الفصل الخامس
في هذه المرة كانت اللجنة مجتمعةً عندما وصلت في موعدي، وأدخلني الحارس العجوز على الفور.
وجدت أعضاءها — فيما عدا القصير بطبيعة الحال — يجلسون خلف الطاولة التي وُضعت بعرض القاعة، بنفس الترتيب الذي رأيتهم عليه في المرة السابقة، يتوسَّطهم العجوز المتهالك، ضعيف السمع والبصر.
ولفت نظري جو الحِداد المخيِّم الذي تجلَّى في الشارات السوداء المشبوكة في ياقات ستراتهم، وأكاليل الزهور المصفوفة على جانبَي القاعة، تُحيط بكلٍّ منها لفافة من القماش الأسود اللامع، وتعلوها بطاقة عريضة باسم مرسلها، في حروف بارزة.
جعل أعضاء اللجنة يتفرَّسون فيَّ، وهم يُقلِّبون بين أوراق الملفات الموضوعة أمامهم، بينما كنت أُطالع في فضولٍ أسماء المعزِّين، وتبيَّنت في مقدِّمتها الرئيس الأمريكي كارتر، والسيدة الأولى زوجته، ونائبه والتر مونديل، ومستشاره للأمن القومي برجينسكي. كما قرأت أسماء المستشار السابق كيسنجر، وعددًا من الرؤساء السابقين للولايات المتحدة مثل نيكسون وفورد، بالإضافة إلى روكفلر وروتشيلد، ورئيس البنك الدولي ماكنمارا، ومديري البنوك العالمية ورؤساء «الكوكاكولا» وشركات الأسلحة واللبان (العلكة)، والأدوية والسجائر والأجهزة الكهربائية والإلكترونية والبترول، ورؤساء فرنسا وألمانيا الغربية وإنجلترا وبلجيكا وإيطاليا والنمسا، ومرسيدس وبيجو وفيات وبدفورد وبوينج، وإمبراطور اليابان.
ولم أجد صعوبةً في العثور على أسماء رئيس الوزراء الإسرائيلي بيجن، ووزيرَيه دايان ووايزمان، ورؤساء الحكومات العسكرية في تشيلي وتركيا وباكستان وإندونيسيا والفلبين وبوليفيا، ورئيس زائير موبوتو، والملوك والرؤساء العرب، وأفراد أسرة شاه إيران السابق، وماما دوك السيدة الأولى في جزر تاهيتي، ورؤساء الصين الشعبية ورومانيا وكوريا الجنوبية، وقادة الشعب الأسترالي.
وكان ثمة أسماء كثيرة من الشخصيات اللامعة في العالم العربي، من رؤساء للأحزاب القائدة، وكبار المسئولين عن الأمن والإعلام والدفاع والتخطيط والتعمير، وعملاء الشركات الأجنبية، فضلًا عن ألمع «الدكاترة»، وبينهم مواطني المعروف.
وإذ وجَّهت اهتمامي أخيرًا إلى أعضاء اللجنة، شعرت أن تغييرًا ما لم أتبيَّن كنهه قد طرأ عليهم منذ آخر مرة رأيتهم فيها. وتضاعفت حيرتي وأنا أنقُل البصر بينهم، ملتمسًا التفسير لِمَا شعرت به؛ فلم تكُن الجهامة التي تعلو وجوههم بالأمر الجديد عليَّ. وقد عرفت فيهم — رغم العوينات السوداء على وجوه أغلبهم — نفس الأشخاص الذين التقيت بهم مرتَين قبل الآن.
ومع أني فشلت — للمرة الثالثة — في إحصاء عددهم، من جراء عجزي عن التركيز، إلا أني كنت موقنًا بأنه لم يزِد أو ينقص، اللهم إلا فيما يتعلَّق بالقصير، الذي كان مقعده الخالي — إلى جوار العجوز — مجلَّلًا بالسواد، بمثل ما كانت صورته المعلَّقة فوق الجدار؛ إشارةً إلى ما انتهى إليه أمره.
ولم أكتشف السر إلا بعد أن تطلَّعت إلى العانس عدة مرات؛ فقد تبيَّنت أخيرًا ما غاب عني في البداية؛ إذ كانت ترتدي الملابس العسكرية ذات الشارات الحمراء الموشاة بالذهب.
ولعل تأخُّري في هذا الاكتشاف يرجع إلى أني ألفت أن أرى بين أعضاء اللجنة ثلاثةً من العسكريين، وقد سجَّل لا شعوري هذا العدد من اللحظة الأولى، فاكتفيت بذلك، ولم أُولِ اهتمامًا لأشخاصهم؛ شعورًا مني بأنهم جميعًا — بسبب ملابسهم — متماثلون.
أمَّا الآن فقد دقَّقت النظر إلى العسكريَّين الآخرَين حتى تأكَّدت من جنسيَّتَيهما، ومن شخصيَّتَيهما، وبحثت عن الثالث حتى وجدته بعد مشقة بسبب التغيُّر الذي أضفَته الملابس المدنية على هيأته.
أثارت هذه الظاهرة فضولي، فانطلق عقلي الذي درَّبَته أحداث العام الأخير على استكناه الألغاز والغوامض، يحاول إيجاد تفسير لها.
كان اعتقادي في السابق أن اللجنة مختلطة؛ أي «مدنعسكرية»، لكن استبدال الملابس بالصورة التي رأيتها اليوم هزَّ هذا الاعتقاد من أساسه؛ فلم يكن يعني سوى أحد أمرَين: إمَّا أن اللجنة تتألَّف كلها من عسكريين يرتدي بعضهم الملابس المدنية أحيانًا، أو من مدنيين يرتدي بعضهم الملابس العسكرية أحيانًا.
