الفصل السادس
وقفت في الخارج حتى انتهى الحارس من ترتيب القاعة وإغلاق نوافذها. وما إن ظهر عند الباب حتى أسرعت أقدِّم إليه سيجارةً وأشعلها له.
قلت له: «أيمكنك أن تذكر لي أقصى عقوبة لدى اللجنة؟»
هزَّ رأسه باعتداد وقال: «اللجنة ليست محكمة.»
قلت مستدركًا: «أعرف. ما أقصده هو أقصى عقوبة في نظرها.»
قال: «هذا يتوقَّف على أمور كثيرة.»
قلت: «بالطبع.»
قال: «ولكل حالة خصوصيتها.»
قلت: «مؤكَّد.»
قال: «في حالتك أنت — التي تابعتها باهتمام — ليس هناك أقصى ولا أقسى من الأكل.»
تساءلت في دهشة: «الأكل؟! من يأكل؟! وماذا يأكل؟»
تأمَّلني برهة، ثم قال بتؤدة وهو ينحني ليرفع مقعده: «أنت تأكل نفسك.»
اختفى بمقعده داخل القاعة بعد أن أغلق بابها خلفه، وتركني وحيدًا في الممر الكابي الضوء. انتظرت عودته كي أستزيد من معلوماته، لكنه غاب طويلًا، فقرَّرت الانصراف. مضيت في دهاليز خالية ووقْع أقدامي يتردَّد خلفي، إلى أن غادرت المبنى.
انطلقت في الشوارع على غير هدًى وأنا أنقُل البصر في شرود بين وجوه المارة وواجهات المحلات ومداخل البيوت، ومع ذلك أمكنني أن ألحظ كيف استسلمت الغالبية لإغراء البحث عن الثراء والسعادة؛ فقد كانت صناديق «الكوكاكولا» في كل مكان يقف الجميع خلفها، من بقالين وبوَّابين ونجارين، بل وصيادلة.
شعرت بالعطش فتوقَّفت أمام أحد الباعة الذي ترك دكانًا خاليةً إلا من صناديق الزجاجات، وشغل الرصيف بثلاجة كبيرة منزوعة الغطاء، تكأكأ حولها العطشى.
كانت الثلاجة مليئةً بالزجاجات السابحة في المياه. وبدا البائع في حال من النشوة وهو يلتقط الواحدة منها بحركة خاطفة، ويرفعها نحو الأيدي الممدودة إليه، وقبل أن تلمسها يد منها يكون قد نزع سدادتها بالفتاحة الجاهزة في يده الأخرى، وأسرع يتناول واحدةً جديدة.
لمحت يده تتجه نحوي بزجاجة، فأسرعت أحول بينه ونزع سدادتها، متسائلًا: «باردة؟»
تطلَّع إليَّ باستنكار وقال: «كالثلج!»
تحسَّست الزجاجة بيدي فألفيتها دافئة، فقلت: «لا، أُريد واحدةً باردة.»
قدَّم الزجاجة إلى أحد الواقفين وهو يبدي تأفُّفه مني. مددت يدي أقلِّب بين الزجاجات فاكتشفت أن أغلبها دافئ، وأن المياه تخلو من كل أثر للثلج. وانشغل البائع عني بملاحقة العطشى الذين كانوا يمسحون عرقهم، ويزفرون من الحر، فيعالجهم بالزجاجات الدافئة.
راقبتهم يرشفون السائل السحري وهم يتحسَّسون الزجاجات بأيديهم كأنما ليتأكَّدوا من قدرتهم على التمييز بين الساخن والبارد، ثم يزدردون محتوياتها في استسلام حتى النهاية، ويدفعون الثمن الذي طالبهم به البائع، وهو ضعف الثمن المعلن عنه، بذريعة الثلج الوهمي، ودفعه كلٌّ منهم صاغرًا وهو يتطلَّع أمامه في جمود.
حوَّلت اهتمامي إلى البائع الذي كان يتحرَّك بنشاط وشيء من الشراسة، وقدَّرت أنه سيدرك مبتغاه سريعًا، ولن تلبث الدكان الخالية أن تمتلئ بالسجائر والحلويات الأجنبية، ثم السلع المستوردة الأخرى، من شرائط وأجهزة وعلب محفوظة.
استغرقني الأمر فلم أنتبه إلا وفي يدي زجاجة دافئة منزوعة الغطاء، فرفعتها إلى شفتَي دون وعي.
دفعت الثمن الذي دفعه الآخرون، وواصلت السير على مهل إلى محطة الأوتوبيس، فوقفت مع الواقفين حتى جاء أوتوبيس «كارتر».
