟»
قال: «لقد عرضنا عليك استبدال شخصية «الدكتور» بغيرها، لكن اللجنة لن تعارض في أية بدائل أخرى، فلعلك تجد صيغةً ملائمةً تسمح لك بمواصلة العمل في نفس الموضوع.»
لاحَ لي بصيص من الأمل، فهتفت: «ليس عندي مانع، فكيف أفعل إذن؟»
أجابني في لهجة اشتممت منها شيئًا من التشَفي: «هذا شأنك. فكِّر.»
لكني عجزت عن التفكير رغم ما بذلت من مجهود. واشتدَّ إحساسي بجفاف حلقي، فبلعت ريقي عدة مرات، وأخيرًا عرضت عليه أن نشرب شايًا.
قال في شيء من السخرية: «إذا كان الشاي سيساعدك على التفكير؛ فلا مانع لدي.»
نهضت واقفًا وغادرت الحجرة، فترك مقعده وتَبِعني. اجتزت الردهة وهو ورائي إلى أن بلغت المطبخ، ووقف في مدخله يرقبني وأنا أملأ الغلاية من الصنبور، وأضعها فوق موقد الغاز ثم أُشعله.
ولم أُدرِك الموقف تمامًا إلا عندما أردت التبوُّل، فغادرت المطبخ وعُدت أدراجي في الردهة نحو الغرفة الداخلية التي يقع الحمَّام إلى جوارها، فما إن دخلت الحمَّام واستدرت أُغلق الباب حتى وجدته قد لحق بي، ودفع الباب جانبًا ليَحول دون إغلاقه، ثم وقف في مدخل الحمَّام، قريبًا مني، إلى أن فرغت من أمري.
قلت وأنا أتقدَّم من الحوض وأفتح الصنبور: «أتظن أني سأهرب منك؟»
أجاب بقحة: «لا شأن لك بما أظنه.»
غسلت يدَي ووجهي، ثم جفَّفتهما، وعُدت إلى المطبخ وهو في أعقابي.
صنعت الشاي وصببته، ثم ناولته كوبه، وحملت كوبي، وتقدَّمته من تلقاء نفسي إلى الغرفة الداخلية.
رأيته يتجه إلى مكتبي، فاستوقفته قائلًا: «أريد أن أطلب منك معروفًا.»
قال بحذر: «ما هو؟»
قلت: «أن تجلس في هذا المقعد وتترك لي مكاني عند المكتب.»
تأمَّلني لحظة، ثم طاف بعينَيه في أرجاء الغرفة، إلى أن استقرَّتا على المقعد ذي المسندَين، فتفحَّصه بإمعان، كأنما يبحث عن سر خَفِي لطلبي، أو خازوق ما، وأخيرًا هزَّ كتفَيه وقال: «لا بأس.»
احتللت مكاني المفضَّل عند المكتب، فأصبح الجدار — وهو الجدار الأخير للمسكن كله — من خلفي، والباب من أمامي. ولم أكُن أشعر — عادة — بالطمأنينة إلا في هذا الوضع.
ولمَّا كان المقعد ذو المسندَين بجوار الباب، بينه وبين الفراش؛ فقد صار القصير في مواجهتي مباشرة، وهو ما جعلني أندم في الحال على السعي وراء طمأنينة واهمة.
قدَّمت إليه سيجارةً فقال إنه لا يدخِّن حفاظًا على صحته. وأسرعت بإشعال سيجارتي، وقد خفت أن يفرض عليَّ مراعاة موقفه من التدخين، لكنه انشغل عني بتأمُّل لوحة المرأة العارية المعلَّقة فوق رأسي.
قلت معقِّبًا على اهتمامه: «إنها لمحمود سعيد كما لعلك حزرت. ولا يقتصر جمالها على روعة الألوان وإحكام التكوين؛ فلعلك لاحظت الغموض الذي يتجلَّى في نظرة العينَين ووضع اليدَين. وفي رأيي أنها تحمل قدرًا منه يماثل ذلك الذي تحمله لوحة الموناليزا الشهيرة.»
ظهرت على وجهه لأول مرة ابتسامة ملتوية، وفوجئت به يغمز لي بإحدى عينَيه قائلًا: «هل لديك صور أخرى من هذا النوع؟»
أجبت: «فهمت ما تقصده. للأسف إني لست من المغرمين بالصور العارية، وإنما أفضِّل الكتب الإباحية، ولديَّ مجموعة من هذه الكتب إذا أحببت أن تلقي عليها نظرة.»
قال: «فيما بعد؛ فأمامنا وقت كافٍ فيما يبدو، إلا أني لا أفهم وجه اعتراضك على الصور العارية.»
قلت: «لأنها لا تقدِّم إلا لحظةً ثابتة، لا تكشف عن أية أعماق. أمَّا الكتاب فيُلقي شيئًا من الضوء على السلوك الإنساني؛ فمهما بلغ الكاتب من تبذُّل وسوقية وإغراق في الخيال، فإنه مضطر لأن ينهل من تجاربه الواقعية، وهو سيكشف — شاء أم لم يشأ — عن جانب من اللاوعي الإنساني بحكم كشفه عن لا وعيه هو. والنتيجة في النهاية يمكن أن تكون مصدر معرفة، بقدر ما هي، بالتأكيد، مبعث متعة.»
لم تبدُ عليه الرغبة في متابعة الجدل؛ إذ تشاغل بارتشاف الشاي في صوت مزعج، وهو ينقُل البصر بين الكتب والأسطوانات الموسيقية التي ملأت عدة رفوف معلَّقة خلفي، ووجدت في ذلك فرصةً لمحاولة ترتيب الأفكار التي كانت تصطخب في رأسي.
هالني أن أبدأ البحث من جديد، بفرض أني وجدت الشخصية التي يمكن أن تحل محل «الدكتور»؛ أي تتوفَّر فيها الخصائص التي جعلت منه ألمع شخصية عربية معاصرة، وتستحوذ في الوقت نفسه على جُلِّ اهتمامي، وشغفي.