وفي كلتا الحالتَين لم يكن ثمة مغزًى للاستبدال. حقًّا إن التخلي عن الملابس يمكن أن يُعتبر مؤشِّرًا على انكماش الروح العسكرية في اللجنة، أو تقلُّصها، وهو الأمل الذي داعبني لحظةً خاطفةً بالنظر إلى ما اشتُهر عن العسكريين من قسوة وإيغال في الدماء، وقوَّى منه ارتداء العانس لها، طالما أنها — بحكم أُنوثتها (رغم إحباطها) — أكثر إنسانية. لكني لم ألبث أن رأيت في الاستبدال — لهذا السبب بالذات — تأكيدًا للطابع العسكري بدلًا من أن يكون تخفيفًا منه.
انتزعني رئيس اللجنة من تأمُّلاتي إذ نطق بصوت رصين شابته رنة أسًى، فقال بلغة اللجنة: «نستهل عملنا اليوم بالوقوف لخمس دقائق حدادًا على الفقيد.»
أزاح الأعضاء مقاعدهم إلى الخلف ونهضوا واقفين، أمَّا أنا فلم أتحرَّك من مكاني؛ لأنني كنت واقفًا؛ فاللجنة لا تسمح لأحد بالجلوس في حضرتها.
رفعت عينَي إلى صورة الفقيد المعلَّقة على الجدار، خلف الرئيس، وثبَّتُّهما على عينَيه؛ مشاركةً مني لأعضاء اللجنة في مشاعرهم، وركَّزت ذهني طوال الدقائق الخمس التي تتابعت ببطء شديد، في محاولةٍ مخلصة لتذكُّر الطريقة التي كان يحرِّكهما بها، كل واحدة في اتجاه، أثناء حياته الحافلة.
تنحنح الرئيس عدة مرات كأنه يقوم بشحن البطارية التي سيُعمل بها صوته، ثم انطلق يقول — موجِّهًا حديثه إلى زملائه، بينما كان يتطلَّع إلى أكاليل الزهور، كأنما يخاطب في الحقيقة مرسليها: «حضرات الأعضاء الموقرين. هذه إحدى المرات النادرة التي تنعقد فيها لجنتكم لتبحث أمرًا يخرج عن مألوف عادتها. وفيما يتعلَّق بالفقيد فإنها المرة الثالثة التي نجتمع فيها بسببه. وإذا لم تخُني الذاكرة فإن المرة الأولى كانت في منتصف الخمسينيات عندما قرَّرنا ضمَّه إلى اللجنة. وما زلت أذكره كما كان وقتذاك، ممتلئًا شبابًا وحيوية، أمَّا المرة الأخرى فكانت في العام قبل الماضي، عندما احتفلنا بفوزه بجائزة «النسر الذهبي»؛ تقديرًا لجهوده في خدمة أهداف اللجنة.
والواقع أن الفقيد لعب دورًا هامًّا في الإعداد لكثير من التحوُّلات الرائعة التي تحدث حولنا، وفي صياغة الشكل الذي تحقَّقت به.
وبفضل هذا الدور تتفتَّح اليوم — من جديد — الإمكانيات التي تراءت في الخمسينيات، ثم قُبِرت في الستينيات وأوائل السبعينيات؛ لتحقيق أحلام البشرية، والقضاء على كافة المخاطر التي تُهدِّد النوع الإنساني.
ونحن نُشير بذلك إلى الحلم القديم، وهو حلم الوحدة الأرضية، أو الولايات المتحدة الأرضية، حيث يندمج سكان الكوكب جميعًا في دولة متجانسة، تحقِّق لهم الرخاء، وتنشد لهم الحياة الأفضل.
وهذا يبيِّن عمق الخسارة التي أُصبنا بها، وأُصيبت بها قضية الحضارة والتقدُّم، وقضايا الاشتراكية والسلام والديمقراطية.»
توقَّف لحظةً ليترك للحاضرين فرصة تمثُّل الاستنتاج الذي توصَّل إليه، ثم استأنف حديثه: «لقد حرصنا في كل أعمالنا على أن نبقى بمنأًى عن أي ارتباط مباشر بالأجهزة الرسمية، والسلطات التنفيذية، رغم الشائعات التي طاردتنا، والتي كان لها أساس من الصحة في حالات معدودة، مسَّت المبدأ المذكور، وإن كانت في الحقيقة تدعيمًا له.
ونحن نواجه الآن حالةً مماثلةً أرغمتنا بسبب من خطورتها على أن نتصدَّى لمعالجتها، فلا يخفى عليكم ما لها من دلالات بالنسبة للمستقبل.
وممَّا يضاعف من دقة الأمر، ما تتعرَّضون له من مشقة وعنت، بالنظر إلى أنكم تواجهون الآن، مباشرة، اليدَين المضرَّجتَين بدماء أحد زملائكم.»
سرت همهمة غاضبة بين الأعضاء الذين لم يرفعوا عيونهم عني طول الوقت. وألفيت نفسي مدفوعًا إلى الكلام. وعلى غير ما توقَّعت خرج صوتي مهتزًّا بكلمات غير التي كنت قد أعددتها.
قلت: «أرجو أن يتَّسع صدركم لي كي أبسط وجهة نظري. وإني واثق أنكم من السماحة والكرم بحيث تسمحون لي أن أتحدَّث باللغة العربية كي أُحسن التعبير عن نفسي، وتأكَّدوا أني أُشارككم الألم لخسارتكم؛ فهي خسارة لنا جميعًا.»