أمَّا السبب في إطلاق اسم الرئيس الأمريكي على هذا النوع من سيارات الأوتوبيس، فلا يعود إلى شكلها المميَّز الذي يشبه دودةً كبيرةً مكتئبة الوجه، أو طولها غير العادي، أو الضجة المرتفعة التي تُحدثها أثناء سيرها، أو ارتفاع أجر ركوبها (خمسة أضعاف الأجر العادي)، أو كونها صُنعت في الولايات المتحدة؛ وإنما إلى العلامة المثبتة على جانبها، بجوار الباب الأمامي مباشرة، وتمثِّل علَمًا أمريكيًّا يعلو يدَين متصافحتَين، تعبيرًا عن الصداقة.
وهذا — في الغالب — هو السر في فرحة الناس بظهورها في الشوارع منذ عامَين أو يزيد؛ إذ اعتبروها أُولى بشائر الرخاء الموعود الذي طال بهم انتظاره. وبدَوا مستعدين للتغاضي عن الضجة التي تُحدثها على أساس أن الضجة شيء مألوف في بلد متخلِّف كبلدنا، وعن ارتفاع أجرها على أساس الارتفاع العام في الأسعار العالمية، وعن دخان العادم المنبعث منها بكثافة، على أساس أن تلوُّث البيئة هو من مشاكل الدول المتقدِّمة وحدها، وعن انعدام المساند والعلَّاقات؛ ممَّا يؤدِّي إلى تأرجح الواقفين وتراقصهم، على أساس افتقار حياتنا الجافة إلى شيء من الترفيه.
إلا أنه لم يكَد يمر أسبوع حتى ظهرت على السيارات علامات غريبة؛ فقد بدأت أعمدتها الداخلية تتساقط، والمسامير المثبتة في جدرانها تقع، وتلفت أبوابها الأوتوماتيكية، وانهارت أجزاء من جدرانها، كما تمزَّقت الإطارات المطاطية لنوافذها، وطارت الصواميل المثبتة للوحات القيادة فظهرت أحشاؤها.
ومع صمت الصحف عن هذه الظاهرة العجيبة تعدَّدت التفسيرات بشأنها؛ فمن قائل إن سوء الصيانة هو السبب، ومن أرجعه إلى طبيعة الخدمة الشاقة في بلادنا، أو إلى عدم كفاءة السائقين ولامبالاتهم.
لكن الأنواع الأخرى من سيارات الأوتوبيس التي كانت تجري إلى جوار سيارات «كارتر» في حالة جيدة، رغم مُضي سنوات على بداية تشغيلها، ورغم أن بعضها تمَّ تجميعه في الورش المصرية، ألقت ظلالًا من الشك على صحة هذه الاستنتاجات.
وسواء كان السبب هو الإحباط الذي شعر به الناس لعجزهم عن تفسير هذه الظاهرة، أو ما درَج عليه العامة في كل زمان ومكان، من تحوير الأسماء والصفات حتى يتلاءم نطقها مع مستوى ثقافتهم ومحدودية وعيهم، فإنهم سرعان ما دعَوا السيارات المذكورة بأوتوبيس «طرطر».
وجذب هذا التطوُّر اللغوي — في حينه — اهتمامي، فلجأت إلى المعاجم حتى عرفت أن «طرطر» من الأفعال القديمة في اللغة العربية، ومعناه فخر بما ليس فيه، ومنه اشتُقت كلمة «طرطور»، الذي يلبس فوق الرأس، أو تُطلق على الوغد الضعيف. أمَّا «الطرطر» كاسم فمعناه راسب الخمر المصفَّى، ومن هنا — في الغالب — جاء فعل التبوُّل في اللغة الدارجة.
ومن الطبيعي — في ضوء الأحداث التي وقعت لي أخيرًا، وأدَّت إلى تنشيط عقلي وانشغالي بالتعمُّق في الظواهر ومحاولة تفسيرها — أن اهتمامي بالأمر انتقل من الجانب اللغوي إلى لُب الظاهرة نفسها، فتعمَّدت أن أستقلَّ سيارات «طرطر» مرات عديدة، أقبلت خلالها على فحص أجزائها ومكوناتها فحصًا دقيقًا، لكن النتيجة ضاعفت من غموض الأمر في نظري.
فقد اكتشفت أنها مصنوعة من أردأ المواد وأرخصها، بدءًا من معدِن الهيكل الخارجي، إلى المسامير المستخدمة في تثبيت الأرضيات. ولا يُعقل أن تسير سيارة بهذا الشكل في شوارع نيويورك، ولو حتى في أحياء الزنوج. ولا يُعقل أن تكون مصنَّعةً لنا خصوصًا (كما في حالة الأدوية)؛ إذ لا أتصوَّر أن صناعة أقوى وأغنى دولة في العالم يمكن أن تُخرج — ولو بالقصد — مثل هذا الإنتاج الهابط. أمَّا إذا كانت الولايات المتحدة قد أرسلت لنا المحرِّكات وحسب، وتمَّ تجميع السيارة في بلادنا، فإن هذا أيضًا لا يفسِّر الأمر؛ لأننا نعرف منذ الستينيات صناعة التجميع، وما زال عدد من المحظوظين يحتفظ بما أنتجته المصانع المصرية وقتذاك من سيارات قوية متينة.