وما أدراني أنهم — بفرض أني عثرت على شخصية أخرى — لن يزوروني بعد عدة أشهر ليطلبوا مني استبدالها من جديد؟
عجبت لتمسُّكي بالدكتور، كأنما سحرتني شخصيته، أو صار وجودي مرتبطًا بوجوده. وإذ أوليت الأمر الآن كل تفكيري، رأيت أنني — من خلال الظواهر الغامضة التي صادفتني أثناء البحث في أمره، والمعلومات الغريبة التي جمعتها وسهَّلت لي إدراك أشياء كثيرة أعياني فهمها من قبل — قد وجدت أخيرًا معنًى للحياة لست مستعدًّا لأن أفقده؛ كي لا أعود إلى ذلك الخواء المؤلم الذي كنت أعيش فيه. وهل يتخلَّى الغريق عن قطعة الخشب التي يمكن أن تؤدِّي به إلى النجاة؟
لم يعُد أمامي إذن سوى أن أقصر تفكيري على السبيل الذي ألمح إليه ضيفي منذ قليل.
على أنه كان ثمة مغزًى لاقتراحه، وللتطوُّرات الأخيرة برمتها لم يفُتني إدراكه؛ فحرية الحركة والمناورة التي أُتيحت لي حتى الآن، ومكَّنتني من الإفلات من الشباك المنصوبة، قد تقلَّصت للغاية حتى أوشكت أن تنعدم تمامًا.
وضايقتني هذه الفكرة للغاية، حتى إني عجزت عن مواصلة التفكير، فقرَّرت أن أؤجِّل الأمر إلى الصباح؛ إذ ما زالت عادتي أن ألتمس في النوم مهربًا.
قلت للقصير بعد قليل: «الوقت تأخَّر، ولعلك تود أن تأكل شيئًا.»
قال: «كلا؛ فقد تناولت عشائي قبل مجيئي. يمكن أن تأكل أنت إذا شئت.»
قلت: «صُدَّت نفسي؛ فقد استولى عليَّ التعب، وأريد الآن أن أنام، فأين تود أن أُعِد لك فِراشك؟»
سألني بدوره وهو يُشير إلى الفِراش: «أليس هذا سريرك؟»
أجبت: «أجل. بوسعي أن أُعدَّ لك فِراشًا آخر في الصالة، أو تنام أنت هنا، وأنام أنا في الصالة.»
قال في حسم: «لا هذا ولا ذاك، سأنام بجوارك على هذا السرير.»
انزعجت للغاية من قوله؛ فلم أكُن قد نسيت بعدُ ما جرى لي في المقابلة الأولى مع اللجنة. وتأمَّلته فوجدته قويًّا مدكوكًا رغم كهولته، لا قِبَل لي بمقاومته، أو الاشتباك معه.
واكتشفت أنه أحضر معه حقيبة «سامسونايت»، فتحها الآن وأخرج منها حافظةً جلديةً لأدوات الزينة، ومنشفةً وخفًّا من القماش. وحرص أثناء ذلك على ألَّا يمكِّنني من رؤية محتويات الحقيبة إلى أن أغلقها. وانتظر حتى رآني أتقدَّم إلى الحمَّام فألقى بمنشفته على كتفه وتبعني.
باشرت بغسل أسناني، بينما أخرجَ هو من حافظته الجلدية فرشاةً للأسنان، ومعجونًا أجنبيًّا، وصابونةً فرنسيةً معطَّرة. وانتهيت من الاغتسال بسرعة، فتركت له الحوض، وانتهزت الفرصة لأتبوَّل وأملأ الأواني البلاستيكية من صنبور حوض الحمام. فلأن المياه لا تصل إلى الطابقَين الأخيرَين إلا ليلًا؛ يتعيَّن عليَّ أن أجمع منها، كل ليلة، ما يكفي للنهار التالي.
وقد شرحت هذا كله للقصير عندما سألني عن حكمة ما أفعل. وأبقيته واقفًا في مدخل الحمَّام ريثما ملأت عدة أوعية، فلاحظ أن مياه الحنفية لا يلبث لونها في الوعاء أن يتحوَّل إلى صُفرة داكنة، ثم يميل إلى السواد. وكان هذا أمرًا عاديًّا في نظري، إلا أنه أعرب عن دهشته قائلًا إنه لم يسبق له أن رأى مياه الحنفية بهذا اللون.
قلت: «لا بد أنك تستخدم جهازًا للتقطير.»
قال مستغربًا: «أجل. كيف عرفت؟»
ابتسمت وأنا أُغلق الحنفية بعد امتلاء الوعاء الأخير، ثم أجبته: «لقد عرفت أشياء كثيرةً في الآونة الأخيرة.»
مضيت إلى المطبخ وهو خلفي، فملأت عدة زجاجات وأواني بالمياه من أجل الشرب والطهي. وأحكمت إغلاق صنبور أنبوبة الغاز. وأوشكت أن أقوم بجولتي المعهودة قبل النوم، التي أُغلق فيها النوافذ، وأُحكم رتاج الباب الخارجي، لكني تداركت نفسي عندما تبيَّنت أنه ليس ثمة ما أخشاه — هذه الليلة على الأقل — من الخارج.
عدنا أخيرًا إلى الغرفة الداخلية، فأخرج من حقيبته منامةً حريريةً مزركشة. واقترحت عليه أن يستبدل ملابسه في الحمام، أو أغادر الغرفة حتى يفعل. ومن الطبيعي أنه ما كان ليوافق، أمَّا أنا فلم أعبأ بالأمر؛ لأني لا أجد غضاضةً في أن أتعرَّى أمام رجل مثلي، فما بالك إذا كان هذا الرجل على معرفة سابقة بأكثر أجزاء جسمي حميمية؟!
لكني لم أكَد أخلع ملابسي الخارجية وأقف أمامه بالقميص والسروال الداخليَّين، حتى شعرت بالحرج عندما تطلَّع إليَّ. ولم أملك أن اختلست النظر إلى فخذَيه العاريَين، فهالني امتلاء ما بينهما، وقدَّرت أنه إمَّا أن يكون مُصابًا بفتق قديم، تدلَّت معه أمعاؤه في الخصية، أو أنه قد حوبي، عند خلقه، بشيء من السخاء غير المألوف.