خاطبني الأشقر في حدة: «ستتكلَّم عندما نأذن لك.»
تناول العجوز رشفة ماء من كوب أمامه، ثم استطرد: «لقد وضعَت اللجنة نفسها منذ البداية في خدمة الأهداف الثورية، والمبادئ الأخلاقية، والقيم الدينية، وساند أعضاؤها كل ما من شأنه دعم المقوِّمات الأساسية، وتعميق الممارسات الحرة.
وطبيعي أننا أثَرنا بذلك حفيظة عناصر الشر والهدم التي لم تألُ جهدًا في مقاومتنا. وأُشير في هذا الصدد إلى ما أُثير من ضجة مفتعلة حول الأساليب التي نستخدمها في عملنا، وإلى الاتهامات التي أُغدقت علينا، بالسادية حينًا، والديماغوجية حينًا آخر.
وقد حاولَت هذه العناصر دائمًا أن تربط بيننا وبين الانقلابات السياسية والمذابح الطائفية والحروب الصغيرة الدائرة على قدم وساق في العالم العربي، بل وبعض حالات الانتحار الغامضة، وحوادث متفرِّقة لأشخاص اختفَوا نهائيًّا دون أن يُعثر لهم على أثر، وآخرين سقطوا من أسطح البنايات، أو قُتلوا في حوادث عرضية للسيارات.
إلا أن الاعتداء على زميلنا يمثِّل تطوُّرًا بالغ الشأن في هذه المحاولات، الأمر الذي يتطلَّب منكم اهتمامًا خاصًّا. فإذا ما بدت مهمتكم يسيرةً لأن المجرم ماثل أمامكم ومُقر بما ارتكبه من إثم؛ فإن هذا ليس سوى خداع السطح البراق، وواجبكم هو أن تنفذوا إلى الأعماق.»
بدت على العجوز علامات الإرهاق وهو يتراجع إلى الوراء في مقعده، كأنما يُفسح المجال لزملائه. وكانت العانس العسكرية هي أول من تكلَّم منهم فخاطبتني قائلة: «يمكنك الآن أن تتكلَّم.»
كان صوتها رقيقًا، لكنه لم يخفِ ما يكمن بين طياته من صرامة ضاعف منها إشاراتها إلى رد الأشقر عليَّ، بما يتضمَّن التأييد لحدته.
والواقع أني كنت شديد الانتباه لنظرات العيون، وإيماءات الرءوس، ونبرات الأصوات، وبالاختصار كل بادرة يمكن أن أستشف منها ما ينتظرني من مصير.
وليس معنى ذلك أن الشكوك كانت تُساورني بشأنه؛ فقد هيَّأتُ نفسي قبل مجيئي لأسوأ الاحتمالات؛ إذ إني لم أنكِر شيئًا منذ البداية، ولم أحاول تبرير فعلتي. ومن ناحية أخرى فإن الندم لم يساورني؛ إذ غشيتني قناعة بأن ما حدث كان لا بد أن يحدث.
هكذا أعددت دفاعي على صورة اتهام موجَّه إلى اللجنة، واخترت له كلمات قوية؛ فما دامت النتيجة محتومة، فلا بأس من الاحتفاظ بكرامتي، ومواجهة المحتوم في إباء وشَمم.
لكني لم أكَد أواجه اللجنة وأستمع لكلمات رئيسها حتى تبخَّرت صلابتي، وخرج صوتي مهتزًّا ضعيفًا، وأنا الذي خطَّطت له أن يدوِّي في القاعة ثابتًا، شامخًا، اتهاميًّا.
قلت بصوت يذوب رقة، مستخدمًا لغة اللجنة: «إني أشكر لكم هذه الفرصة التي أتحتموها لي كي أتحدَّث أمامكم، وأحب أن أؤكِّد مرةً أخرى إدراكي لعمق الخسارة التي حاقت بكم؛ فاللجنة لا تفقد أحد أعضائها كل يوم (وابتسمت بالرغم مني، لكنهم بالطبع لم يشاطروني الابتسام).
وأصدقكم القول بأني عندما جئت اليوم لم أكن أفكِّر في الدفاع عن نفسي؛ فأنا مقر بما فعلته، وقابل لكافة النتائج المترتبة عليه، ومع ذلك فكلي أمل أن يشفع لي تاريخي وسلامة طويتي والظروف التي أحاطت بي.
وأعتقد أنكم تعرفون جيدًا أني لم يسبق أن أقدمت على عمل من أعمال العنف؛ فأنا مجرد إنسان عادي، يؤْثِر السلامة قدر الإمكان، وتلك الأعمال الجسورة التي يتحدَّث عنها الآخرون ويتباهَون بها، ليست بالنسبة لي غير مادة للقصص والروايات.
وعندما مثلت أمامكم أول مرة لم يكُن لي من غرض سوى أن أنال رضاكم؛ إذ تبيَّنت أنه الطريق الوحيد لتطوير مواهبي والبرهنة عليها، خاصةً وأن أفضل أصحاب المواهب قد سبقوني للمثول أمامكم.
وإذا كانت التطوُّرات التي جرت بعد ذلك تعود أساسًا إلى شغفي بالمعرفة؛ فإن ما صدر مني في حق زميلكم — أو على الأصح في صدره — لم يكُن غير رد فعل طبيعي لإنسان بسيط في حالة دفاع عن النفس.»
قاطعني الرئيس قائلًا: «لكنك قررت — عقب الجريمة مباشرة — أنه لم يهاجمك أو يتعرَّض لك بالأذى.»