وعند هذه المرحلة من التفكير بدأ أنفي — الذي درَّبته روائح الصحف القديمة — يرتعش من الانفعال.
إلا أن تطوُّرات علاقتي باللجنة لم تُتِح لي الفرصة كي أصِل إلى نتائج ذات بالٍ. وظلَّ الأمر في نظري — كما في نظر الآخرين — لغزًا يستعصي على الفهم.
تذكَّرت هذا كله وأنا أشق طريقي بين الركَّاب المتدافعين، فوق الدرج الخلفي للسيارة، متلمِّسًا عبثًا ما أستند إليه خلال عملية الصعود. وكانت أمامي سيدة ممتلئة الجسم، وقورة الهيئة، ارتقت الدرج بمشقة، وما إن استقرَّت في الداخل، وأنا خلفها، حتى تحرَّكت السيارة فجأة، ففقدنا توازننا.
مدَّت السيدة يدها تتعلَّق بأحد الأعمدة المعدِنية، لكن العمود مال تحت ثقلها، وأوشكت أن تقع على وجهها، فتشبَّثَت بي، بينما كنت مشغولًا بإخراج الأجرة التي جعل المحصِّل يطالب بها في إلحاح، وقد باعدت بين ساقَي، ملقيًا بكل ثقلي على قدمَي؛ لأتجنَّب السقوط.
استعادت السيدة توازنها فتقدَّمت إلى الأمام، وهي تتراقص برغمها بفعل حركة السيارة، واهتزاز أرضيتها التي تفكَّكت ألواحها، وانفصل بعضها عن بعض في أكثر من موضع.
ولأنني في الفترة الأخيرة — بحكم انشغالي — لم أغادر منزلي كثيرًا، ولم يُتَح لي أن أستخدم سيارات «طرطر» ولا مرة، فقد لحظت — على الفور — ما طرأ على مسلك رُكَّابها من تغيُّر.
ففي الأيام الأولى لتشغيلها كانت الحركة الراقصة التي تُحدثها تبعث الابتسامة الخجلى على وجوه الركَّاب جميعًا، من راقصين واقفين، ومتفرِّجين جالسين.
لكني تبيَّنت اليوم أنه بينما تضاعفت حدة الرقصة بفعل تخلخل بناء السيارة وتفكُّك حوائطها وأرضيتها، إلا أن بهجة الركَّاب بالأمر تلاشت تمامًا.
وتراءى لي أنهم مشغولون بأشياء أخرى؛ إذ كانوا يتطلَّعون ساهمين إلى الإعلانات التي زيَّنت الشوارع عن آخر المبتكرات العالمية في كل ميدان، وإلى السيارات الخاصة من أحدث الطُّرُز، المزوَّدة بأجهزة عديدة تحمي ركَّابها من الضجة والتلوُّث والحرارة والبرودة وعيون الآخرين، فتبدو أشبه بمدرَّعات صغيرة.
مضيت أنقُل البصر بين الوجوه الشاحبة المنهكة، متوقِّفًا عند كهل غارق في تأمُّلات غير سارة انعكست على ملامحه، وجارٍ له يدخِّن بعصبية، وشاب مكوي شعر الرأس تدلَّت من عنقه سلسلة ذهبية، وآخر قبضت يده في حرص على جواز سفر، وسيدة بنظارة واسعة الإطار بنفسجية اللون مثل فستانها، تحيط معصمها بساعة على شكل سفينة فضاء.
وكان يجلس إلى جوارها رجل مكتئب الوجه، يحمل في اعتزاز لفافةً تصاعدت منها رائحة السمك، جلبه في الغالب بسعر أرخص من أحد أركان المدينة. وخلفه أوشك رجل أنيق الثياب على النوم، رغم أنه تسلَّح بكافة المعدات العصرية، بدءًا من النظارة ذات العدستَين المدرجتي الدكنة، والساعة المزوَّدة بآلة حاسبة وتقويم سنوي ومنبه أوتوماتيكي، إلى الحقيبة «السامسونايت».
وتوقَّفت عيناي عند راكبتَين متجاورتَين تسربلتا — بُغية الانسحاب التام من عالمنا التعس — بثياب فضفاضة داكنة اللون، غطَّت جسدَيهما من الرأس إلى القدم، فيما عدا ثقبَين في موضع العينَين، فبدتا أقرب إلى بومتَين، أو اثنتَين من الكائنات الفضائية المرعبة.
قدَّرت أنهم جميعًا مستذَّلون مهانون، يتمتَّعون بقدرة فائقة على التحمُّل. واستغرقني التفكير في هذا الجانب من الظاهرة، فلم أنتبه إلى ما كان يجري بجانبي إلا عندما داست قدم على حذائي.