أردت أن أثير موضوع الرقاد من جديد، فقلت في انفعال مفاجئ: «ربما تحب أن تقرأ قبل النوم؛ وفي هذه الحالة لا بد أن ينام كلٌّ منا في حجرة لأن النور يزعجني، وأريد أن أنام على الفور.»
قال بهدوء: «لا تقلق. لن أقرأ شيئًا؛ فأنا أيضًا أريد أن أنام الآن.»
تقدَّمت من الفراش بخطًى متثاقلة، وسمعته يطلب مني بنفس الصوت الهادئ أن أسبقه داخل الفراش كي يرقد هو على طرفه الخارجي، فانصعت لرغبته، واستلقيت على ظهري إلى جوار الحائط. وما لبث أن انضمَّ إليَّ بعد أن أطفأ النور.
وغني عن القول أن النوم لم يجد إلى جفوني سبيلًا؛ فرغم حاجتي الشديدة إليه في نهاية يوم مرهق، وأساسًا كي أنهض منتعشًا في الصباح، قادرًا على تدبُّر المعضلة التي تواجهني، فإن جهلي بمدى ما يمكن أن يذهب إليه جاري في الفِراش، نبَّه كل حواسي، وبالأخص أذني.
وفي البداية غطَّى وقع الدقات السريعة لقلبي على أصوات الليل المعهودة. وعندما هدأت قليلًا تبيَّنَت حشرجة المواسير، وصياح جاري في أطفاله، وصرير إناء يوضع تحت الحنفية في المسكن الذي تحتي، ونباح الكلاب في شوارع الحي.
والغريب أن هذه الأصوات التي طالما أثارت حنقي، وحرمتني من النوم، غدت الليلة مصدر طمأنينة، وخفَّفت من توتُّر أعصابي.
إلا أني لم ألبث أن انتفضت عندما دوَّت طلقات الرصاص في سكون الليل معلنةً بدء الحملة على الكلاب.
وكنت أعرف أغلب هذه الكلاب، وأرى أجسادها الهزيلة بالنهار، في شوارع الحي وعند أقمام الزبالة. كانت جبانة، لا تملك القوة على إيذاء أحد، وكل ما تملكه هو عقيرتها التي ترفعها بدون مناسبة، وخاصةً بعد أن يهجع الناس.
ويبدو أن هذا النباح الذي تتضخم أبعاده في هدأة الليل، قد آذى مسامع أحد الشخصيات اللامعة من سكان الحي، فاستأجر من يتصيَّدها. وأصبح النباح يختلط في أغلب الليالي بطلقات الرصاص، ثم يتباعد تدريجيًّا إلى أن يتلاشى.
وفي اليوم التالي أو الذي بعده، يعود النباح إلى سابق عهده، كأن شيئًا لم يكُن، فتدوي طلقات الرصاص من جديد.
لم يأبه جاري لطلقات الرصاص، وظلَّ راقدًا على ظهره في سكون. وحبست أنفاسي عندما تحرَّك فجأة، وانقلب على جانبه الأيسر، بحيث صار وجهه ناحيتي.
أتتني رائحته المعطَّرة فملأتني بالتقزُّز. وخُيل إليَّ من انتظام تنفُّسه بعد قليل أنه استغرق في النوم، فاستدرت على جانبي الأيمن بحيث واجهته. وتطلَّعت إلى وجهه في الظلام.
كانت عيناي قد ألِفَتا غياب الضوء، فأمكنني أن أتبيَّن موقع عينَيه، وفوجئت بهما مفتوحتان، ترمقاني في انتباه.
أغلقت عينَي على الفور وتظاهرت بالنوم وأنا أُراقبه من تحت أجفان نصف مغلقة.
بدرَت حركة من يده، فحبست أنفاسي في هلع وقد تبادر إلى ذهني أنه سيلمسني، لكنه لم يفعل. وتردَّدت أنفاسه في انتظام. وخُيَّل إليَّ أنه أغلق عينَيه، لكني لم أستسلم للأوهام؛ فربما كان يفعل مثلي ويرقبني من بين جفونه.
تعذر عليَّ النوم، خاصةً بعد أن فرضت مشكلتي نفسها على فكري. وعندما حاولت الهرب منها بالتفكير في شيء غيرها؛ فتحت بابًا طالما جاهدت في إغلاقه، وكأنما كانت الصور والذكريات تنتظر خارجه، فسرعان ما تدافعت داخل رأسي. ولم تلبث أن تراءت لي بجلاء نقاط ضعفي وسوءاتي. وتضخَّم إحساسي بتفاهة شأني، وباللحظات التي سمحتُ لنفسي فيها أن أكون أضحوكةً للآخرين، وألعوبةً في أيديهم، وبالطرقات الجانبية التي لم أمنع نفسي من الانقياد إليها، وبالمُتع الصغيرة التي استسلمت لها، وتركتها تتحكَّم فيَّ.
وما عتمت هذه الأمور ذاتها أن بدت محل شك؛ إذ جرفتني موجة مألوفة منه، ألقت ظلالها على مناحي حياتي وأهدافها. ولم تسلم من ذلك المتع الجنسية التي تحتل مكانًا بارزًا من وجداني؛ فعندما استدعيت — في محاولة مستميتة للخلاص — ما يخزِّنه عقلي من صور واقعية ورؤًى خالية، طالما بعثَت الدماء في عروقي؛ ألفيتني غير مبالٍ، عازفًا عن كل وعد بالبهجة.
ويبدو أني غفوت قليلًا قرب الفجر، وأني تقلَّبت بحيث أعطيته ظهري؛ فقد تنبَّهت فجأةً على ارتطام شيء صُلب بفخذي.
اعتدلت فوق ظهري على الفور وتطلَّعت نحوه، فرأيته في ضوء الفجر الخفيف يرمقني بعينَين يقظتَين، لكنه كان بعيدًا عني بمسافة كافية، ممَّا دفعني إلى الظن بأني كنت أحلم، وهو ما يعطيكم صورةً عن الهواجس التي كانت تعتمل في داخلي.