قلت: «هذا صحيح، لكنه كان يحمل مسدَّسًا؛ ولهذا فاستخدام العنف ضدي كان واردًا منذ البداية. ومن المؤكَّد أنه لو لم أبادر بالقضاء عليه فإنه ما كان سيتركني في سلام. على أني لا أريد أن أدافع عن موقفي، وما أبغيه هو أن تضعوا في تقديركم حالتي النفسية والعصبية، وكوني لم أنم على الإطلاق أثناء وجوده معي، فضلًا عن الحصار الذي فرضه عليَّ.»
انحنى الأشقر إلى الأمام وتطلَّع إليَّ بعينَين ملوَّنتَين قاسيتَين، ثم قال: «إذن فأنت تُريد أن نقبل صورة البريء السليم النية التي تحاول أن تبيعها لنا؟!»
كان يتعمَّد في حديثه دائمًا — كما لاحظت — أن يستخدم التعبيرات المميزة للغة اللجنة، وهي تعبيرات كانت تثير إعجابي.
قلت: «أنا لا أبيع شيئًا، رغم أن البيع والشراء هذه الأيام شَمِلا كل شيء، كما أكَّدَت لي الدراسة التي قمت بها عن «الدكتور». أنا أقرِّر الحقيقة.»
ضحك ساخرًا: «لعلك تظننا من السُّذج. يجب أن تعرف أننا أدركنا من اللحظة الأولى لوقوفك أمامنا أنك تظهر غير ما تبطن؛ فقد كانت إجاباتك على الأسئلة التي طرحناها عليك دقيقةً وموفَّقة؛ ممَّا أثار شكوكنا.
وإذا كان بيننا من ظل متردِّدًا في القطع بأمرك، فإنه حسم رأيه عندما اتخذت من الدراسة المطلوبة منك ذريعةً لنبش تاريخ «الدكتور» وجمع المعلومات عنه. وأصررتَ على المُضي في هذا العمل رغم التحذيرات المختلفة التي وُجِّهت إليك.»
وجَّه حديثه إلى أعضاء اللجنة واستطرد: «إن كل الدلائل تؤكِّد أننا نواجه مؤامرةً كبيرة، حيكت خيوطها بمهارة وخبث شديدَين منذ بعض الوقت، وليس الاعتداء على حياة الفقيد سوى حلقة من حلقاتها.»
انزعجت كثيرًا لكلام العضو الأشقر؛ فها هي الأمور تتخذ اتجاهًا مفاجئًا لم يخطر لي ببالٍ، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من الإساءة إلى موقفي.
سارعت بالقول وأنا أتضاحك مبديًا كل ما أستطيع من مظاهر البراءة والطيبة، بل الغفلة: «سيادتك تملك خيالًا نشيطًا، ولا أظنك تتكلَّم جادًّا.»
قال بحدة: «لن تُجديك المراوغة.»
قلت: «أؤكِّد لك أني بريء.»
قال مستنكرًا: «وتتراجع أيضًا عن اعترافاتك؟»
قلت: «لم أقصد تبرئة نفسي من … أقصد أنه لا توجد ثمة خُطة، وإذا وُجدت فليس لي بها علم.»
قال بلهجة المنتصر: «آه .. ها أنت تُقر بوجود خطة.»
قلت فزعًا: «أبدًا! لقد أردت فقط أن أؤكِّد مرةً أخرى …»
أشار إلى عضو يجلس في طرف الطاولة، فتناول هذا جهازًا للتسجيل من تحت الطاولة ووضعه فوقها.
قال الأشقر مخاطبًا أعضاء اللجنة: «سأريكم الآن أيها السادة كيف أنه أقر — بلسانه — بوجود شركاء له.»
أدار العضو الجهاز فسمعت صوتًا غريبًا لم ألبث أن ميَّزت فيه صوت تدفُّق المياه وارتطامها بسطح صلب. ثم تكلَّم رجل معربًا عن دهشته من لون المياه الأسود، وعرفت فيه القصير فارتعدت.
سمعت صوتي يقول: «لا بد أنك تستخدم جهازًا للتقطير؟»
ثم صوت القصير مستغربًا: «وكيف عرفت؟»
وأخيرًا صوتي: «لقد عرفت أشياء كثيرة في الآونة الأخيرة.»
أومأ الأشقر لمدير الجهاز فأوقفه وخاطبني ساخرًا: «أليس هذا صوتك؟»
قلت: «أجل .. لكن هذا لا يعني …»
لم يدعني أواصل كلامي وصاح: «كيف تأتَّى لك أن تعرف المعلومة التي لا نعرفها نحن عن زميلنا إلا إذا كان لك شركاء يمدونك بالمعلومات؟!»
تدخَّلت العانس في الحديث قائلة: «ليس من الضروري أن تكون المؤامرة قائمةً منذ البداية؛ فربما وُلدت في وقت لاحق. وهذا ما تدل عليه إشارته إلى أنه عرف أشياء كثيرةً في الآونة الأخيرة.»
ووجَّهَت إليَّ الحديث مستأنفة: «هذا أفضل لك؛ لأنه يعني أنك كنت سليم النية في البداية، ثم وقعت تحت تأثير العناصر الهدامة والمنحرفة. فإذا ذكرت لنا أسماءهم؛ ربما كان لذلك أثر في تخفيف الأمر بالنسبة لك.»
ضغطت يدي في يأس وأنا أقول في صوت جاهدت لأجعله ناطقًا بالصدق: «أرجوكم أن تُصدِّقوني. لقد وقع كل شيء بمحض الصدفة.»
سألني أحد الأعضاء: «ألم يمدك أحد بالسكين التي استخدمتها؟»
أجبت: «أبدًا! لقد كانت موجودة — كما ذكرت من قبل — في المطبخ.»