كنت أقف إلى جوار سيدة ممتلئة في أواسط العمر، أَوشك أن يلتصق بها من الخلف عملاق في قميص مفتوح الصدر، أرسل بصره عبر النافذة متظاهرًا بالشرود. وكانت السيدة دائبة الحركة في محاولة واضحة للابتعاد عنه، ممَّا جعلها تصطدم بي.
أفسحت لها قليلًا بقدر ما سمح الزحام. وتطلَّعت — كما فعل أغلب الواقفين من حولنا — إلى الفراغ الضئيل بين ساقه ومؤخِّرتها، فألفيته قد ثنى ركبته قليلًا إلى الأمام، على أُهبة التحرُّش بها. ولم أملك إلا أن رفعت إليه عينَي في استياء صريح.
وأُسارع فأقول إنني شخصيًّا من المغرمين بذلك الجزء البارز من جسد المرأة، بل ومن عُشَّاق هذه اللحظات المختلسة في الزحام. ووجهة نظري أن هذا السلوك الذي قد يستهجنه البعض ليس إلا بديلًا عربيًّا، نابعًا من واقعنا وشخصيتنا المستقلة للرقص الغربي، حيث يمارس الناس الأمر ذاته متواجهين.
لكن البديل القومي يؤدِّي وظائف متنوِّعة أكثر من مجرَّد تفريغ الرغبات المكبوتة؛ فهو طريقة ناجحة لمكافحة الملل الناشئ عن الزحام والتوقُّف المتكرِّر لفترات طويلة في الشوارع التي زحمتها السيارات الخاصة. كما أنه — لديَّ على الأقل — وسيلة هامة — مشحونة بالتوتُّر — من وسائل المعرفة.
فالمرأة تظل كائنًا مجهولًا محمَّلًا بعشرات التكهُّنات، خاصةً إذا ما حملت وجهًا مترفِّعًا معاديًا، إلى أن تكشف عن نفسها فجأة — ككتاب — إثر لمسة ساق خفيفة، معلنةً تواطؤها، أو رفضها.
على أني جعلت لنفسي قيدًا هامًّا على هذه الممارسة يمثِّل بالنسبة لي جوهر المتعة الناتجة، بالإضافة إلى أنه يتفق وأحد المبادئ الأخلاقية التي وضعتها لنفسي، وهو تجنُّب الإساءة إلى الآخرين؛ فاللمسة الأولى أو الثانية من ساقي لإحدى المؤخِّرات تكفي — في حالة شخص مدرَّب مثلي — لأن تُعيِّن لي ما إذا كانت المرأة تشاركني متعتي السرية، وإلا تلاشى اهتمامي بها وابتعدت عنها.
وهو ما أثار استنكاري في مسلك العملاق مع السيدة بعد أن أبدت أكثر من مرة — وبجلاء ووضوح تامَّين — نفورها من المشروع الذي عرضه عليها بلمسات متكرِّرة من ساقه.
ويبدو أنه كان يدين بمبادئ أخلاقية مغايرة؛ لأنه لم يعبأ بتأفُّفها ومحاولتها الابتعاد عنه، ولاحقها بلمساته؛ ممَّا دفعها لأن تحتج صراحة.
فقد استدارت إليه فجأةَ وقالت بصوت منفعل:«أرجوك أن تكف!»
بُهت، ثم انفجر فيها زاعقًا: «أكف عن ماذا يا امرأة؟!»
أجابته في حدة: «أنت تفهم ما أعني!»
ران الصمت على السيارة، وتحوَّلت إليهما أنظار الركَّاب وقد تراقصت في أغلبها ابتسامة تندُّر واستمتاع.
رفع الرجل يده وأهوى بها على وجهها في عنف وهو يصيح: «يا فاجرة!»
انكفأت المرأة فوق الجالس بجوارها وهي تضع يدها على خدها، وانفجرت باكية. ولم يحرِّك أحد من الركَّاب ساكنًا.
خاطبهم العملاق دون أن يقصد بكلامه شخصًا بالتحديد: «لم يبقَ إلا هذا!»
لم يكُن من عادتي أن أعرض نفسي لمواقف لا ترتفع إمكانياتي البدنية المحدودة إلى مستوى مواجهتها، لكني كنت أغلي منذ الصباح، بعد أن عجزت عن التفوُّه أمام اللجنة بما كنت أنتويه، ثم لم أجنِ فائدةً من خنوعي، ولم أملك شيئًا لبائع «الكوكاكولا» الذي سرقني، كما أن الزحام والحر أخذا يضغطان على أعصابي. وباختصار بلغ السيل الزُّبى.
ولا أستبعد أن أكون استمدَّيت بعض الشجاعة من مواجهتي لشخص واحد لا لجنة، ومن تصوُّري أن كافة الركَّاب — الذين يعرفون جيدًا حقيقة ما حدث، وتابعوا الأمر كله من بدايته — سيقفون إلى جانبي، انطلاقًا من اعتبارات دينية أو أخلاقية تستنكر المسلك الجنسي للعملاق، أو اعتداءه بالضرب على امرأة عزلاء، أو تنتصف للحقيقة وحسب.