ومن الطبيعي أني لم أتمكَّن من النوم بعد ذلك، وعندما تسلَّلَت أشعة الشمس إلى الحجرة قرَّرت القيام، وسبقني هو فغادرنا الفراش سويًّا. ومضينا إلى الحمَّام، فتبوَّلنا واغتسلنا.
ورأيته يستخرج أدوات الحلاقة من حافظته الجلدية، فقرَّرت أن أحلق بدوري؛ سعيًا وراء شيء من الانتعاش، ولأشغل نفسي حتى ينتهي؛ فقد كنت واثقًا أنه لن يدعني أغادر الحمَّام قبل ذلك.
وقفنا متجاورَين أمام المرآة المعلَّقة فوق الحوض. ورفعت إليها عينَين حمراوَين دامعتَين، فالتقتا باثنتَين تَفيضان حيويةً ونشاطًا، كأنما نعمتا بالنوم طوال الليل. وطالعتني فيهما نظرة ثابتة حِرت في تفسيرها؛ بسبب حوَلهما في الغالب، فاضطربت آلة الحلاقة في يدي؛ ممَّا تمخَّض عن جرح خفيف أسفل ذقني.
وكان ذلك قَمِينًا بأن يرسل القشعريرة في جسدي؛ لأني لم أكن أحتمل مشهد الدماء أو فكرة الألم. لكني رأيتني أتأمَّل جرحي، وخيط الدماء الذي انسال منه، بمشاعر أقرب ما تكون إلى الفضول.
نبَّهني رفيقي من استغراقي في تأمُّل دمائي بأن قدَّم إليَّ من حافظته الجلدية زجاجةً صغيرةً للمياه العطرية؛ كي أعالج بها الجرح. لكني اعتذرت شاكرًا، ووضعت رأسي كله تحت الصنبور، وتركت المياه القليلة التي سالت منه تغسل الجرح وتكتمه.
عدنا إلى الغرفة بعد أن جفَّفت رأسي، وألصقت قطعةً صغيرةً من القطن بمكان الجرح، فاستبدلنا ملابسنا، وبينما اكتفيت بقميص وبنطلون، ارتدى هو ملابسه الكاملة، ولم ينسَ أن يعقد رباط عنقه.
انتقلنا إلى المطبخ، فصنعت الشاي، ولم أجِد في الثلاجة سوى ثلاث بيضات، وضعتها على النار في قليل من المياه، بعد أن استطلعت رغبة ضيفي في هذا الشأن، وأخرجت أيضًا قطعةً من الجبن، وأخرى من الحلاوة الطحينية، وقَدرًا من الزيتون الأسود.
جلسنا أخيرًا، متواجهَين، إلى مائدة الطعام، بعد أن قدَّمت إليه بيضتَين من الثلاث المسلوقة، وخصصت نفسي بالثالثة، ولم يُعلِّق بشيء على هذا التوزيع غير المتكافئ، وإنما أقبل على الطعام في شهية بالغة، بينما أكلت في غير حماس.
فرغنا من الأكل سريعًا، فصببت الشاي، والتقطت الصحف التي ألقى بها البائع — كالعادة — أسفل باب المسكن، فأعطيته واحدة، واحتفظت بأخرى.
وكنت قد درجت في الفترة الأخيرة على الجمع بين أربع عمليات في آنٍ واحد؛ وهي تناول الشاي، وتدخين أول سيجارة، وقراءة صحف اليوم، وقضاء الحاجة. وقد تكوَّنت هذه العادة عندما بدأت بحثي عن «الدكتور»؛ إذ كنت مضطرًّا إلى اختصار الفترة بين نهوضي من النوم، ومغادرتي المنزل؛ لأقضي أكبر وقت ممكن في دُور الصحف والمجلات التي كنت أتردَّد على مكتباتها. إلا أن جذور هذه العادة ترجع إلى شعور داخلي بالمكان الملائم لقراءة صحفنا القومية. وككل عادة، أصبحَت تحتل ركنًا هامًّا من حياتي النفسية اليومية، بحيث إن التخلي عنها، أو عن جانب منها، يُهدِّد اليوم كله، على الفور، بالتلف.
ولم أجِد ما يمنعني من الجري على عادتي في هذا اليوم، خاصةً وأني كنت في أشد الحاجة إلى كل ذرة من قواي الروحية، بالإضافة إلى ما يُتيحه لي ذلك من الانفراد بنفسي بعض الوقت، فوضعت علبتَي السجائر والثقاب في جيبي، والصحيفة تحت إبطي، وحملت كوب الشاي في يدي، ومضيت إلى الحمَّام.
توقعت أن يتبعني كالعادة، وهذا ما فعله، فأسندت كوب الشاي إلى حافة الحوض، وواجهته موضِّحًا ما أنتويه، وما يترتَّب عليه من ضرورة إغلاق الباب.
تطلَّع إليَّ مستهزئًا: «هل نسيتَ أني رأيت مؤخِّرتك العارية في وضع أقل وقارًا من قضاء الحاجة؟!»
قلت: «لم أنسَ، لكن العادة جرت أن ينفرد الإنسان بنفسه في هذه الأمور؛ فهذه لحظة خاصة جدًّا.»
قال بشراسة: «إن من يتصدَّى للأمور العامة يفقد حقه في كل خصوصية.»
أيقنت بعبث المحاولة، فأنزلت بنطلوني، واستويت فوق الحلقة البلاستيكية لمقعد الحمَّام، ووقف هو في فرجة الباب يتأمَّلني.
تناولت كوب الشاي وأخذت منه رشفتَين، ثم وضعته على الأرض بجوار قدمي، وأخرجت سيجارةً فأشعلتها، ثم بسطت الصحيفة وبدأت بالعناوين الرئيسية.
لكن الانسجام الصباحي المألوف لم يتحقَّق؛ فلم أجد مذاقًا للشاي أو السيجارة، ولم أتمكَّن من التركيز في القراءة، والأهم من ذلك كله أن أمعائي لم تتحرَّك.