سألني عضو آخر: «كيف تأتَّى لك أن تعرف تلك الأشياء التي أشرت إليها؟»
أجبت: «من الصحف.»
ضحك العضو، تطلَّع إلى زملائه كأنما لا يصدِّق أن تكون الصحف مصدرًا للمعرفة.
قلت موضِّحًا: «لقد اضطرني بحثي عن «الدكتور» إلى مراجعة أعدادها على مدى ربع قرن؛ ومكَّنني هذا من رؤية الوقائع والأحداث في ترابطها والوصول إلى استنتاجات قيمة يسَّرت لي تفسير كثير من الظواهر المعاصرة.»
مال أحد العسكريين فجأةً إلى الأمام وقال: «هل لك أن تُحدِّثنا عن هذه «الظواهر» كما تسمِّيها؟»
قلت في إعياء: «أعتقد أن إجابتي على هذا السؤال الذي سبق أن وجَّهه إليَّ الفقيد، موجودة في الأوراق التي أمامكم، بالنظر إلى كفاءة الأجهزة التي تملكونها.»
قلَّب في عدة أوراق أمامه وهو يقول: «أجل .. أجل. لدينا هنا بضعة أمور .. الأمراض النفسية، والسيجارة المصرية .. مياه الحنفية .. الأدوية الأجنبية، و«الكوكاكولا» .. لكنك لم توضِّح لماذا تعتبر هذه الأمور دون غيرها ظواهر جديرةً بالالتفات؟»
قلت: «لم أقُل هذا أبدًا … لقد ذكرتها في معرض الاستشهاد بأمثلة؛ فالظواهر المماثلة لا تُعد ولا تُحصى.»
قال: «لقد تجنَّبت أيضًا الحديث عمَّا تبيَّنته بصددها، كما أنك أشرت إلى العلاقة بينها دون أن توضِّح ما تعنيه بذلك.»
فكَّرت بسرعةٍ حتى وصلت إلى قرار، فقلت بلهجة من استبان أخيرًا أن الصدق والصراحة التامة هما أسلم وسائل الدفاع: «سأتحدَّث بصراحة كي أُثبت لكم صدق نيتي وسلامة طويتي. والواقع أني ضحية لطموحي من ناحية، وشغفي بالمعرفة من ناحية أخرى. ولولا الخاصية الأخيرة بالذات ما وقفت هذا الموقف الآن.»
قاطعني العسكري قائلًا: «الأفضل أن تطرق الموضوع مباشرة.»
قلت: «لقد أردت فقط أن أوضِّح كيف انسقت إلى التفكير في هذه الأمور والبحث عن تفسير لها، إلا أني سرعان ما تبيَّنت أن تناول إحداها بمعزل عن البقية لن يؤدِّي بي إلى شيء. والنتيجة ذاتها تنتظرني إذا ما تناولتها جميعًا، من خلال العلاقات المتبادلة بينها، دون أن يكون لديَّ المنهاج السليم للبحث.
هكذا توصَّلت إلى نقطة البدء، وهي العثور على المنهاج الذي يصلح لتفسير كل ظاهرة على حدة، وكافة الظواهر في علاقتها بعضها ببعض.»
بدا على وجوههم الاهتمام، وأدركت أني أثَرت فضولهم إلى أقصى حد، فتابعت: «أقبلت أجرِّب كافة المناهج المعروفة دون أن أصل إلى شيء. وذات يوم كنت أفكِّر في الأمر عندما قلت لنفسي: إن مشكلة هذه الظواهر والألغاز أنها لا تتصل بمجال واحد من مجالات الحياة، وإنما تمتد إلى مجالات متنوِّعة؛ ومعنى هذا أن «التنوُّع» هو طابعها الأساسي.
وهنا تذكَّرت إحدى النتائج الهامة التي توصَّلت إليها في بحثي عن «الدكتور»؛ وهي مساهمته في تطوير اللغة العربية بابتكار اشتقاقات جديدة من كلمات عادية، منها ذلك المصطلح الفذ: «التنويع»؛ ففيه وجدت ضالتي.»
تحدَّث العضو البدين لأول مرة، وهو الذي كان يرتدي سترةً بيضاء في مقابلتي الأولى باللجنة، وقد استبدلها الآن بأخرى من القطيفة الحمراء.
قال: «هل يمكن أن تعطينا مثالًا لما تعنيه؟»
أجبت: «هذا ما كنت أنوي أن أفعله حالًا، وسأتخذ لمثالي موضوعًا مألوفًا لنا جميعًا هو «الكوكاكولا»؛ فهناك الكثير من الظواهر الغامضة التي ترتبط بتطوُّر هذه الزجاجة الشهيرة.
وعلى سبيل المثال، فقد قرأت عن حملة واسعة ثارت في الولايات المتحدة عام ١٩٧٠م حول سوء معاملة ربع مليون من العمال الموسميين في المزارع التابعة لشركة «الكوكاكولا». أقول المزارع لا المصانع. وقد انتقلَت هذه الحملة إلى التليفزيون ومنه إلى قاعات الكونجرس، وقام السيناتور والتر مونديل، عضو لجنة العُمَّال الموسميين به في ذلك الوقت، باستدعاء رئيس «الكوكاكولا» ليُجيب رسميًّا على الادعاءات الموجَّهة إلى شركته، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.
ولم تمضِ ثلاث سنوات حتى كان رئيس «الكوكاكولا» يُشارك في اختيار مونديل هذا لعضوية اللجنة الدولية التي حدَّثتكم عنها في لقائنا الأول، ثم ليكون نائبًا للرئيس الأمريكي كارتر.