هكذا ألفيتني أُخاطب العملاق على غير انتظار: «السيدة لم تدعُ عليك.»
حدَّق فيَّ غير مصدِّق، وتساءل بلهجة تهديدية: «ماذا تقصد؟»
قلت بثبات: «لقد رأيتك وأنت تلزق بها. ولمَّا كانت قد رفضت الاستجابة لك، كان المفروض أن تتركها وشأنها.»
زعق: «كاذب! ولا أستبعد أن تكون متواطئًا معها في شيء.»
أبدى البعض اهتمامًا مفاجئًا بشيء ما في الطريق، واستدار آخرون بحيث أعطوني ظهورهم. ولم ينتظر غريمي حتى يُبدي غيرهم رأيه، فقرَّر أن يحسم الأمر على وجه السرعة، ووجَّه إليَّ لكمةً صاعقة، أصابتني في وجهي وألقت بي فوق رءوس الجالسين.
وقبل أن أُفيق من أثر اللكمة التي رجَّت رأسي رجًّا، وجعلَت الدنيا تتراقص أمام عينَي، جذبني من ذراعي، ثم دفعني من جديد، فارتطمت كتفي بأحد الأعمدة المعدِنية، وفقدت توازني. رأيتني أهوي على وجهي، فمددت يدي اليسرى أمامي حتى لمست الأرض، وسقطت بكل ثقلي فوقها.
شعرت بألم حاد في ذراعي، وكان العملاق قد اندفع في أثري، والسباب الموجه لأبوَي ينهال من فمه، لكن اثنَين من الركَّاب اعترضاه، وجعل أكثر من واحد يُطيِّب خاطره ويدعوه للهدوء، كأنما أنا الذي اعتديت عليه.
وسمعت أحدهم يقول له: «روق بالك. لبؤة ولوطي، والاثنان أغرتهما فحولتك فتحرَّشا بك، فلماذا تعكِّر دمك؟»
توقَّف الأوتوبيس في هذه الأثناء، فأعانني راكب على الوقوف ودفعني نحو الباب قائلًا: «أقصر عن الشر وانزل.»
غادرت السيارة بلا وعي، ووقفت في الطريق أتأمَّل ملابسي المنكوشة، وعندما حاولت تسويتها نبهني الألم المنبعث من ذراعي إلى الوضع الغريب الذي استقرَّ عليه، ملويًا إلى الخلف عند المرفق، وقد برزت عظام مفصله.
انطلقت أبحث عن مستشفًى قريب يمكن أن ألتمس في عيادته الخارجية علاجًا بقروش قليلة. ووجدت واحدًا لكني لم أعثر على الطبيب الأخصائي. انتظرته طويلًا حتى مَلِلت، ولولا الألم الذي كان يخترق ذراعي عند أقل حركة لانصرفت إلى منزلي دون أن أعبأ بوضعه الغريب.
وبعد حوالي الساعة اقترب مني ممرِّض، وأسَرَّ إليَّ أن الطبيب لن يأتي ما دام قد تأخَّر إلى هذا الوقت، وأنه الآن في عيادته الخاصة القريبة، إذا كنت في حاجة ماسة إليه.
دفعت له ثمن نصيحته، وذهبت من فوري إلى عيادة الطبيب. وبعد أن دفعت خمسة جنيهات عند المدخل، استقبلني في غرفة وثيرة، مُكيَّفة الهواء، تتردَّد في جنباتها موسيقى أوروبية خفيفة.
هوَّن عليَّ الطبيب الأمر بعد أن فحصني بعناية قائلًا: إن المفصل انتقل من مكانه عند المرفق، وإنه ليس ثمة خطورة بالمرة. وبضغطة قوية من يده، آلمتني، أعاد الساعد إلى مكانه، ثم كتب لي بعض المسكنات.
انصرفت إلى منزلي، فارتقيت طوابقه السبعة في إعياء، والتجأت إلى فراشي مباشرة، فاستسلمت لنومٍ عميق، أفقت منه على آلام ذراعي. تناولت بعض المسكِّنات دون جدوى. لم يكن الألم شديدًا، لكنه كان ثابتًا. وكانت أمامي كثير من المهام العاجلة التي تستلزم تركيزًا فائقًا، فضلًا عن ضيق الوقت المتاح لي؛ ولهذا اضطُررت — عندما استمرَّ الألم في اليوم التالي وعاقني عن التفكير — أن أذهب إلى الطبيب مرةً أخرى.
فوجئت بالممرِّض الذي يتولَّى استقبال الزبائن يطالبني بأن أدفع جنيهًا، فقلت: «لقد دفعت أمس خمسة جنيهات كاملة.»