وما إن يئست من جدوى الاستمرار في مكاني، حتى نهضت واقفًا وأنا أجذب سروالي إلى أعلى بسرعة، وخطوت نحو الغرفة شاعرًا بضيق وإحباط شديدَين. وجلست إلى مكتبي، بينما احتلَّ هو المقعد ذي المسندَين.
أشعلت سيجارةً جديدة، ومددت يدي إلى البطاقات المصفوفة في صندوق الأحذية، وجعلت أُقلِّب بينها وأنا أشعر بعينَي القصير على وجهي.
كان عليَّ أن أجد وسيلةً لمواصلة البحث الذي بدأته، تَرضى عنها اللجنة وتباركها، فهل يتحقَّق ذلك باستبعاد جوانب مُعيَّنة من سيرة «الدكتور»؟ أم بالاقتصار على ناحية بعينها من نواحي شخصيته الغنية؟ وأي ناحية منها؟ أم أن الأمر يتطلَّب التخلي تمامًا عن المنهاج المبتكر الذي عرضته على اللجنة، والأخذ بالمنهج التقليدي الذي يتتبَّع مراحل الحياة؟
وكلما أمعنت التفكير استولى عليَّ القنوط؛ فالمنهج التقليدي حافل بأخطار بالغة، أشرت إليها في حينها، وتجلَّى لي من ناحية أخرى، الترابط بين جوانب كل من سيرته وشخصيته بحيث يصعب تناول أحدها بمعزل عن الأخرى.
فكيف يمكن الحديث عن ثرائه دون الإشارة إلى مصدره. وعندئذٍ لن يكون بوسعي تجاهل الحقائق المتعلِّقة بهذا الشأن، وإلا أكون قد أخللت بالمبدأ الأساسي الذي بلوره بلزاك في عبارته الشهيرة: «خلف كل ثروة كبيرة، جريمة كبيرة.» وأصبحَت من بعده ديدنًا لكافة الباحثين المعاصرين.
ولا يمكنني بالمثل أن أتجاهل ضعة أصله، أو دوره الوطني وعلاقته بالثورة، أو دعوته للوحدة العربية والاشتراكية، ونشاطه الاقتصادي المتشعِّب، أو عمالته للشركات الأجنبية، والجوائز الدولية التي فاز بها في هذا المضمار، ولا طمعه في أموال بترول الخليج، التي تذهب إلى أصحابها الحقيقيِّين في أوروبا والولايات المتحدة عن طريق وسطاء غيره. فماذا يتبقَّى منه لو فعلت؟
خاطبني القصير بغتةً في لهجة ودية، ظاهرها عدم المبالاة: «بالمناسبة، لقد سمعتك أمس تتحدَّث عن اكتشافات هامة توصَّلتَ إليها من خلال دراستك عن «الدكتور». وإن لم تخُني ذاكرتي فإنك قلت إنك قادر على إماطة اللثام عن ألغاز كثيرة، فماذا كنت تعني؟»
شعرت بالخطر؛ فحاولت التهرُّب من الإجابة.
قلت مهوِّنًا: «الواقع أني لم أتوصَّل بعدُ إلى شيء. وما أردت أن أقوله — ولعل التعبير خانني — هو أني مُقبل على فهم العلاقة بين عديد من الظواهر المتفرِّقة.»
قال: «مثل؟»
فكَّرت قليلًا، ثم قلت: «الظواهر كثيرة لا حصر لها، بحيث يصعب انتقاء إحداها. خذ مثلًا انتشار أمراض الاكتئاب النفسي والعنة الجنسية وفتور الهمة، أو التعصُّب الديني، أو انقراض السيجارة المصرية، أو عودة «الكوكاكولا». أينما تطلَّعت ستجد ما تشاء من ظواهر.»
وابتسمت ثم أضفت: «إن «الدكتور» نفسه يمدُّنا بواحدة من أكثر الظواهر إثارةً وغموضًا؛ وأعني بذلك وجود كثيرين على شاكلته في كافة البلاد العربية، رغم اختلاف الأنظمة والشعارات والحكام.»
تجاهل إشارتي إلى «الدكتور» وهزَّ رأسه في ازدراء: «وأين هي العلاقة المزعومة بين هذه الظواهر؟»
أجبت بمكر: «لم أقُل إني تبيَّنتها؛ فأنا ما زلت في بداية البحث.»
قال وهو يضغط على مخارج الحروف: «أرى أنك تجري وراء سراب، وتتصوَّر أمورًا لا وجود لها؛ فكيف يؤدِّي بحث عادي كالذي تتولَّاه إلى كل هذه الأمور؟!»
خبطت بيدي على سطح المكتب وقلت: «هذا ما أردِّده لنفسي طوال الوقت، بلا فائدة .. ما رأيك في فنجان من القهوة؟
بوغت بتغيير مجرى الحديث، لكنه لم يلبث أن قال: «لا مانع.»
ثم تطلَّع إلى ساعته واستدرك: «الأفضل ألَّا أشرب؛ فقد قاربنا موعد الغداء.»
نهضت واقفًا وأنا أقول في حماس: «للأسف فإني لم أكُن أتوقَّع هذه الزيارة؛ ولهذا لم آخذ أُهبتي لها. صحيح أن لديَّ قدرًا كافيًا من الأرز، كما أن الثلاجة — فيما أظن — تحوي نصف دجاجة على الأقل، إلا أنه من الضروري — بالطبع — إعداد أصناف أخرى؛ حساء مثلًا، وصنف من اللحم أو السمك، وآخر من الخضراوات، فضلًا عن الفواكه والحلوى. هكذا ترى أنه من الضروري أن أذهب — أقصد نذهب — إلى السوق.»
قال وهو يتقدَّمني نحو المطبخ: «لا ضرورة لذلك، سنكتفي بما لديك.»