وفي نفس الوقت الذي نجدها متهمةً بابتزاز حفنة دولارات من عُمَّالها، نقرأ أنها خصَّصت مبالغ طائلةً للأعمال الخيرية والثقافية التي تمتد من إدارة جامعة كاملة، إلى جائزة هامة للإبداع الفني والأدبي، ومنحةً ضخمةً قدَّمتها عام ١٩٧٧م لمتحف بروكلين الأمريكي ليعمل على إنقاذ آثار الفراعنة المصريين من الانهيار.
وبينما تمثِّل مياه الحنفية المنافس الوحيد لها الآن (فهي توزِّع ٢٠٠ مليون زجاجة يوميًّا في العالم حسب إحصائيات عام ١٩٧٨م)، نراها ترعى مشروعًا لإزالة ملوحة مياه البحر تقوم به شركة «أكواشيم» التي اشترتها «الكوكاكولا» قبل عدة سنوات وبالتحديد عام ١٩٧٠م.
أثارت هذه المتناقضات حَيرتي فقمت بأبحاث عدة علمت منها أن شركة «الكوكاكولا» ظلت منذ نشأتها أمينةً لمبدأَين أساسيَّين، وضعهما مؤسِّسوها العظام؛ المبدأ الأول: هو أن يصبح كل مشترك في مغامرة «الكوكاكولا» غنيًّا وسعيدًا. والمبدأ الثاني: هو أن يقتصر نشاطها على إنتاج سلعة واحدة هي الزجاجة المعروفة.
لكن رياح التغيير التي هبَّت في أوائل الستينيات أرغمتها على الاختيار بين المبدأين. وكي لا تضحي بالمبدأ الأول فضَّلت أن تقوم بتنويع منتجاتها؛ فبدأت بإنتاج أنواع من المياه الغازية، ثم مدَّت نشاطها إلى زراعة الموالح والبن والشاي، وأصبح لها مزارع واسعة في نفس الولاية التي وُلدت بها، وهي ولاية جورجيا، تُجاور مزارع الرئيس الأمريكي كارتر. وربما كان هذا الجوار هو المسئول عن تماديها في سياسة التنويع بالاشتراك في الأمور العامة، المحلية والدولية.
ولا شك في أن النجاح كان من نصيب هذه السياسة. ويكفي الإشارة في هذا الصدد إلى عودة الزجاجة العتيدة إلى كلٍّ من الصين ومصر بمبادرة وطنيِّين شُجعان، ذوي مبادئ، في البلدين.
غير أن هذا النجاح تمخَّضت عنه ظاهرة غريبة؛ فمع استخدام الوسائل الحديثة وتقليل تكلفة الإنتاج بالاعتماد على عُمَّال موسميين ذوي أُجور منخفضة، أصبحت «الكوكاكولا» من أكبر منتجي الفواكه الطازجة في العالم الغربي، لكنها وجدت نفسها للأسف مرغمةً على إلقاء جانب كبير من هذا الإنتاج في البحر كي لا ينهار السوق العالمي.
ولم يكُن من حلٍّ لهذه المشكلة إلا بمزيد من التنويع؛ فاستغلَّت إمكانياتها الضخمة وخبرتها بميدان الزراعة في رعاية عدد كبير من مشروعات الأمن الغذائي في البلاد المختلفة؛ منها مشروع لزراعة البقول في «أبي ظبي» تقوم به شركة «أكواشيم» التابعة لها. كما قامت بأبحاث واسعة لإنتاج شراب غني بالبروتينات والعناصر المغذية الأخرى، تُعوِّض به المستهلكين عن الفائض الذي تُضطر لإلقائه في البحر.»
توقَّفتُ لحظةً ريثما بلعت ريقي، ثم استطردت: «هكذا ترون أيها السادة كيف أن التنويع يصلح — في حالة «الكوكاكولا» — مفتاحًا لفهم أغلب الظواهر المرتبطة بها. وقد وجدت بالبحث أن هذا المفتاح قادر على فك مغاليق أخرى كثيرة.
إن نظرةً واحدةً للواقع العربي تكفي للبرهنة على صحة قولي؛ فهي تكشف لنا من الوهلة الأولى عن ظاهرة «التنويع» في أشكال الأنظمة (وهو بالتأكيد مخطَّط له بالنظر إلى أن هذه الأنظمة لا تختلف عن بعضها في الجوهر)، وفي وسائل العمل السياسي، وشعاراته وأهدافه.
ففي وقت من الأوقات كانت هذه الأنظمة تتوجَّه إلى شعوبها بوسيلة إقناع واحدة لا تتغيَّر؛ هي السجن والتعذيب، لكن التنويع أضاف إليها أساليب أخرى متنوِّعة من التصفية الجسدية إلى التليفزيون والمجالس النيابية.
وفي وقتٍ من الأوقات كانت الأنظمة ترفع شعارات أساسيةً لا تتغيَّر، لكنها أدركت أخيرًا أهمية تغيير هذه الشعارات بين الحين والآخر، وتنويع الأهداف والتحالفات والعداوات.
وبفضل سياسة «التنويع» اتسعت الارتباطات الوحدوية لهذا البلد — والتي كانت قاصرةً في الماضي على بقية الشعوب العربية — لتشمل الآن الشعوب الأسترالية الصديقة.
وبفضلها توفَّرت للمصريين الأسلحة الأمريكية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية التي حُرموا منها طويلًا. وبعد أن كان السوق المصري قاصرًا في الستينيات على سيارة واحدة يتم تجميعها في المصانع المحلية هي سيارة نصر/فيات، امتلأ الآن بالماركات العالمية المختلفة، تأتيه سياراتها مباشرةً من مصانعها الأصلية.