قال: «أعرف. تلك كانت أجرة الكشف، وما أطلبه منك هو رسم الاستشارة.»
قلت مُتعجِّبًا: «هذه أول مرة أسمع فيها أن الاستشارة بنقود!»
لم يُعنَ بالرد عليَّ واكتفى بأن أشار بإصبعه دون أن يحرِّك رأسه إلى لوحة فوقه على الحائط.
كانت اللوحة — التي لم أنتبه لها من قبل — تعلن أن للمريض الحق في زيارة واحدة للطبيب خلال أسبوع من الكشف ومقابل جنيه.
قلت بانفعال: «لكن هذا هو الاستغلال بعينه!»
لم يُعنَ بمناقشتي وإنما قال ببرود: «هذا هو نظامنا وأنت حر.»
تابع الجالسون من مرضى ومرافقين لهم حوارنا في صمت، ووجوه جامدة لا تشي بحقيقة تفكيرها. وسواء خجلت من أن أُبدي أمامهم هذا الاهتمام البالغ بمبلغ تافه — في نظرهم على الأقل — مثل الجنيه، أو كان ألم ذراعي هو السبب، فإني دفعت المطلوب في النهاية صاغرًا.
وبحكم أن زيارتي للاستشارة وليست للكشف؛ فقد حلَّ دوري سريعًا، ودلفت إلى خنِّ الطبيب، ثم جلست فوق المقعد المجاور لمكتبه. ولحظت على الفور شحوب وجهه، واللمعان الغريب الذي كسا بشرته.
باغتني بالقول: «إذن فأنا في رأي حضرتك مستغل؟»
عجبت للوسيلة التي عرف بها ما دار بيني وبين معاونه، وتسارعت دقات قلبي على الفور، لكني لم أتراجع وأجبت: «هل لديك وصف آخر لِمَا تفعل؟»
قال: «كنت أعتقد أني أؤدِّي عملًا إنسانيًّا.»
قلت: «اسمع يا دكتور، لقد تقاضيتَ مني خمسة جنيهات كاملةً على خدمة لا تكلِّف غير قروش معدودة بالمستشفى الحكومي حيث مكانك الطبيعي؛ فأين الإنسانية في ذلك؟»
قال متبسِّطًا: «عيادة كهذه تتكلَّف كثيرًا، كما أنه لا يوجد مستشفًى واحد يمكن الاطمئنان إلى خدماته.»
قلت في انفعال: «أنت وأمثالك الذين خرَّبتم المستشفيات الحكومية لصالح دكاكينكم الخاصة. لقد تآمرتم لتنهبوا من يسوقه حظه العاثر إليكم.»
شدَّ قامته وقال في ترفُّع: «من حقي أن أحدِّد أجر الخدمة التي أقدِّمها حسبما يتراءى لي.»
قلت: «وأنا واحد ممن يحق لهم أن يحصلوا مجانًا على خدمات سيادتك.»
رفع حاجبيه في دهشة: «كيف؟!»
مِلت على المكتب وقلت وأنا أُلوِّح بذراعي السليمة في إشارة شملته كما شملت أثاث الغرفة وأجهزة التكييف والموسيقى والتطبيب: «هذا كله لم يتحقَّق بفضل عبقريتك الفذة؛ فأنت وأمثالك تستفيدون من مجموعة من الامتيازات المتوارثة التي سُلبت مني ومن غيري، ومن آبائي وأجدادي، وآباء غيري وأجدادهم على مر الزمن. وبالإضافة إلى ذلك فأنت من الجيل الذي تعلَّم مجانًا على حسابي وحساب غيري.»
نهض واقفًا وهو يرتعش من الانفعال: «كفى. لا أريد مناقشتك. أرجوك أن تغادر عيادتي فورًا؛ فأمثالك لا حق لهم في خدماتي.»
ضغط بيدَيه جرسًا مثبتًا إلى مكتبه فقلت: «إني أعترف بأني أخطأت في المجيء إليك، وحالما ترد إليَّ الجنيه الذي دفعته اليوم سأذهب.»
قال بترفُّع: «إن وقتي ثمين، وقد ضيَّعت جزءًا كبيرًا منه؛ ولهذا فليس لك شيء عندي. وإذا لم تذهب الآن فسأطلب من الممرِّض أن يُلقي بك إلى الشارع.»
كان الممرِّض الذي ظهر عند الباب طويلًا عريضًا متين البناء، وخفت أن يتكرَّر معي حادث الأوتوبيس؛ فنهضت واقفًا في تثاقل وأنا أقول: «سأذهب، لكني سأعرف كيف آخذ حقي؛ فما زال هناك شرطة وقضاء.»
لم أكن أعني ذلك بالطبع، لكنها كانت صيغةً لحفظ ماء الوجه، أعانتني على مواجهة نظرات الاستهجان التي استقبلني بها المنتظرون في الخارج، والإهانات التي شيَّعني بها الممرِّض حتى أصبحت في الطريق.