أتيت بحركة من كتفي، كأنما أُخلي نفسي من المسئولية. وأخرجت نصف الدجاجة من الثلاجة فوضعتها في قليل من المياه ليزول تجمُّدها. وأشعلت الموقد أسفل قدر آخر من المياه، ثم نظَّفت الأرز من الشوائب، وأضفت إليه المياه الساخنة بعد أن أخذت منها ما يكفي لإعداد فنجان واحد من القهوة، كنت في أمَسِّ الحاجة إليه.
غسلت الأرز جيدًا في المياه الساخنة، ثم نقلته إلى وعاء آخر، وأضفت إليه السمن والملح، ووضعته فوق النار. وعُدت إلى الثلاجة فأخذت منها بضع حبات من الطماطم والخيار والفلفل الأخضر. وجذبت دُرج أدوات المطبخ الذي يقع أسفل الموقد، بحثًا عن سكين نظيفة؛ فلم أجد به غير سكين اللحم الكبيرة، ذات الشفرة الماضية. أعدت الدُّرج مكانه وتناولت رشفتَين من القهوة. وكان رفيقي قد وقف في مدخل المطبخ، موزِّعًا اهتمامه بين مراقبتي وتأمُّل عناوين الكتب التي تبدأ صفوفها من أمام المطبخ وتمتد حتى الحمام، فطلبت منه أن يصب لي الماء كي أغسل سكينًا صغيرة.
قال وهو يفعل، مومئًا إلى أقرب كوب من الكتب: «أنت إذن من عشاق الروايات البوليسية؟»
قلت: «فعلًا.»
قال: «لكني لا أرى لديك روايةً واحدةً من روايات آجاثا كريستي.»
قلت وأنا أُجفِّف السكين، وأشرع في تقطيع الخضر: «الواقع أني لا أميل إلا إلى صنف مُعيَّن من الروايات البوليسية، وهي تلك التي تقوم على الحركة والفعل. وأكثرها قربًا إليَّ هي التي يقوم فيها البطل بمطاردة المجرمين ورجال العصابات، متحمِّلًا في ذلك كل عَنَت، وفي أغلب الأحيان دفاعًا عن أحد الضعفاء والعاجزين، وفي مواجهة المجتمع وطبقاته السائدة.»
قال ساخرًا: «عندك ميول إنسانية.»
قلت وأنا أرتشف من القهوة: «أبدًا. إن موقفي — في رأي البعض — يعتبر ارتدادًا إلى فترة المراهقة. وفي رأي البعض الآخر مجرَّد دليل على استمرار الطفل في كل إنسان. لكني أعتقد أن الأمر أكبر من ذلك. إن الإقبال على قراءة هذا النوع من الروايات يعكس العجز عن فعل ما هو صائب، ويتفق مع الرغبة الطبيعية المشروعة لدى كل إنسان في أن ينال الشرير عقابه، وأن ينتصر الحق.»
واستطردت بعد لحظة: «ثم إن هذه الروايات لا تتطلَّب مجهودًا ذهنيًّا من القارئ؛ لأنها تقوم على الحركة. وليس معنى هذا أن روايات آجاثا كريستي تتميَّز بمستوًى فكري عالٍ؛ فهي تقوم على ألغاز ساذجة من نسج الخيال، لا يجدر بالمرء أن يبدِّد طاقاته العقلية في متابعتها، بينما يحفل الواقع ذاته بألغاز حقيقية يحتاج الاهتمام بها إلى كل ملكات الإنسان.»
قال بلهجة استفزازية: «عدنا إلى حديث الألغاز الغامضة والظواهر الغريبة. لقد بدأت أشك في سلامة قواك العقلية.»
أدركت أنه يجذبني من قدمي، لكني لم أملك نفسي من الانفعال، فلوَّحت بالسكين في اتجاه الصنبور وأنا أقول: «أنت تسخر مني، لكن ما قولك في المياه السوداء التي تخرج من هذا الصنبور؟ أليست لغزًا حقيقيًّا؟!»
قال بهدوء: «وماذا أيضًا؟»
اندفعت في تهوُّر: «الألغاز كثيرة إن شئت. خذ مثلًا موقف «الدكتور» من مشكلة الحرب والسلم؛ ففي بعض الأحاديث الصحفية القليلة التي أُجريت معه وصف الحرب بأنها السبيل الوحيدة لاستعادة الحقوق المغتصبة، بينما أكَّد في أحاديث أخرى أن السلام هو السبيل الوحيدة لذلك.»
قاطعني متسائلًا: «وما التناقض بين الأمرَين؟»
قلت: «التناقض هو أنه في الحالة الأولى — عندما يتحدَّث عن الحرب — تجده يعمل بنشاط في مشروعات تحتاج، أول ما تحتاج، إلى السلام. وفي الحالة الثانية — عندما يتحدَّث عن السلام — تجده منهمكًا في تأليف جيش من المرتزقة يقدِّمه لمن يدفع الثمن.»
توقفت لأطمئن على الأرز، وأخفض النار من تحته، ثم غسلت نصف الدجاجة وأعددت المقلاة لها.
استطردت: «إليك لغزًا ثالثًا إذا لم يكفِك ما ذكرت؛ إن التعليمات المرفقة بالأدوية الأجنبية المباعة في بلادنا توصي باستخدام جرعات أكبر من تلك التي توصي بها المرضى في بلادها الأصلية. فلماذا؟»
وضعت ملعقتَين من السمن في المقلاة، وألقيت بنصف الدجاجة فيها بعد أن ابتعدت قليلًا إلى الوراء كي لا يصيبني الطشاش الساخن.
قلت وما زلت في أوج حماسي: «بماذا تفسِّر أن الخريطة المعلَّقة في الكنيست الإسرائيلي تقف بحدود إسرائيل المقترحة عند شاطئ النيل الشرقي، بينما يعلم الإسرائيليون أن أجدادهم هم الذين بنَوا الأهرامات، الواقعة على الشاطئ الغربي للنيل؟»
لم يعبأ بمجادلتي، وكان مهتمًّا أكثر بأن يستمع إليَّ، كأنما يتركني أمد الحبل الذي سأشنق به نفسي. وقد تنبَّهت فجأةً إلى ذلك عندما تراءى شيء من الاستمتاع في إحدى عينَيه، فلجأت إلى تغيير موضوع الحديث، منتهزًا فرصة وضع الطعام على المائدة.