وبعد أن كانت مشاريع الإسكان قاصرةً على خدمة الطبقات محدودة الدخل، تقدَّم لها مجمَّعات متماثلة الشكل والحجم، اتسعت الآن لتشمل كافة الطبقات، واكتسبت تنوُّعًا شديدًا يمتد من المقابر إلى الأبراج الفاخرة.
وتصلح السيجارة المصرية نموذجًا لعرض وتفسير الظواهر المختلفة — الغامضة أحيانًا — التي تصاحب عمليةً شديدة التعقيد مثل عملية التنويع. فأنتم تعرفون — ولا شك، قوة العادة وسطوة الإدمان. وقد بلغ تعلُّق المصريين بسيجارتهم المحلية أوجه في الستينيات، عندما مُنعت السجائر الأجنبية، وأمكن توحيد عدد من السجائر المحلية في سيجارة واحدة، هي التي عُرفت باسم البلمونت، نالت توليفتها رضاء الأغلبية.
وهي العقبة التي واجهتها عملية التنويع في ميدان السجائر، وتطلَّب التغلُّب عليها جهودًا مضنيةً في اتجاهات متعدِّدة، تعدَّدت نتيجةً لها فترات الاختفاء المفاجئ للسيجارة المصرية؛ ممَّا أجبر المستهلك على تلَمُّس بديل أجنبي لها.
ومن السهل أن نرى في صدمة هذا الانتقال الإجباري المفاجئ علةً للإصابة بمرض الاكتئاب النفسي، خاصةً وأن السجائر الأجنبية تُباع بضعف ثمن السجائر المحلية.
ولمَّا كان استهلاك السجائر في البلاد المتخلِّفة أوسع منه في غيرها (فالأخيرة تحظر الإعلان عنها، كما تنبِّه مواطنيها إلى العلاقة بينها وبين الإصابة بمرض السرطان، وتقدِّم لهم متعًا أخرى بديلةً ومتنوِّعة)، يكون الاكتئاب الناشئ أكثر عمقًا وأصعب في العلاج، ممَّا يدفع شركات الأدوية الأجنبية إلى أن توصي أبناء البلاد المتخلِّفة باستخدام جرعات أكبر من العقاقير العظيمة المضادة لهذا المرض.
وهو ما يخلق مشكلةً جديدةً تتمثَّل في الإدمان على هذه الأدوية. إلا أن التنويع نفسه يقدِّم الحل لهذه المشكلة؛ فيلجأ الطبيب إلى تغيير الدواء باستمرار أثناء فترة العلاج، ويُساعده في هذا التنوُّع الذي تتميَّز به هذه العقاقير.
ومن ناحية أخرى فإن الاكتئاب نفسه هو في أغلب الأحيان بمثابة مفترق طرق يؤدِّي بعضها إلى العُنَّة الجنسية، أو التعصُّب الديني، أو فتور الهمة، والقذارة، أو الخبَل.
هكذا ترون أيها السادة كيف أن منهج التنويع يصلح لتفسير ظواهر كثيرةً في حياتنا المعاصرة، وللربط بينها في سلسلة متينة الحلقات.»
تكلَّم أحد الأعضاء بلهجة متردِّدة وهو يتطلَّع إلى الأشقر بين الفينة والأخرى: «لقد عرضتَ وجهة نظرك بإسهاب ووضوح، لكن ثمة ما أُريد أن أفهمه؛ أقصد أنك لم تتعرَّض لموضوع مياه الحنفية.»
أجبت على الفور بلهجة تشي بالإعجاب: «لقد أحسنت يا سيدي بإثارة هذا الموضوع لأنه يتميَّز بأهمية خاصة لكافة المشتغلين بالأبحاث العلمية؛ فهو يعطينا مثالًا كلاسيكيًّا للأخطاء التي يمكن أن يتورَّطوا فيها.
لقد أغرتني معرفتي بحجم التوزيع العالمي لزجاجة «الكوكاكولا» من ناحية، وبأن الشعب المصري من الشعوب المدمنة لاستخدام مياه الحنفية في الشرب (على عكس الشعوب المتحضِّرة عمومًا) من ناحية أخرى، على الربط بين عودة هذه الزجاجة إلى مصر وظاهرة قلة مياه الحنفية واختفائها تقريبًا بالنهار، فضلًا عن دكنة لونها وميله إلى السواد.
إلا أني لم ألبث أن اكتشفت أن الظاهرة المذكورة سابقة على عودة «الكوكاكولا» بسنوات. وبالبحث وجدت أن الحنفية ظلت من الستينيات المصدر الوحيد لمياه الشرب، إلى أن طُبِّقت سياسة التنويع، وظهرت المياه المعدِنية المستوردة. واكتشفت أن التغيير الذي لحق بمياه الحنفية قد بدأ منذ تلك اللحظة، ممَّا يتفق مع النتائج التي توصَّلت إليها في حالة مماثلة، هي الخاصة بمصير السيجارة المصرية.
على أن الوقوف عند إحدى النتائج والقناعة بها من المخاطر التي يواجهها الباحثون عادة؛ فبمواصلة البحث، مهتديًا بالمنهاج ذاته، أمكنني التوصُّل إلى رؤية أعمق تكشف أيضًا عن الترابط بين عدد من الظواهر.