مشيت وأنا أغلي ولا أكاد أتبيَّن شيئًا ممَّا يحيط بي. ولم أنتبه إلى نفسي إلا عندما اصطدم أحد المارة بذراعي فآلمني؛ عندئذٍ اتخذت طريقي إلى منزلي وأنا أتلمَّس الخطى بصعوبة بين أكوام السلع المستوردة وصناديق «الكوكاكولا» التي شغلت الأرصفة، والأتربة والحفر والقاذورات التي لا يجد أحد الدافع لإزالتها أو حتى الشكوى من وجودها.
جعلت أنقُل البصر بين الناس التي زحمت الطرقات، مُقبلةً في حماس على الشراء وقزقزة اللب وسماع الأغاني. ولمت نفسي على أن رعبي من فكرة الألم قد عرَّضني لهذا الموقف المهين لدى الطبيب، بينما أن الأمر — بحكم المصير المقدَّر لي — لم يكن يتطلَّب كل هذا العناء.
اشتريت طعامًا يكفيني لعدة أيام، وقلتُ للبواب أن يبلِّغ كلَّ من يسأل عني بأني سافرت، ثم صعدت إلى مسكني.
كان ثمة أمور لا بد من الانتهاء منها سريعًا، وقد أقبلت على إنجازها رغم الآلام التي كان يسبِّبها تحريك ذراعي، فتصفَّحت أوراقي القديمة ورتَّبتها، وقضيت لحظات ممتعة — رغم ما شابها من أسًى — في مراجعة ما حقَّقتُه من إنجازات، وما أثارته من صدًى وتعليقات. وأعانتني الاستمارات الحكومية القديمة وبطاقات السفر والرسائل والإيصالات والفواتير على تتبُّع المسيرة التي قطعتها منذ وقفت على قدمَي.
وتوقَّفت عند صورة أبي، وتمثَّلت الترِكة المثقلة من الآلام والسلبيات والأوهام التي خلَّفها لي، والآمال التي علَّقها عليَّ، ولم يُسعفه الزمن ليشهد تحقُّقها. وحمدت الله أن هذا لم يحدث كي لا يرى مآلي.
وقضيت يومًا كاملًا أقلِّب في مجموعة من الصور لأشخاص عبروا طريق حياتي، ونساء ارتبطت بهن، أو علَّقت عليهن آمالي في مراحل مختلفة. وتمعَّنت في العوامل التي تكسَّرت عليها هذه الآمال، بحثًا — للمرة الأخيرة — عن مكمن الخطأ.
ومن الطبيعي أن يُثير هذا الاهتمام مشاعر معيَّنة، فلجأت إلى ما لديَّ من كتب إباحية، واستعنت بكلٍّ من خيالي وذكرياتي لأعيش لآخر مرة تلك اللحظات المتوتِّرة الرائعة التي تدب فيها الحياة في كل خلية من خلايا الجسد، وتصبح اللمسة لأي موضع منه مبعث رجفة ولذة متجدِّدتَين تُلِحان على التكرار.
وتفرَّغت في اليوم التالي لمفكِّراتي القديمة، وما دوَّنته بها في لحظات مفعمة بالمعاناة، والأمل، بدت في حينها كثيفة، وإن بدت الآن باهتة، رغم ما خلَّفته من شجن. وطالعتني على الصفحات التي بدأ لونها يتحوَّل إلى الصفرة، المشروعات الكبيرة التي خطَّطت لها بحماسٍ في حينها، والإحباطات المتوالية التي واجهتني.
وقابلتني سطور عديدة نقلتها في مناسبات مختلفة عن قراءاتي، يتحدَّث أغلبها عن الطريقة المُثْلى للحياة. ولبثت ساعات أحدِّق في هذه الأبيات لماياكوفسكي، التي قالها في الغالب قبل قليل من نهايته المأساوية:
ذكَّرني المصير الذي انتهى إليه قائلها بمأساتي، فاستعدت ما جرى لي من وقائع، منذ أعددت نفسي لأول مقابلة مع اللجنة. وتتبَّعت مراحل التجرِبة، وكيف فتحت عينَي — تمامًا — على الحقيقة الشاملة المرعبة، رغم أن ذلك تمَّ بعد فوات الوقت.
وعندما استعرضت تفاصيل المقابلة الأخيرة ندمت على تخاذلي، وعلى أني فقدت أمام جماعة اللجنة الذلاقة والجرأة اللتَين لازمتاني في تعاملي مع أشخاص منفردين مثل القصير وعملاق الأوتوبيس والطبيب.
شغلني تعليل هذه الظاهرة حتى رأيت بعد إمعان أن جذورها تضرب بعيدًا في الماضي، منذ أول امتحان خضته وعمري بضع سنوات، وكل مرة بعده وقفت عاريًا أمام الأعين الباردة اللامبالية لأشخاص ذوي بطش، ينتمون إلى عوالم مختلفة عن عالمي، وتجري حياة كلٍّ منهم في مدار مستقل لا يتوقَّف بأي شكل على نتيجة المواجهة القائمة بيني وبينهم، عكس الأمر بالنسبة لي.