قلت وأنا أجلس في مواجهته: «لعلك لاحظت وجود مجموعة من روايات الكاتب البلجيكي جورج سيمنون لديَّ. والواقع أني مغرم به وببطله المفتش ميجريه. ورغم أن رواياته لا تقوم على الحركة، وهي أقرب إلى روايات الألغاز، إلا أنها تتفوَّق على آجاثا كريستي؛ بما تتميَّز به من عمق سيكولوجي وبُعد اجتماعي. وهي تُثبت أن كثيرًا من النزعات المناقضة لسلوك المرء العادي تُختزن في العقل الباطن. وفي لحظة مُعيَّنة من تراكم هذه المخزونات، يحدث شيء مثل القشَّة التي قصَمت ظهر البعير، فيصدر عن المرء فعل مناقض تمامًا لكل ما قام به من قبل، ويصبح الإنسان المسالم الذي لم يرتكب في حياته عملًا واحدًا من أعمال العنف، قادرًا على ارتكاب أبشع جرائم القتل العمد.»
لم يعلِّق بشيء، وانهمك بكليته في الأكل بشهيته المعهودة. وجعلتُ أرقبه في صمت وهو يمسك فخذ الدجاجة بقبضة قوية، ويرفعه إلى فمه بيد ثابتة، ثم ينهش لحمه في استمتاع، ويلوكه بين أسنانه قبل أن يطحنه في تأنٍّ وإحكام، مركِّزًا في الأمر جُل اهتمامه.
وخطر لي أن ما أفتقده في حياتي، هو بالضبط هذه الطريقة في الأكل، النابعة من إقبال على الحياة، وعدم التردُّد في مواجهة أخطارها، والإصرار على قهرها.
فرغنا من الطعام، فرفعت الصِّحاف، وألقيت بها في حوض المطبخ. ثم مضينا إلى الحمَّام، فاغتسلنا. ولجأنا بعد ذلك إلى الحجرة الداخلية، فاستقرَّ كلٌّ منا في مكانه.
أشعلت سيجارة، وما إن أخذت منها نفَسَين حتى استولى عليَّ الخمول المألوف الذي أشعر به عادةً بعد الأكل، وأحسست أن الإجهاد قد بلغ بي مداه، وأني في حاجة مُلِحة إلى إغفاءة قصيرة.
قلت له: «ألَا ترغب في شيء من الراحة؟ أنا أنام عادةً بعض الوقت عقب الغداء.»
أجابني في بطء: «ليس من عادتي أن أنام أثناء النهار. أمَّا أنت فلا أظن أنك تملك إضاعة الوقت في النوم.»
أدركت ما يعنيه، فوجَّهت اهتمامي إلى صندوق البطاقات، وأخذت أقلِّب بينها، دون أن تعي عيناي الملتهبتان شيئًا ممَّا سُطِّر فوقها.
أمَّا هو فقد استرخى في مقعده باطمئنان، وثبَّت عينَيه على السقف، في نقطة فوق رأسي، ثم استغرق في أفكاره تمامًا، فبدا كأنما استحال تمثالًا.
شعرت بثقل رأسي، فأملته قليلًا إلى الأمام، وكان الإغراء لا يقاوم، فأغمضت عينَي، وإذا به يخاطبني فجأةً في لهجة مُلِحة: «هل لك أن ترافقني إلى الخارج لحظة؟»
رأيته قد نهض واقفًا في توتُّر، فغادرت مقعدي مدهوشًا، وقد تسارعَت دقات قلبي، وتبعته إلى الخارج، فولج الحمَّام قائلًا: «أرجوك ألَّا تتحرَّك من هنا حتى أنتهي.»
ترك الباب مفتوحًا بحيث أظل في مجال بصره، واستقرَّ على الحلقة البلاستيكية بعد أن جذب سرواله إلى أسفل. أعطيته ظهري، ووقفت أتأمَّل الكُتب المصفوفة في الممر، وكنت قد اشتريت أغلبها أثناء التحضير لمقابلتي الأولى مع اللجنة، ورتَّبتها حسب موضوعاتها، فخصَّصت جانبًا للدراسات الاقتصادية والسياسية، تضمَّن بعض الأبحاث النادرة عن المصالح الأجنبية في الوطن العربي، ودراسةً متميِّزةً عن العسكرية في بلدان العالم الثالث. وقد احتوت الدراسة الأخيرة على فصل شيِّق عن جذور السادية الواضحة في سلوك قادة هذا العالم، يمكن أن يلقي ضوءًا على تعطُّش الزعماء العرب للدماء.
وأفردت ركنًا لأهم الأعمال الأدبية الجادة على مر الزمن، ضمَّ كثيرًا من الأسماء؛ ابتداءً من شكسبير وبوشكين وسيرفانتيس، حتى جارسيا ماركيز ونجيب محفوظ.
وفي مكان بارز جمعت كلَّ ما يتعلَّق بسير بعض الشخصيات العالمية، التي وضعت بأفكارها وممارساتها وتضحياتها المُثُل العامة للمسعى الإنساني؛ مثل النبي محمد، وأبي ذر الغفاري، وأبي سعيد الجنابي، وابن رشد، والمعرِّي، وكارل ماركس، وفرويد، ولينين، وجمال الدين الأفغاني، وطه حسين، ومدام كوري، وألبرت شفايتزر، وفوتشيك، وهو شي منه، وكاسترو، وجيفارا، ولومومبا، وبن بركة، وبن بلَّا، وفرج الله الحلو، وشهدي عطية، وجمال عبد الناصر.
استغرقت في تأمُّل هذه الأسماء حتى تنبَّهت على صوت معدِني حاد، فالتفتُّ خلفي برغمي لأراه واقفًا في وضع غريب؛ إذ تجمَّع بنطلونه عند قدمَيه، وتعرَّى سائر جسده، بينما انحنى ليلتقط مسدَّسًا ضخمًا أسود اللون استقرَّ على الأرض.