ذلك أن مشروعات شركة «الكوكاكولا» لري الصحاري ظلت لفترة طويلة قاصرةً على مجال واحد هو إزالة ملوحة مياه البحر. وقد أتاحت لها حرب أكتوبر فرصةً ذهبيةً لتنويع وسائل عملها باستخدام مياه النيل في ري صحراء النقب، وهو ما تيسَّر بفضل الأنفاق الهائلة المحفورة أسفل قناة السويس. ومن الطبيعي أن يؤدِّي مثل هذا التنويع إلى قلة المياه المنسابة من الحنفيات، كما أن انخفاض التخزين نتيجةً للسحب المتزايد هو المسئول عن تسلُّل الشوائب إلى المياه وتغيُّر لونها.»
خاطبني الأشقر بلهجة ظافرة: «أتريدنا أن نصدِّق أنك عرفت كل هذه الأشياء بجهدك الخاص عن طريق الصحف؟!»
أجبت: «أجل!»
تكلَّم «العسكمدني» أو «المدنعسكري» لأول مرة، وكان يضع «باروكة» واضحةً على رأسه، فخاطبني في لهجة حازمة: «من الخير لك أن تُدلي على الفور بأسماء شُركائك والتفاصيل الكاملة للمؤامرة قبل أن نُجبرك على ذلك؛ فنحن قادرون على فك عقدة لسانك. حقًّا إننا لا نميل — بحكم المبادئ الإنسانية التي نسترشد بها — إلى الالتجاء لهذا السبيل، إلا أن للضرورة أحكامها.»
مالت العانس نحوي وقالت في رقة: «لا أظن أننا سنُضطر إلى ذلك؛ فهو سيتكلَّم حالما يتبيَّن مصلحته.»
هبط قلبي بين قدمَي وقلت: «أنا أعرف الوسائل التي تشيرون إليها، ومن المؤكَّد أنها ستضطرني للاعتراف بأي شيء. لكن ما سأعترف به — في هذه الحالة — لن يكون هو الحقيقة، أمَّا أنتم فستظلون دائمًا في حيرة من أمري.»
ران الصمت على القاعة وجعلوا يتبادلون النظرات، وأدركت — كما يقولون بلغة اللجنة — أن القذيفة التي أطلقتها في الظلام قد أصابت مقتلًا.
مال الأشقر على الرئيس وتبادل معه الهمس. وأخيرًا تكلَّم الأخير: «ربما كان من الأفضل أن تنفرد بنفسك قليلًا لتتروَّى في الأمر .. يمكنك أن تخرج الآن، وسنستدعيك بعد قليل من الوقت لنعرف ما توصَّلت إليه.»
أدركت أنهم يُريدون التخلُّص مني ليتشاوروا في حرية، فغادرت القاعة ووقفت إلى جوار حارسها العجوز، وقدَّمت إليه سيجارةً فتناولها مني في صمت ووضعها خلف أذنه، بينما أشعلت أنا واحدةً استنشقت أنفاسها في لهفة.
كان الدهليز خاليًا يأتيه الضوء من نافذة كبيرة بالجدار المقابل، تُطل فيما يبدو على فناء مهجور. دخَّنت وأنا أسترق النظر إلى الوجه الوادع المستسلم للحارس الجالس إلى جواري. وتمنَّيت لحظةً أن أكون مكانه، متمتِّعًا بنفس الاستسلام والوداعة. ثم خطر لي أن حالته قد لا تكون طبيعية، وإنما من تأثير مخدَّر ما.
وسواء كان هذا هو السبب، أو أنه أدرك حرَج موقفي، فإنه لم يردَّ عليَّ عندما حاولت أن أُجاذبه الحديث، شاكيًا من حرارة الجو.
فرغَت سيجارتي، فألقيت ببقيتها في منفضة نحاسية إلى جوار الباب، واعتمدت بظهري على الحائط. كنت عاجزًا عن التفكير، فرحت أنظر أمامي عبر النافذة، شاعرًا أني أتطلَّع في الفراغ.
وبعد حوالي نصف الساعة نهض الحارس فجأةً كأنما بلغته رسالة سرية، فاختفى داخل القاعة، ثم ظهر على الفور وأشار لي بالدخول.
دخلت في وجَل وأنا أُقدِّم رجلًا وأؤخِّر أخرى. ووقفت أمام العيون التي حدَّقت وأحدَقت بي.
خاطبتني العانس في رقتها المعهودة: «ماذا قرَّرت؟»
قلت: «ليس لديَّ ما أضيفه سوى أن أرجوكم تقدير الظروف الشائكة غير الطبيعية التي أحاطت بي.»
قالت في حدة وشراسة مفاجئتَين: «أنت وشأنك إذن.»
أزاح الرئيس جانبًا بضع أوراق أمامه وتكلَّم ببطء: «إن موقفك المتصلِّب يجعلنا لا نجد مبرِّرًا للرأفة بشأنك أو للاستجابة لالتماسك؛ ولهذا فأنت — في رأينا — تستحق أقصى عقوبة مقرَّرة. هذا هو قرارنا بالإجماع.»
ونهض واقفًا فاقتدى به بقية الأعضاء وهم يجمعون أوراقهم، ثم أزاحوا مقاعدهم إلى الخلف، واتجهوا إلى باب جانبي خلفهم، فغادروا القاعة واحدًا خلف الآخر.
لبثت أحدِّق في ظهورهم حتى اختفى آخرهم، وأصبحت بمفردي أنا وصورة القصير ذي الوجه القبيح، وأكاليل العزاء من كافة أنحاء الدنيا.
ثم سمعت صوتًا عند الباب الرئيسي للقاعة، وعندما التفت أبصرت الحارس يتطلَّع إليَّ متسائلًا، فحرَّكت قدمي نحوه في تثاقل.