تمنَّيت لو وقفت أمام أعضاء اللجنة من جديد لأُسمعهم كلمتي. وتخيَّلت نفسي أواجههم في ثقة، فمضيت أنتقي عباراتي في دقة وعناية. وجرفتني الرغبة، فقمت من فوري ووضعت شريطًا خاليًا في المسجلة، وأقمتها فوق المكتب، ثم وقفت أمامها كما لو كانت لجنة.
تردَّد صوتي قويًّا ثابتًا في الغرفة الخالية وأنا أقول: «لقد ارتكبت — منذ البداية — خطأً لا يُغتفر؛ فقد كان من واجبي لا أن أقف أمامكم، وإنما أن أقف ضدكم؛ ذلك أن كل مسعى نبيل على هذه الأرض يجب أن يتجه للقضاء عليكم.
وأسارع فأقول إني لست من السذاجة بحيث أتصوَّر أن هذا الهدف لو تحقَّق سيكون نهاية المطاف؛ إذ من طبيعة الأمور أن تحل مكانكم لجنة جديدة، ومهما كان حُسن نواياها وسلامة أهدافها، فلن يلبث الفساد أن يتطرَّق إليها، وتصبح عقبةً بعد أن كانت علامة، ويتحتَّم إزالتها بعد فترة من الوقت، طالت أم قصرت.
لكني تبيَّنت من استقرائي للتاريخ والحالات المماثلة أنه عن طريق هذه العملية بالذات، عملية التغيير والإحلال المتكرِّرة، ستفقد جماعتكم تدريجيًّا ما لها من سطوة، بينما ترتفع مقدرة أمثالي على مواجهتها والتصدي لها.
إلا أني للأسف لن أكون هنا عندما يحدث ذلك؛ بسبب المصير المقرَّر لي، والذي يعود في أحد جوانبه إلى طموحي الذي تجاوز إمكانياتي، وسعيي المهووس وراء المعرفة، وفي جانب آخر إلى تورُّطي في محاولة متهوِّرة — لكنها كانت حتمية — لتحدي لجنتكم في وقت ومكان غير مناسبَين. لكن ما يخفِّف من أسفي هو ثقتي بما سيحدث، مهما طال الوقت؛ فهو منطق التاريخ وسُنة الحياة.»
لم أبالغ في كلمتي، ولم يجرفني تيار الحديث أمام المسجِّلة؛ فالآن وأنا أتأمَّل كل شيء بعين متجرِّدة، وأحسب المكاسب والخسائر بنظرة شاملة، أجدني غير نادم على المصير الذي ينتظرني. وبالمقارنة مع مصائر آخرين — من جيلي على الأقل — لا يوجد ما يعيبه. ما يبعث على الأسف حقيقةً أن اليوم العظيم سيفوتني، لكن هذا نفسه لم يكُن ذا قيمة كبيرة، طالما أني موقن بمجيئه.
وإذ وصلت إلى هذه النتائج شعرت بصفاءٍ عقلي غريب، وامتلأ صدري بسكينة نادرًا ما عرفتها، ومرَّت بي لحظات من النشوة لم أعهدها إلا عندما أُصغي للموسيقى. وأردت أن يطول بي أمد هذه اللحظات حتى النهاية، فلجأت إلى ما لديَّ من تسجيلات موسيقية أعتزُّ بها، فقلَّبت بينها طويلًا، مستبعدًا ما يتميَّز منها بالألحان العذبة الرقيقة، كما لدى موتسارت وجريج، أو يغلِّفه الشجن كمؤلَّفات شوبرت وتشايكوفسكي. وعفَّت نفسي بالمِثل عن العوالم الساحرة لبرليوز وسكريايين، والتأمُّلية الرصينة لمالر وسيبيليوس.
وقع اختياري أخيرًا على أعمال سيزار فرانك، الذي يتحوَّل جلال الشك عنده إلى نعمة اليقين، وكارل أورف الذي يتفجَّر بالحيوية والصراع، وبيتهوفن الذي يتغنَّى بالانتصار والفرح بعد الألم، وشوستاكوفتش الذي يمزج كل هذا بالسخرية.
كان الظلام قد حلَّ، فوضعت تسجيلات هؤلاء المبدعين العِظام في متناول يدي، وأخذت مكاني المفضَّل خلف المكتب، عند الحائط الأخير لمسكني.
مضيت أُنصت للموسيقى التي تردَّدت نغماتها في جنبات الحجرة. وبقيت في مكاني، مطمئنًّا منتشيًا حتى انبلَج الفجر.
عندئذٍ رفعت ذراعي المصابة إلى فمي، وبدأت آكل نفسي.