رفع المسدَّس في حركة سريعة وأودعه بين فخذَيه، ثم جذب بنطلونه إلى أعلى وهو يختلس نظرةً في اتجاهي، لكني حوَّلت وجهي عنه في اللحظة المناسبة.
أدركت — وقلبي يخفق بشدة — سر الانبعاج الذي لاحظته من قبلُ بين فخذَيه؛ ومعنى هذا أني لم أكن أحلم عندما تخيَّلت في الفجر اصطدام جسم صلب بفخذي. وأوشكت أن أبتسم عندما رأيت أني — من خوفي — قد عكست الآية الفرويدية المعروفة، التي يُعَد فيها المسدس رمزًا لعضو الذكورة.
وما إن زال أثر الجانب الفَكِه من الأمر حتى عاودني الإحساس بالخطر، ولازمني هذا الإحساس ونحن نعود إلى الحجرة ونأخذ مكانَينا المتواجهَين.
وخطر لي فجأةً ما جعلني أحبس أنفاسي.
ماذا لو رفضت؟
ماذا يحدث لو أعلنت له عدم استعدادي للتخلي عن البحث، أو تعديله، وعزمي على استكماله، والوصول به إلى نهايته الطبيعية مع قَبولي لِمَا سيؤدِّي إليه هذا من ضياع كل فرصي أمام اللجنة؟
ووجدت أن هذا الخاطر أراحني للغاية، كأنما أزاح عن صدري عبئًا ثقيلًا. وتطلَّعت إليه وأنا أتمعَّن الأمر، فخيل إليَّ أنه أدرك اتجاه تفكيري؛ لأنه ابتسم فجأةً ساخرًا.
أثارت هذه الابتسامة قلقي، وجعلَتني أتساءل: أيعقل أن يكون الأمر بهذه البساطة؟ أنت حر توافق أو ترفض. وإذا رفضت قال: «حسنًا، أنت وشأنك، سأتركك الآن، ولا أظن أننا سنلتقي مرةً أخرى. وداعًا.» وعندئذٍ أرافقه إلى الباب الخارجي قائلًا: «صحبتك السلامة.» وتنتهي الحكاية.
إذن ما ضرورة المسدَّس؟
أدركت دقة موقفي — لأول مرة — بجلاء تام. فأشعلت سيجارةً جديدة وأنا أحاول السيطرة على ارتعاش يدي.
أغمضت عينَي، واستعرضت تاريخي. تراءت لي المُثُل التي آمنتُ بها في صباي، ثم أسقطت منها تدريجيًّا ما اتضحَت سذاجته وعدم واقعيته، محتفظًا بأكثرها أهميةً وقيمة، وما يتفق منها مع طبيعتي وإمكانياتي، مستميتًا في عدم التنازل عنها، ممزَّقًا بين الضغوط، مجاهدًا في إعادة تقويمها كل حين، وتطويرها مع التغيُّرات المتلاحقة في عالم اليوم، متجنِّبًا المزالق والمنحنيات قدر الإمكان، متعرِّضًا — في سبيل ذلك — لكثير من الأضرار وما لا يحصى من الأخطار.
وتمثَّلتُ ما آلت إليه حياتي قبل أن أتقدَّم إلى اللجنة، وما لحق بي من مهانة على يدها. ولم أنسَ — من ناحية أخرى — أن البحث الذي كلَّفتني به قد أعطى لحياتي شيئًا من المعنى، بعد طول خواء.
فتحت عينَي، فوجدته ينظر إليَّ.
تضاحكت قائلًا بصوت جاهدت أن أجعله عاديًّا: «ما رأيك في فنجان قهوة؟ إن الخمول يكاد يصرعني.»
قال: «كما تشاء.»
انطلقنا إلى المطبخ، وألقيت نظرةً في الطريق على مرآة صغيرة معلَّقة فوق حائط الممر، فألفيت عينَي في لون الدم.
سألته عندما بلغنا المطبخ: «هل تمانع في أن نشربها تركيةً هذه المرة؟»
لم يُعنَ بالرد وانشغل بتأمُّل محتويات «مكتبة الممر»، كما أُسمِّيها، فاعتبرت موقفه بمثابة القَبول.
أخذت «كنكة» متوسطة الحجم من أحد الرفوف وعُدت أسأله: «كيف تفضِّلها؟»
أجاب: «قليلة السكر.»
وتناول أقرب الكتب إليه، فأخذ يقلِّب صفحاته دون أن يغفل عني.
لم أجد ملعقةً صغيرةً فوق رخامة الحوض، فجذبت دُرج أدوات المطبخ، وعندئذٍ وقعت عيناي على سكين اللحم الكبيرة، ذات الشفرة اللامعة والرأس المدبَّبة.
قفز قلبي بين ضلوعي، فتمالكت نفسي، وتناولت الملعقة التي أريدها، ثم أعدت الدُّرج إلى مكانه.
وضعت السكر والبن في الكنكة، ثم ملأتها بالماء، وقلَّبت الخليط جيدًا، ووضعتها فوق عين الموقد الصغيرة بعد أن أشعلتها.
غسلت الملعقة وجفَّفتها بتأنٍّ، ثم فتحت الدرج، وألقيت بالملعقة إلى جوار السكين، متأمِّلًا حافتها الماضية. وأعدت الدرج إلى مكانه ببطء دون أن أرفع عينَي عن السكين، وحرصت ألَّا أغلقه تمامًا.
وقفت أمام الكنكة حتى بدأَت التيارات تتدافع في جوانبها، وتتجمَّع صاعدةً إلى أن بلغت درجة الغليان، فانفجرت من عقالها، وأوشكت أن تجتاح الحافة، وتسيل من فوقها.
أبعدتها بسرعة عن النار، وأطفأت الموقد، ثم وضعت فنجانَين بالقرب منها.
وكنت أشعر — لأول مرة منذ زمن بعيد — بفيض من القوة والراحة يسري في أطرافي، ويجتاح كل كِياني.